للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هموم ثقافية

إشكالية زاوية النظر للديمقراطية

(٢)

بقلم: سامي محمد صالح الدلال

تحدث الكاتب في الحلقة الماضية عن التباين الذي يحدث في تفسيرالديمقراطية وتبني موقف منها بناءً على اختلاف زوايا النظر إليها من خلال

منظور كل من: الحكام، والأحزاب، والمنظور القبلي، ومن خلال منظور العامة

من الناس، ويواصل الكاتب في هذه الحلقة معالجة بقية الموضوع. ...

- البيان -

منظور الأبعاد:

هما بعدان: المكان والزمان.

إن مفهموم الديمقراطية في الاستغراق الزمني المحدد يتحول إلى مفاهيم متعددة

بحسب المكان، أي: بحسب البلدان والأقاليم والقارات، ففي جيلنا المعاصر

باعتباره بعداً زمنيّاً، فإن مفهوم الديمقراطية لدى الدول الغربية هو غير مفهومه

لدى دول العالم الثالث، كما أنه غير مفهومه لدى الدول التي تولدت من تفكك

الاتحاد السوفييتي السابق، وهناك أسباب عدة وراء اختلاف تلك المفاهيم، منها:

١- طبيعة التركيبة السكانية.

٢- تنوع واختلاف المراجع العقدية.

٣- تمايز الألوان الثقافية والتعبيرات الحضارية.

٤- تباين الأنظمة السياسية.

٥- اختلاف الطبيعة الجغرافية.

٦- مقدار استحضار المختزن التاريخي.

٧- بروز أو ضمور التفاوت الطبقي.

٨- مضمون المنحى الاقتصادي وهياكله.

٩- كيفية ممارسة وتطور العلاقات الاجتماعية.

١٠- حجم المشاركة الأممية، مع ملاحظة التنافس على الأدوار القيادية

والسيادة العالمية.

١١- تعدد الاجتهادت المجتمعية للتعبير عن الذات وممارسة النفوذ.

١٢- تنوع المشاعر النفسية والانفعالات العاطفية بحسب الريادة أو التبعية.

فلو نظرنا من خلال بعد زمني محدد وليكن جيلاً أو جيلين إلى خارطة بلدان

الكرة الأرضية الآخذة بالديمقراطية، لوجدنا أن ديمقراطية كل بلد منها تختلف عن

الأخرى، إما لتحقق جميع الأسباب السابقة فيها، أو لتحقق بعضها، مع ملاحظة ما

يمكن أن يتولد من أسباب أخرى ناشئة عن التداخل والتفاعل بين الأسباب السابقة.

ذلك من حيث منظور بعدي الزمان المحدد والمكان غير المحدد.

وأما في إطار بعدي المكان المحدد والزمان غير المحدد، فإننا لو أخذنا بقعة

مكانية واحدة مثلاً، بلداً من البلدان، فإننا عند التدقيق في استغراقه الزمني سنلاحظ

للديمقراطية فيه تطوراً تاريخيّاً مستمراً، وهو يصعد درجات سلم السنين ثم القرون، فمفهوم الديمقراطية الآن في بلد ما ليس هو مفهوم الديمقراطية نفسه في ذلك البلد

قبل قرن أو قرنين، وإن الانتقال من مفهوم الديمقراطية السابق إلى مفهوم

الديمقراطية اللاحق لم يتم دفعة واحدة، فهو خارج إطار تطور الطفرة، بل تم هذا

التطور تدريجيّاً، وهذا يعني أن مفاهيم ديمقراطية متتابعة قد مرت على ذاك

البلد.. وما ينطبق على بلد واحد ينطبق على باقي البلدان، كل بحسب ظروفه وأحواله، وهناك عدة أسباب تؤدي إلى تغير أو تطور المفهوم الديمقراطي في البلد الواحد عبر الزمن، منها:

١-التطورات الثقافية.

٢- التحولات الاجتماعية.

٣- التغيرات السياسية.

٤- المقدرات الاقتصادية.

٥- التأثرات بالوافدات الخارجية.

٦- الاستعدادات التعبوية، سواء أكانت نفسية أو مادية، انتشارية أو انكفائية.

٧- الممارسات الاحتكاكية، كالحروب مثلاً.

٨- طغيان الشعور بالتحدي الأممي.

٩- الاندفاع أو الانخذالات الحضارية.

١٠- التعرض للظروف الحادة كالأمراض الوبائية أو الكوارث الجيولوجية.

ومن خلال تلك المؤثرات يمكننا أن نتخيل طبيعة تطور مفهوم الديمقراطية من

منظور البعد الزمني غير المحدد.

فإذا نظرنا للمفهوم الديمقراطي من خلال البعدين المكاني غير المحدد والزماني

غير المحدد وفق العناصر التي ذكرتها وطبيعة التداخل الذي بينها، لاتضح أمامنا

حجم الفوضى الحياتية التي سيحياها البشر من خلال اندراج ترتيب شؤون حياتهم

على ذلك المفهوم المتغير والمتطور باستمرار.

ويمكننا أن نرصد عناصر رئيسة في تلك الزوبعة الفوضوية الناشئة من

الاحتكام للمفاهيم الديمقراطية، ومن أهمها:

١- انبتات المسيرة البشرية عن التوجيه الرباني.

٢- الاحتكام إلى منطلقات ذات طابع مصلحي لا يمكن الاتفاق عليها،

وبالتالي: الفشل في بلورة مرتكزات قيمية تستظل في فيئها معالم الاستقرار البشري.

٣- شيوع الفوضى الفكرية وذيوغ النظريات الكلامية وامتداد التحليلات

الفلسفية.

٤- (الغاية تبرر الوسيلة) سيكون الشعار الذي تحت ظله ترسم الخطط وتنفذ

البرامج.

٥- التناحر والتقاتل لفرض الهيمنة وإحكام السيطرة وإخضاع الخصوم:

نفوساً وممتلكات.

٦- تفاقم التفاوت الطبقي برعاية دستورية.

٧- بروز الثقافات الإلحادية المكتظة بالإسفافات العقدية والجنسية.

٨- استشراء التمزقات الاجتماعية، ومن أبرزها التفككات الأسرية.

٩- ظهور الجنوحات نحو إبراز الذات وممارسة الهيمنة.

١٠- انعدام ضوابط ممارسة الحرية بمفهومها السوي.

١١- التخلخل الاقتصادي الناجم عن التبدل المستمر بالنظريات والتطبيق.

١٢- استشراء الرذائل بسبب اختلاف النظرة لمفهوم الأخلاق، وبواعث القيم، ومدلولات الممارسات والتصرفات.

فإذا وضح لنا ذلك، علمنا مقدار الانحراف والخطر الذي وقع في مهاويه

بعض الإسلاميين، وهم يغذون السير في الطرق الديمقراطية.

ولعلنا من خلال منظور الأبعاد المذكورة نستطيع أن نمس الخسائر الفادحة

التالية المترتبة على انسياق بل انجراف الإسلاميين نحو المستنقع الديمقراطي:

١- التعبير العملي عن عدم إحاطتهم بكيفية استيعاب المنهاج الرباني

لمتطلبات البشرية عبر اختلاف المكان وتتابع الزمان.

٢- محاولة تبرير ذلك التعبير بأطروحات عقلية محضة تتلمس لتمريرها

مصطلحات أصولية تتعلق بالمفاسد والمصالح.

إن هناك خطورة إضافية تتعلق باستخدام هذا المنهج للوصول إلى ذلك التبرير، تلك الخطورة تكمن في توسيع (ترجيح) قد حصل لحالة معينة في مكان محدد

وزمان معين ليشمل مسيرة منهج كامل، فلو حصل في بلد ما، وبظروف معينة أن

رجح الإسلاميون خوض الانتخابات النيابية، (وهم مخطئون في ذلك من وجهة

نظري) ، فإن هذا الترجيح لايجوز توسيعه لتمرير الفكرة الديمقراطية وممارساتها

في العالم الإسلامي أجمع.

٣- إحلال المفاهيم الديمقراطية، بكافة ما تحتويه من سلبيات (ذكرت بعضها)

محل المفاهيم الإسلامية، أي: استبعاد الكتاب والسنة.

٤- وقوع الاختلاف والشقاق بين الإسلاميين الديمقراطيين أنفسهم، بسبب

طبيعة ما تحمله المفاهيم الديمقراطية من اختلافات إزاء النظر لكل حالة قائمة أو

طارئة.

٥- اندثار الثقافة الإسلامية وبروز الثقافة العلمانية باسم الديمقراطية.

٦- الولوج في الامتزاج الحضاري، فكراً وممارسة، مع مجتمعات الكفر

والإلحاد، وذلك من خلال القفز على الفواصل العقدية المؤصلة في الكتاب والسنة.

٧- الاحتكام إلى القوانين الوضعية البشرية، مما يترتب عليه أمران: أولهما: إلحاق الوصف الشرعي بفاعلي ذلك، وهو الكفر والظلم والفسق (كل بحسبه) .

وثانيهما: بلورة جميع مناحي الحياة في إطار صبغة تلك القوانين الوضعية، مما

يترتب عليه فوضى عقدية وأخلاقية وثقافية واقتصادية وأمنية تفوت جميع

الضرورات الخمس التي راعتها الشريعة من حفظ للدين والنفس والمال والنسل

والعقل.

٨- استحقاق هذه الأمة المحتكمة في شؤونها للمفاهيم الديمقراطية لغضب الله

(تعالى) ، مما يترتب عليه تسليط الأعداء عليها، وإلحاق الهزائم المنكرة بجيوشها

وعساكرها، ورفع البركة من أقواتها ونزع الأمن من قلوبها، قال (تعالى) :

[وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَاًتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ

بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] [النحل: ١١٢] .

وإن من أعظم النعم على هذه الأمة: كتاب ربها وسنة نبيها -صلى الله عليه وسلم-، وإن من الكفر بهما عدم الاحتكام إليهما، بل الاحتكام إلى غيرهما بدلاً عنهما،

وإننا لنرى بأم أعيننا كيف أن لباس الجوع والخوف لاحق بالمتحاكمين إلى

الديمقراطية.

٩- إن الإسلاميين (الديمقراطيين) يتحملون المسؤولية الشرعية أمام الله

(تعالى) ، ثم أمام الناس من الأجيال القادمة فيما جنته أيديهم من آثار ردم المفاهيم

الإسلامية بالتراب الديمقراطي، كم من الجهد وبذل الطاقة واستغراق الأوقات

ستحتاجه الأجيال الإسلامية القادمة حتى تتمكن من إزالة ذاك التراب الديمقراطي

عن المفاهيم الإسلامية الحقة لتظهر كما هي.. حقيقة زاهية بهية.

١٠- أن الإسلاميين (الديمقراطيين) ، بسلوكهم الديمقراطي يعبرون عن قدوة

غير مُرضية، سواء على مستوى جيلهم أو على مستوى الأجيال القادمة، إن الناس

يذكرون أعلام الهدى من أهل السنة والجماعة الذين لم يتنازلوا قيد أنملة عن الحق

المكلل بالدليل الشرعي من أمثال: أحمد بن حنبل، والعز بن عبد السلام، وابن

تيمية (تغمدهم الله برحمته) .. وغيرهم كثير من علماء الإسلام، يذكرونهم بالخير

والتزكية، ولايزكون على الله أحداً، ويدعون لهم برفع الدرجات ونيل المكرمات

في أعلى الجنات، لكن بماذا سيذكر مسلمو الأجيال القادمة أولئك الديمقراطيين

الإسلاميين الذين انساقوا في خضم تلك المجالس التي تخضع كتاب الله وسنة رسوله

للتصويت البشري ليُرى هل يأخذ بهما أو لا يأخذ.. نعم، لن تذكر الأجيال

الإسلامية القادمة الإسلاميين أصحاب المفاهيم الديمقراطية بالخير والدعاء لهم بما

تدعو به لعلماء الإسلام الذين صان الله بهم دينه وأعلى بالتزامهم كتابه وسنة نبيه

كلمة الإسلام خفاقة عالية.

١٢- إن الإسلاميين الديمقراطيين، بمؤلفاتهم ودراساتهم وكتبهم حول الأخذ

بالديمقراطية سيُدخلون شوائب عظيمة في المفاهيم الإسلامية لا تقِل خطورة عن تلك

الشوائب التي أحدثها إدخال علم الكلام وفلسفة اليونان في مناهج النظر وإعمال

الفكر في المفاهيم العقدية الإسلامية، تلك العلوم التي حرفت الفهم الصحيح للعقيدة

السلفية، عقيدة أهل السنة والجماعة.

١٣- إن استغراق الإسلاميين (الديمقراطيين) في حمأة المناهج الفكرية

والممارسات العملية للديمقراطية قد صرف أذهانهم ولفت قلوبهم عن الجهاد في

سبيل الله (تعالى) ، ذلك أن الحكم الديمقراطي وهو حكم بشري بحت قد خلع الالتزام

بشرع الله (تعالى) من رقبته، ومن جملة ذلك: الجهاد في سبيل الله، إن الجهاد في

سبيل الله (تعالى) حكم معطل تماماً في ظل المجالس النيابية وأحكام الديمقراطية.

١٤- إن احتكام الإسلاميين للديمقراطية وأخذهم بها يفرض عليهم لزوماً عدم

الاعتراض على كل ما يعرضه الملحدون والمرجفون والمنافقون من أفكار علمانية

وطروحات حداثية. إن أقصى ما يمكن أن يعترض به الإسلاميون في هذا المجال

هو قولهم: لا يجوز أن يقال كذا أو يقال كذا. فيرد عليهم الآخرون بقولهم: إننا في

دولة ديمقراطية تكفل الحريات والإدلاء بالآراء، فليقل كل منا ما يشاء، ولم لا؟ !

فالدستور يحمي الجميع.

وبعد.. فتلك بعض آثار انعكاس المفاهيم الديمقراطية وأبعادها المختلفة على

أفكار وتوجهات الإسلاميين وممارساتهم تلك الأفكار التي تتبدى خللاً في الفهم

العقدي وانحرافا في الممارسة والتوجه الدعوي.

فهلاّ انتبهنا إلى آفاق تعدد زوايا النظر إلى الديمقراطية وما ينتجه من

إشكاليات؟ ! ! .