للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

النفائس والعلمانية! !

في تحليل الانتخابات التركية

بقلم: د. عبد الله عمر سلطان

هناك مثل ألماني شهير يفرض نفسه فرضاً كلما تابعنا أحداث عالمنا الإسلامي

اليوم، هذا المثل يقول: (إننا لا نكتشف طباعنا إلا عندما نتكلم عن طباع الغير..) وحقّاً قد كشفت ردود الأفعال العالمية والعربية عن طبائع المتحدثين عشية إعلان

نتائج الانتخابات النيابية في تركيا.. لقد كانت انتخابات تركيا تجرى لعقود من

الزمن دون أن تثير في وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والدولية ذلك الاهتمام

المثير أو تلك الإثارة المهمة! ! ، أما وقد طرح الإسلام بديلاً لنظام علماني متهرئ، فإن مراسلي وكالات الأنباء و (ناسخيها) العرب، والحكومات العدوة والصديقة

أصبحت تترقب نتائج الانتخابات على أحر من الجمر؛ حيث (البهارات

الأصولية..) التي أصبحت تثير شهية الجميع، وتجعلهم مهتمين بمتابعة تفاصيل التفاصيل، وكسور النتائج وإخفاقات المعسكر العلماني ...

أعلنت النتائج، فإذا بحفيد الأمراء السلاجقة المهندس (نجم الدين أربكان) يجر

الجميع إلى عبق التاريخ ... ويجبر المنسلخين من تاريخهم وهويتهم ومجدهم على

الجلوس من جديد في رواق الباب العالي، ويدعوهم إلى تناول وجبة (روحية) عبر

تلال (إسلامبول (التي كانت تعطس فتصاب عوالم أوروبا بالقشعريرة ... ! ! سقى

او تلك الأزمنة التي كانت الأرزاق فيها تحت ظلال الرماح، فها هو الزمان يدور

دورته فتجري أنقرة إلى أوروبا طالبة منها تذكرة دخول نادي أوروبا العلمانية،

فتصاب أوروبا بحالة من الصراحة والوضوح -هي غريبة عنها حتماً- لتقول: إن

العلمنة طبقة قطيفة فاخرة؛ لا بد أن تركيا تدرك أن وراءها روحاً صليبية تحتفل

الآن بمرور تسعه قرون على بدء حملتها المضادة تجاه الشرق المسلم ... !

إذن: هذه الانتخابات الأخيرة استطاعت أن تمزج العوامل العقدية بالعُقد

التاريخية، وأن تعري المعطيات الجمالية الدولية تجاه المنطقة الإسلامية، وأن

تشابك بين الردود والتصريحات (الأصيلة) القادمة من عوالم الغرب بتلك المتمثلة

(برجع الصدى) الغربي العلماني الهوى ...

كانت الانتخابات التي أظهرت -كما يقول المثل الألماني (طباع القوم) - وإن

اختلفت ألسنتهم حينما يمسون تلك الكلمة/العقدة ... ) الإسلام) .

العامل الدولي.. (وإسرائيل) :

لأول مرة تتدخل أوروبا وأمريكا مباشرة في انتخابات أناضولية ... لم تعد

تدري كما قال (كمال نوظلو) لمراسل التلفزيون الفرنسي: (هل الحملة هي لانتخاب

(شيراك) أم (تشيلر) ... ؟ وكان يسخر من تلك اللوحة الهائلة التي استخدمتها رئيسة

الوزراء التركية في حملتها، ولترسيخ (أوربة) الملف التركي.. كان رئيس فرنسا

(جاك شيراك) يقبل رئيسة الوزراء التركية للتأكيد على أهمية المرشحه العلمانية

أوروبياً ... ، لقد عمل (شيراك) بالفعل على دعم المعسكر العلماني بصورة قوية،

فقد قاد الاتصالات والضغوط التي أدت إلى قبول تركيا ضمن أعضائه المتمتعين

بمزايا اتفاقية الإعفاء الجمركي، التي ثبت أنها لم تكن لتمر لولا أن فرص (حزب

الرفاه) في الفوز كان يتوقع أن تكون كبيرة.

دعونا نتأمل هذا الاتفاق وظروفه في هذا التقرير:

(يعتبر قرار البرلمان الأوروبي الخاص بالتصديق على دخول تركيا الوحدة

الجمركية مع الاتحاد الأوروبي -الذي اتخذ يوم ١٣ ديسمبر (الماضي) قبل

الانتخابات البرلمانية التركية بـ ١١ يوماً- نصراً سياسيّاً كبيراً (لتشيلر) رئيسة

الوزراء التركية، إذ إنها بذلك تكون قد حققت حلماً تاريخياً تُركياً بعد نضال دام ٣٠

عاماً، على أمل أن تحصل تركيا على العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي عام

٢٠٠٠م وفقاً لتصريحات (تشيلر) .

إلا أنه بقراءة ذلك النص في ظل المعطيات السياسية الداخلية والخارجية،

وفي إطار الشروط المفروضة لقبول عضوية تركيا، مع الأخذ في الاعتبار الثوابت

السياسية التركية، فإن النتيجة النهائية تشير إلى أنه نصر فارغ المحتوى، استهدف

دعم (تشيلر) في حملتها الانتخابية أولاً وإركاع تركيا ثانياً.

فالرفض الأوروبي السابق لدخول تركيا استند إلى مبررات لم تزل قائمة رغم

محاولات التجميل بمكياج رخيص؛ فسجِلّ تركيا الخاص بحقوق الإنسان لم يزل

سيئاً -وفقاً لرؤية منظمات حقوق الإنسان- وإن كان أفضل بكثير من دول أخرى

في المنطقة، والمادة الثامنة في قانون مكافحة الإرهاب هي نفسها، رغم تغيير

بعض كلماتها تلبية لرغبة الغرب، والنواب السابقون لحزب العمل الديمقراطي

(أكراد) ما زالوا يقضون عقوبات بالحبس، ولا يعني الإفراج عن قلة منهم سراً

محاولة لترطيب بشرة تركيا في مواجهة حرارة القضية الكردية، بل إن

الإصلاحات الديمقراطية لم تلب الطلبات الأوروبية.

والسؤال المهم الذي يحتاج إلى إجابة، هو: لماذا تم قبولها إذن؟ .. بقراءة

متأنية لشريط الأحداث نجد أن (تشيلر) أعلنت -سواء في لقاءاتها مع القادة

الأوروبيين أو في تصريحاتها الصحفية- أنها إذا لم تنجح وتستمر في حكم تركيا،

فإن الإسلاميين سيحكمون تركيا ويهددون المصالح الغربية ويُخلّون بالتوازن

الإقليمي والدولي.. ولذلك: فإنه يجب الإسراع (بأوربة تركيا (لقطع الطريق على

حزب (الرفاه الإسلامي (، خاصة وأن الرأي العام التركي أصبح في حالة غضب

من الرفض الأوروبي.

وبالطبع أكدت تقارير الاستخبارات واستطلاعات الرأي العام أقوال (تشيلر) ،

لذلك: ضغط الرئيس الأمريكي (بيل كلينتون) من ناحيته لقبول تركيا، كما بذل

(شيمون بيريز) رئيس الوزراء الإسرائيلي جهوداً أيضاً في هذا الإطار، من خلال

الرسائل التي بعث بها إلى كل من رئيس الوزراء الأسباني -بصفته الرئيس الحالي

للاتحاد الأوروبي وزعيم الحزب الاشتراكي-، وإلى رئيس حزب العمال البريطاني

يطالبهما بدعم الطلب التركي مشيراً إلى أن ذلك حماية للمصالح الغربية، وضمان

للاستقرار في المنطقة، وتقوية للنظام العلماني الذي يقوم بدور مهم في مواجهة

الأصولية الإسلامية.

ولما كانت الانتخابات البرلمانية على الأبواب وسط إخفاقات داخلية كبرى

تتحمل مسؤوليتها (تشيلر) مقابل نجاحات لم ينكرها أحد من الخاصة أو العامة حققها

(حزب الرفاه) من خلال البلديات الكبرى التي يتولاها منذ مارس ١٩٩٤م ... كان

لا مفر من دعم (تشيلر) ، التي أشارت الاستطلاعات إلى تراجع حزبها للمركز

الرابع، بينما يحتل (الرفاه) المركز الأول، وذلك بتقديم نصر سياسي تاريخي لم

يحققه أحد من رؤساء وزراء تركيا، بهدف توظيفه في الحملة الانتخابية، وهو ما

حدث بالفعل.

إلا أن ذلك الأمر لا يعني عدم استفادة أوروبا، إذ يرى كل من (مسعود يلماظ)

زعيم (الوطن الأم) و (بولنت أجاويد) زعيم (اليسار الديمقراطي) وهما من مؤيدي

الوحدة الجمركية: أن شروط الوحدة مجحفة على الصعيدين السياسي والاقتصادي،

إذ تم تقديم تنازلات في ملف القضية القبرصية، كما أن مبلغ المليارات الثلاثة

المخصصة لتركيا يعتبر قليلاً جدّاً بعد إزالة الحواجز الجمركية.. ويريان أن تركيا

تنازلت كثيراً لأوروبا التي ستضغط أكثر، وهو ما اتضح من طلب البرلمان

الأوروبي أن تجلس تركيا مع حزب العمال الكردي الانفصالي، الذي تصفه

الحكومة والحكومات الأوروبية بالإرهاب، ومع ممثلي الشعب الكردي لحل المشكلة

الكردية بالطرق السياسية.

وبالتالي: يكون الغرب قد حقق أهدافه كاملة دون أن يقدم شيئاً يذكر لتركيا

الدولة؛ إذ إنها بذلك دخلت القفص الحديدي لفرض ما يريده الغرب عليها، ويكفي

أن يكون حل القضية الكردية قد جاء من الغرب، رغم أن هناك الكثير من

الأصوات التركية المخلصة طالما نادت بإيجاد حل سياسي للمشكلة، مما يعني أن

الحل الخارجي لن يساهم مطلقاً في ترطيب العلاقات بين الأتراك والأكراد؛ لأنه

ليس نابعاً من القلب ... ) .

إذن: كان هناك دعم خارجي واضح وقوي للأحزاب العلمانية -لا سيما حزب

(تشيلر) - قبل الانتخابات وبعدها، وقد اتضح ذلك أكثر بعد دخول حكومة

الصهاينة على الخط، حيث عبرت (تل أبيب) على لسان سفيرها عن قلقها من فوز

(أربكان) وحزبه، كما نشرت تقارير متعددة عن مشاورات ونصائح تقدمت بها

حكومة (بيريز) لحل الإشكال بين الأخوة والأخوات في العلمنة، ويتمثل في إنشاء

حكومة ترأسها (تشيلر) لنصف الوقت و (يلماز) لنصف الوقت الآخر، كما فعل

(رابين) و (شامير) من قبل.

ويمكن من خلال استعراض الصحافة ووسائل الإعلام الغربية استنباط خطوط

عريضة تحكم النظرة الغربية للوضع في تركيا، وأهمها:

* أن تركيا لا تزال بعيدة عن أن تحكم بالإسلام؛ فهناك سياسة متفق عليها

تسمى سياسة الصمامات المتعددة التي تكفل إبقاء تركيا في الطابور الغربي، ويمثل

دعم السياسيين العلمانيين والقوانين اللادينية والثقافة المعادية للإسلام الصمام

(الديموقراطي) الأول، بينما يشكل الجيش التركي المعروف بِهَوَسِهِ العلماني خط

الدفاع الثاني ثم يأتي بعد ذلك خط الدفاع الثالث المتمثل في التفتيت الداخلي لتركيا

في حالة اقترابها من تكوين دولة إسلامية موحدة.. وذلك عبر الأقليات والقوميات

المتعددة التي طالما أتقن الغرب عبر التاريخ توجيهها في سبيل تمرير مشروعه

التغريبي.

* أن العلمانية لا تزال قوية ومؤثرة وغنية، فعلى الرغم من تصويت ٢١%

من السكان لصالح (الرفاه) ، فإن أكثرية السكان لا تزال تمنح أصواتها للأحزاب

العلمانية، وهذا يعني أن (بني علمان يسيطرون على الميدان) ! ! .

* أن على الأحزاب العلمانية كما تقول صحيفة (وول ستريت جرنال) أن

تتحد، أو بعبارتها: إن غياب الخطر الإسلامي المباشر (لا يشكل مبرراً لعدم

الاكتراث بتنامي قوة حزب (الرفاه) ، فقد أعلنت كافة الأحزاب العلمانية ردّاً على

حصوله على أكبر عدد من الأصوات: أنها سترفض الدخول في ائتلاف معه

لتشكيل الحكومة الجديدة، وفي هذه الحالة: فإن كلاّ من حزب (الطريق القويم)

وحزب (الوطن الأم) اللذين حصلا مجتمعين على مئتين وسبعة وستين مقعداً في

البرلمان، سيكونان بحاجة لتأييد: إما الحزب الديمقراطي اليساري (٦٧ مقعداً) ، أو

حزب الشعب الجمهوري (٤٩ مقعداً) من أجل تشكيل الحكومة، وليس من شأن ذلك

سوى إبعاد حزب (الرفاه) عن الحكم لعدة سنوات أخرى، إذا فشل أي ائتلاف

علماني آخر في تحقيق الإصلاحات الاقتصادية التي تحتاجها تركيا بإلحاح.

فالمطلوب هو دمج سريع لحزبي (الوطن الأم) و (الطريق القويم) في حزب

علماني واحد ذي اتجاه يميني وسط، ويجب أن تكون في تركيا حكومة قوية

ومستقرة من أجل تحويل المؤسسات العامة إلى القطاع الخاص، وإعادة هيكلة نظام

الأمن الاجتماعي الذي يعاني من (الإفلاس) ، وكذلك: إصلاح سياسات الدعم

الزراعي، وإذا لم تقم مثل هذه الحكومة في تركيا، فإن الطريق سيكون مفتوحاً أمام

حزب الرفاه لتولي السلطة بمفرده، ودون الحاجة إلى الائتلاف مع أحزاب أخرى،

قبل نهاية العقد الحالي) .

* أن الأحزاب العلمانية تترهل، وهي فاسدة عموماً، وقد سجلت الحكومة

السابقة مؤشرات انحدار خطيرة، حيث زاد العجز في الميزانية، وانخفضت قيمة

الليرة التركية بنسبة ١٣٠% في الربع الأول فقط من عام ١٩٩٤م، (ولسبع سنوات

مضت يعاني الاقتصاد التركي تضخماً شديداً حتى بلغ حالياً ٧٠%، وقد بلغ قبل

ذلك ١٥٠%، لكن إجراءات التقشف التي اتبعتها (تشيلر) قد أنزلته إلى النسبة

الأولى، ويكفي أن نعرف أن الدولار الأمريكي كان -لسبع سنوات مضت- يعادل

٤٤ ليرة تركية، أما حالياً فقد قفز عن الـ ٥٧ ليرة.

ارتفعت ديون تركيا الخارجية منذ عام ١٩٩١م وحتى الآن من ٥٠٧٥ مليار

دولار، كما ارتفعت ديونها الداخلية من ٨ - ٢٦ مليار دولار. والمشكلة ليست في

الديون فقط، فكما هو معروف فإن الأطراف الدائنة تعيش على فوائد الديون، وهي

نسبة عالية. وهكذا: فإن الميزانية الحكومية والمؤسسات غير الحكومية تُستنزف

سنويّاً بدفع فوائد الديون بالإضافة إلى أقساط الديون المستحقة، الأمر الذي أثقل

كاهل الاقتصاد التركي خلال السنوات الأربع التي مضت، وهي سنوات الانقلاب

في تصويت الجماهير التركية، أي: إنها سنوات البحث عن حزب وأيديولوجية

تختلف عن أيديولوجية العلمانيين) .

* في المقابل تجُمِع التقارير الدبلوماسية والصحفية والإعلامية على كفاءة

(حزب الرفاه (التي تصفه صحيفة (وول ستريت جرنال) بأنه القوى المؤهلة لملء

فراغ الفساد القائم، وتقول: (لقد تسارع بروز (حزب الرفاه) الإسلامي كقوة سياسية

لها ثقلها في السنوات الأخيرة، مع تراجع الأوضاع الاقتصادية في ظل الحكومة

التي هيمن عليها كل من حزب (الوطن الأم) وحزب (الطريق القويم) .

لقد فاجأ (حزب الرفاه) المؤسسة التركية بتحقيق الانتصار في الانتخابات

المحلية في شهر مارس ١٩٩٤م عندما تولى (حزب الرفاه) رئاسة بلديتي (أنقرة

واستانبول) وعدد آخر من المدن الرئيسة، بالإضافة إلى حصوله على ١٩ بالمئة

من إجمالي الأصوات، لقد أثبت (حزب الرفاه) قدرته وأمانته في ممارسة الحكم

المحلي عن طريق العمل الجاد (دون دعم كبير من حكومة حزب الطريق القويم) ؛

لحل مشكلات المناطق الريفية التي تتجاهلها الحكومات المتعاقبة منذ زمن طويل.

لقد نجح (حزب الرفاه) من خلال الحملة الانتخابية المنظمة على النمط الأميركي في

انتخابات ديسمبر الماضي، لا سيما في المناطق الريفية الفقيرة؛ حيث وجدت هذه

الحملة صداها في ظل السياسات الاقتصادية غير الموفقة لحكومة (تشيلر) . وأصبح

الحزب الأقوى المرشح لتشكيل الحكومة الجديدة. لقد استطاع (حزب الرفاه)

استغلال مشاعر الاستياء في أوساط الشعب التركي من ارتفاع نسبة التضخم،

والبطالة، وانخفاض قيمة العملة الوطنية بسرعة، والفساد، واتساع الفجوة بين

الأغنياء والفقراء، والثورة الكردية المستمرة منذ أحد عشر عاماً في جنوب شرقي

البلاد.

ونتيجة لذلك: لم يعر الأتراك اهتماماً عندما خرجت (تشيلر) في حملاتها

الانتخابية لتعرض نفسها بأنها: (قاهرة الاتحاد الأوروبي) وباعتبارها أناتورك (أم

الأتراك) تشبهاً بكمال أتاتورك (أبو الأتراك) .

إذن: ليس هناك (هلع غربي) إلى الآن، ولكن هناك (تهيئة) لخطوات لاحقة

من صعود المد الإسلامي في تركيا.