للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من قضايا المنهج

الفاعلية.. طريق الحضارة

محمد محمد بدري

الإنسان في أي أمة هو أساس الحضارة، وصعود حضارة أو هبوطها دائماً ما

يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى فاعلية الإنسان، فإذا اتسم سلوك الإنسان في أي أمة

بالفاعلية، كان النهوض الحضاري لهذه الأمة.. أما إذا انعدمت فاعلية الإنسان،

وتوارى جهده فإن مستقبل هذه الأمة لا يحمل لها إلا التخلف والانحطاط الحضاري.

ولقد كان (الإنسان) في الأمة الإسلامية هو مدار الحركة الحضارية، وتمثل

حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام والأجيال الأولى من

المسلمين هذه الحقيقة تمثيلاً واضحاً.

وإذن: فقد كان الإنسان حاضراً ومؤثراً في بناء الحضارة الإسلامية.. وإلا

(فمن الذي دخل في الصراع مع الشرك حتى قضى عليه؟ ، من الذي نشر الإسلام

وما جاء به من الهداية والحق والعدل والخير؟ ، دماء مَنْ جرت في سبيل إنقاذ

الإنسان المسحوق من عبادة العباد وهدايته إلى عبادة الله وحده؟ ، من الذي ترجم

نتاج الحضارات الأخرى، واستخرج منها حضارة مستقلة بصبغة إسلامية؟ ..

ألم يفعل كل ذلك وغير ذلك (الإنسان) المسلم الذي كرمه الإسلام وأعاد إليه

حقيقته الإنسانية في الواقع والحياة بعد أن كان مستلباً، عبداً للشركاء والأنداد) [١] .

لقد فهم الصحابة (رضوان الله عليهم) والأجيال الأولى من المسلمين: أن

منهاج الله الذي أنزله على رسوله _صلى الله عليه وسلم-، هو منهاج للحياة

البشرية (يتم تحقيقه في حياة البشر أنفسهم في حدود طاقتهم البشرية، وفي حدود

الواقع المادي للحياة الإنسانية في كل بيئة، ويبدأ العمل من النقطة التي يكون البشر

عندها، حينما يتسلم مقاليدهم، ويسير بهم إلى نهاية الطريق في حدود طاقتهم

البشرية، وبقدر ما يبذلونه من هذه الطاقة [٢] وليس بطريقة خارقة غامضة

الأسباب! !

ومن هنا: كانت حركة المسلمين الأوائل في سبيل بناء الأمة الإسلامية

والحضارة الإسلامية تقوم على أساس أن العمل وحده هو الذي يخط مصير الأمة في

واقع الحياة، وأن عرق الأحياء في عمل جماعي مشترك هو الذي يتكفل ببناء

حضارة هذه الأمة، وأن وجود الحق في الأمة وحتى الانتساب إليه لا يكفي في

التمكين له في الأرض، إلا أن يكون من يحمل هذا الحق (يعمل) من أجل تمكينه

ونصرته.

(وانطلاقا من هذه المقدمة الموجزة، نصل إلى تحديد معلم مهم من معالم

الأزمة التي تمر بها اليوم عقلية كثير من المسلمين، هذه العقلية التي غدت طافحة

بالأفكار النظرية المجردة، ولكنها ما تزال على الرغم من ذلك عاجزة عن وضع

هذه الأفكار موضع التنفيذ العملي، أو هي ما تزال مقصرة في تسخير الأفكار

بطريقة واقعية، تجعلها على أكبر قدر من الفاعلية.. في حين أن أصول هذه

الأفكار نفسها قد نهضت في زمن بأمتنا بل وبالجنس البشري كله نهضة تفوق

الخيال) [٣] .

إن المسلمين يمتلكون نظرية صحيحة ومنهجاً متكاملاً، منّ الله به عليهم يوم

أكمل لهم الدين وأتم عليهم نعمته، ولكنهم في واقع الحياة يعانون من الاستلاب

الحضاري وانطفاء الفاعلية.. ولذلك؛ فإنهم يزحفون وراء غبار الركب البشري مع

الزاحفين المنقطعين..

إن الأفكار تبقى (ميّتة) حتى لو كانت صادقة وصحيحة حين لا تكون ذات

(فاعلية) في إطار زمني محدد، والأشياء تصبح باهتة ومجرد أكداس إذا لم تكن

متأتية عن حركة الحضارة ومتسقة مع وظيفتها، والأشخاص يتحولون إلى البداوة

وعدم التحضر عند فقدهم للروابط التي تفسر اجتماعهم وعملهم المشترك في سبيل

أهدافهم الحضارية.

إن التقدم أو التخلف لا يعتمد على الأفكار الصحيحة فقط، وإنما يعتمد أيضاً

على أسلوب الحياة الذي ينتجه أفراد الأمة في سبيل تحقيق أهدافها..

ولكي نوضّح أثر أسلوب الحياة على سلوك أفراد الأمة في سبيل تحقيق

أهدافها، نتصور (لو أن أنساناً سار في البلاد الشرقية الإسلامية، وتنقل في

تطوافه من مدينة جاكرتا متجهاً إلى أقصى الغرب حتى بلغ مدينة طنجة، ومر في

مسيرته هذه على مختلف البلاد الواقعة على محور: جاكرتا/طنجة، لوجد ظواهر

اجتماعية تكاد تسيطر على هذه البلاد جمعيها.

ولو أن هذا الإنسان نفسه بعد رحلته الأولى شرع في رحلة ثانية على محور

آخر بادئاً من مدينة واشنطن متجهاً إلى موسكو محاولاً زيارة مختلف البلاد التي تقع

على هذا المحور لوجد هنالك أيضاً ظواهر اجتماعية تكاد تسيطر على هذه البلاد

جميعها، وتختلف اختلافاً تامّاً عن الظواهر الأولى.

في البلاد الثانية يلاحظ المتأمل ما يلي:

أ- فاعلية هؤلاء الناس وحياتهم المملوءة جدّاً وحرصاً على الوقت وتنظيمه.

ب- الاستفادة من هذا الحرص وهذا التنظيم لتكون محصلة العمل الذي يتم

أكبر محصلة ممكنة.

ج- ظاهرة التخصص لدى أفراد المجتمع واضحة بالغة حدّاً كبيراً من الدقة،

وفرة الإنتاج لدى هؤلاء وفرة تزيد عن حاجاتهم أضعافاً كثيرة، وشبيه بهذا المجتمع

مجتمع النحل بما فيه من فعالية وتخصص ووفرة في الإنتاج عظيمة.

يقابل هذه الظواهر في المجتمع الأول ما يلي:

١- فعالية تكاد تكون منعدمة، ونظرة إلى الوقت على أنه لا قيمة له.

٢- نشاط متجه إلى اللغو والحديث الغير منتج.

٣- وبعد هذا كله: فالتخصص مفقود، والجهود مبعثرة.

٤- والإنتاج أضأل من حاجات المجتمع، ولذلك: كان هذا المجتمع عالة

على المجتمع الثاني في حاجاته الحيوية.

من أجل ما سبق: سمي المجتمع الأول متخلفاً، والثاني حضاريّاً، ولقد امتن

أفراد المجتمع الثاني على أفراد المجتمع الأول فرأوا أن يعدلوا عن تسميته متخلفاً

إلى تسميته مجتمعاً آخذاً في النمو [٥] ، ولكن نواياهم الحقيقية مكان ارتياب كبير.

ومن أجل ما سبق: فرض المجتمع الثاني على الأول سبقه، وتقدمه، ... وبالتالي: وصايته وسيطرته، كما فرض عليه ضرورة الاقتداء به وإسراع السير للحاق به) [٦] .

إن الإنسان الذي يعيش على محور جاكرتا / طنجة، يواجه المشكلات نفسها

التي يواجهها الإنسان على محور واشنطن/موسكو.. فهو يكدح من أجل قوت أبنائه، ويناضل في سبيل بناء أمته، ويعمل بصورة ما لتدعيم حضارتها.. فما الذي

جعل مجتمعات الإنسان الأول تصنف على أنها مجتمعات متخلفة، ومجتمعات

الإنسان الثاني تصنف على أنها مجتمعات متقدمة؟ .

لا شك أنها (الفاعلية) في المجتمع الثاني التي دفعت به إلى التقدم، وغياب

هذه الفاعلية في المجتمع الأول هو الذي جعل منه مجتمعا متخلفاً، (فعلى محور

(واشنطن/موسكو) توجد ديناميكية خاصة تختلف عن ديناميكية محور

(طنجة/جاكرتا) ، والفرق منحصر في أن الثرثرة تكثر كلما قل النشاط والحركة، إذ

حيثما يسود الكلام تَبْطُؤ الحركة.. وميزانية التاريخ ليست رصيداً من الكلام، بل

كتل من النشاط المادي، ومن الأفكار التي لها كثافة الواقع ووزنه) [٧] ولذلك:

كانت المجتمعات التي لا تمتلك إلا رصيد (الكلام) هي المجتمعات المتخلفة، وكانت

المجتمعات التي تمتلك رصيد (العمل) والنشاط هي المجتمعات المتقدمة.

إنه قد يكون من الأولى للمشتغلين بعملية بعث الأمة الإسلامية وإحيائها من

مواتها من الإسلاميين الذين يكتبون ويحاضرون ويتحدثون عن عظمة الإسلام الأمر

الذي أصبح يقيناً عند معظم المسلمين اليوم أن يتفقوا ولو مرة واحدة للقيام بعمل

حقيقي يبدأ من الإجابة على السؤال الحيوي: لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا لم

يُحدث الإسلام هذا الدين العظيم التفاعل والتغيير المطلوبَيْن في واقع الأمة الإسلامية

اليوم؟

إن الإجابة المحددة عن مثل هذه الأسئلة هي التي تسهم في تغيير واقع الأمة،

وتحقق لها النقلة النوعية نحو التقدم والحضارة.

لقد زعمت القيادات العلمانية في بلاد الإسلام أن الكثافة البشرية للمجتمعات

الإسلامية هي السبب الأول في تخلفها.. فهل هذا هو السبب الحقيقي؟

(والشاهد من هذا كله: أننا نحن المسلمين لم نتعامل إلى الآن مع قضية

الكثافة البشرية من منطلق حضاري واقعي، صحيح أن هناك معاناة شديدة في

بعض بلدان العالم الإسلامي، ولكن سبب هذه المعاناة ليس في عدد السكان بقدر ما

هو في الإدارة الفاسدة السيئة التي تشرف على إدارة الموارد [٨] .

(إن الأرض الإسلامية من المحيط إلى المحيط هي بقدر من الله أغني بقعة

في الأرض وأكثرها خيرات، وقد كانت وماتزال حتى هذه اللحظة لم تستثمر

الاستثمار الكامل، الذي يستغل كل مواردها وكل طاقاتها) [٩] ؛ ولذلك: فإن أهل

تلك الأرض الإسلامية رغم بترولها، ومعادنها، ومواردها المائية، وقوّتها البشرية

هم أفقر أهل الأرض جميعهم وأكثرهم مشكلات!

إن السبب وراء فقر الأرض الإسلامية وكثرة مشكلاتها ليس قلة مواردها،

وإنما (هو التقاعس، والتواكل، والضعف العلمي، ووهن العزائم، والانصراف

عن عمارة الأرض، والرضى بالفقر على أنه قدر من الله لا ينبغي السعي إلى

تغييره خوفاً من الوقوع في خطيئة التمرد على قدر الله) [١٠] .

(إنه ليس من الضروري (ولا من الممكن) أن يكون لمجتمع فقير المليارات

من الذهب كي ينهض، وإنما ينهض بالرصيد الذي وضعه الله بين يديه: الإنسان،

والتراب، والوقت) [١١] .

ولذلك: فإن الجهد الأكبر لا بد أن يوجه لصناعة الرجال الذين يتحركون في

الواقع، مستخدمين التراب والوقت والمواهب من أجل بناء نهضة الأمة الإسلامية.

إذن: لابد من التفكير في أمور ثلاثة: في بناء الإنسان بناءً كاملاً، ويعتني

في الوقت ذاته بالتراب، والزمن.. (فإذا فُعِل ذلك، فإنه حينئذ قد كُوّن المجتمع

الأفضل، وكوّنت الحضارة التي هي الإطار الذي تتم فيه للفرد سعادته، وللأمة

تقدمها) [١٢] .

وإذن: فإن الخطوة الأولى على طريق الحضارة هي التفكير في الإنسان الذي

لم يتحضر بعد، ومحاولة توفير الشروط التي تحقق له ما ينبغي من الفاعلية التي

تؤهله لحمل رسالته وبناء حضارة أمته (فحاجتنا الأولى هي الإنسان الجديد..

الإنسان المتحضر.. الإنسان الذي يعود إلى التاريخ الذي خرجت منه حضارتنا منذ

عهد بعيد. وصياغة هذا الجهاز الدقيق الذي يسمي (الإنسان) لا تتم بمجرد إضافة

جديدة إلى معلوماته القديمة؛ لأنه سيبقى هو قديماً في عاداته الفكرية، وفي ... مواقفه أمام المشكلات الاجتماعية، وفي فعاليته إزاءها، وعلى الأخص في (لا فعاليته) [١٣] التي يدركها كل من ينظر نظرةً فاحصةً إلى واقع الأمة الإسلامية، مقارنة بغيرها من الأمم ...

ولكي نوضح ما نقصده بقولنا: إن حاجتنا الأولى هي الإنسان الجديد..

الإنسان الفعال.. وأنه لابد من توفير الشروط التي تحقق له ما ينبغي من الفاعلية:

ننظر إلى واقع بلد مثل (اليابان) .. ذلك البلد الذي يعيش في منطقة فقيرة في المواد

الخام كالبترول والمعادن، كما أنها ليست استراتيجية من ناحية الوضع الجغرافي،

ولكنه في ظل هذه الظروف الصعبة يتقدم يوماً بعد يوم، بل ويغزو إنتاجه العالم

الغربي..

(لقد كانت مصر واليابان ذات يوم متأخرتين على مستوى واحد أو متقارب، ودخلتا الخضم في وقت واحد أو متقارب.. فمضت اليابان في الشوط حتى سبقت

السابقين الذين تتلمذت عليهم من أهل الغرب، وتعثرت مصر في خطواتها،

وتخاذلت، وانتكست عدة مرات.. لماذا؟ !

أحست اليابان بالحاجة إلى النهوض وهي محتفظة بذاتيتها، فأعطت من نفسها

العزيمة المطلوبة، وبذلت الجهد المطلوب، وأحست مصر بالحاجة إلى النهوض

وهي مسلوبة الشخصية، فلا شخصيتها الإسلامية كانت حية تدفعها إلى العمل، ولا

اكتسبت وهي في موضع التقليد ذاتية مستقلة، لأن التقليد يقتل الذاتية ولا ينميها،

ومن ثم: ظلت في مكانها، أو تحركت خطوات متخاذلة متعثرة، لا توصّل إلى

شيء ذي بال) [١٤] .

إن اليابان بدأ الطريق إلى التقدم ببناء الإنسان المتحضر والمجتمع المتحضر،

ودرس الحضارة الغربية بالنسبة لحاجاته، وليس بالنسبة لشهواته، (فالفارق العظيم

بين الصلة التي ربطها اليابان بالحضارة الغربية وبين صلتنا بها: أن اليابان وقف

من الحضارة موقف التلميذ، ووقفنا منها موقف الزبون! ! إنه استورد منها

الأفكار بوجه ونحن استوردنا منها الأشياء بوجه خاص) [١٥] .

والأمة الإسلامية إذا أرادت التقدم، وأحست بضرورة أن تدخل السباق

الحضاري، فإنه لا سبيل لها إلى ذلك إلا أن تقف هذا الموقف المتوازن، فتدعو

إلى الاستفادة مما عند الغرب من تقدم مادي وعلمي وحضاري، وفي الوقت ذاته

تَحْذَر من الذوبان في شخصية الغرب.

(وبمثل هذه الروح يمكن للعالم الإسلامي أن يحل مشاكله، فحين يسترد

ذاتيته المفقودة سيكون أقدر على الاستفادة من تقدم الآخرين المادي والعلمي،

أضعاف أضعاف ما يستفيده اليوم وهو في موضع التقليد كالعبيد.. وعندئذ يتقدم،

ويتغلب على (التخلف) الذي يرى البعض أنه العقدة التي لا تحل) [١٦] .

إن الأمة الإسلامية قادرة على أن تنهض من تخلفها وعجزها وهوانها وواقعها

الراهن، كما نهضت اليابان من تحت أنقاض هزائمها وكوارثها ودمارها المادي

والمعنوي، لتصبح رغم ضيق مساحتها، وحرمانها من الثروات الطبيعية

الضرورية.. تصبح الدولة الثانية في العالم بمقياس التقدم الصناعي والتجاري.

ما الذي ينقصنا عن الشعب الياباني الذي لم يكن يملك غداة انتهاء الحرب

العالمية الثانية إلا مدناً خربة، وصناعةً مدمرة، فشق طريقه بعزيمة صادقة،

وإرادة صارمة، ووسائل مكافئة للحاجة والأهداف، حتى غزت صناعته أسواق العالم ... وأصبح الغرب يبحث عن سبيل اللحاق بهذا الشعب.

وكذلك الشعب الألماني، صاحب أقوى دولة أوربية اقتصاديّاً.. كيف خرج

من الحرب العالمية الثانية؟

لقد خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الثانية وهي تحمل ذكرى عشرة ملايين

قتيل، ولا تمتلك إلا أنقاض حضارة سادت ثم بادت، ولكنها بالعمل الجدي البصير

المستمر تغلبت على مشاكلها، وتقدمت، واستعادت كل قوتها وأكثر، وأصبحت في

سنوات معدودات أهم دولة في أوروبا، وواحدة من أهم دول العالم في الصناعة

والتجارة والاقتصاد والتقدم العلمي، وأيضاً في دورها وأثرها في حركة المجتمع

البشري!

(إن سر تقدم الأمم يكمن دائماً في القدرة على تسخير القوى المتاحة، وإذا

أرادت الأمة الإسلامية أن تنهض وتتقدم، فليس أمامها من سبيل إلا أن تتصرف في

حدود ما تملك فعلاً، لا أن تحلم بما هو خارج عن أيديها، لأن مثل هذه الأحلام لا

تثمر في النهاية إلا الحسرة والندامة.

وحين تتصرف الأمة الإسلامية فيما تملك وفق السنن، التي فطر الله عليها

أمور الخلق فإنها بهذا تستثمر الطاقات المتاحة على أحسن وجه) [١٧] .

(إن وطناً متخلفاً لابد له إذا أراد التقدم أن يستثمر سائر ما فيه من طاقات،

يستثمر كافة عقوله وسواعده ودقائقه، وكل شبر من ترابه، فتلك هي العجلة

الضخمة التي يجب دفعها لإنشاء حركة اجتماعية [١٨] وبالتالي: حركة حضارية

في ذلك الوطن.

إن المتأمل للنماذج التنموية في الأمة الإسلامية، يجد أن الأنظمة العلمانية

القائمة عليها تركز على عنصر رأس المال، بل وتزعم أنه العنصر الوحيد القادر

على تحقيق التنمية في دول العالم الإسلامي، وأنه لا سبيل لهذه الدول للخروج من

التخلف إلا باستيراد التقنية! !

ولا شك أن هذه الطريقة في بناء التقدم لاتقيم تقدماً حضاريّاً، ولكنها تعطي

مظهراً مزيّفاً من التمدين عندما يقيم المخدوعون بهذا الزيف المصانع العملاقة، ثم

يستوردون لها كل المعدات من الغرب، بل ويستوردون كوادر العمل في هذه

المصانع.

ومن هنا: فإن هذه المصانع والمشروعات التنموية رغم الحجم الكبير للإنفاق

فيها لا يكون لها أدنى أثر في تقدم الأمة الحضاري، وما ذلك إلا لأن (الإنسان) في

كل هذه المشروعات كان غائباً.

إن التنمية الناجحة تعتمد أساساً على تحول (الإنسان) ، ولذلك فلا بد أن

يتحول اهتمامنا بالتكنولوجيا ورأس المال إلى (الإنسان) .. كيف نعيد تشكيل عقله

وفق المنهج الإسلامي؟ وكيف نعيد إليه الفاعلية التي يمنحه إياها ذلك المنهج؟

وكيف نحرره من روح الاتكالية، وندفعه إلى التطلع إلى التقدم؟

فإذا استطعنا الإجابة على هذه الأسئلة، فقد وضعنا أقدامنا على أول الطريق

للتقدم والخروج بالأمة من مرحلة (القصعة المستباحة) إلى التمكين والريادة.

إن الطريق إلى التقدم والحضارة والريادة، يقضي ببتر كل علاقات التبعية

للغرب مهما كان نوعها، وتقبل سائر الصعوبات التي تواجه الإنسان عندما يرشد

ويتحمل كامل مسؤولياته.. ولذلك: فإننا إن كنا صادقين في محاولتنا لإخراج أمتنا

من التخلف إلى التقدم، فلا بد لنا من التحرك في هذا الطريق وإن كان وعراً

وصعباً، لنعزم العزمة ونمضي في هذا الطريق، وليعقد كل منا العزم على أن يقلل

شيئاً من تخلف هذه الأمة التي يعيش فيها.. فإذا فعلنا ذلك: فإننا قادرون إن شاء

الله على أن نلحق بمن سبقونا، بل وربما نتجاوزهم.

وبكلمة موجزة أقول:

الإنسان هو أساس الحضارة، ولذلك: يؤكد منهج التغيير الحضاري الإسلامي

على صياغة الإنسان المسلم من جديد قبل بناء العمارات وإنشاء المصانع وتعبيد

الطرق وتنظيم الحياة المادية، أو معها على الأقل.. بينما تركز الأيديولوجية

العلمانية على نقل التكنولوجيا وتغييب الإنسان.

ولا شك أن الواقع خير شاهد على أن هذه الأيديولوجية العلمانية لم تفشل في

ردم الهوة الحضارية بين الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم فقط، بل إنها ساهمت

في زيادة اتساع هذه الهوة، لأنها كانت تسير بخطوات الغرب نفسها، فردت

بضاعة الآخرين إليهم وصبت كل الجهود في محصلته.

وإذن: فالطريق الصحيح للخروج بالأمة الإسلامية من دائرة التخلف: أن

نعود إلى منهاج الإسلام في التغيير الحضاري، فنقوم بتفجير الطاقات الكامنة في

الإنسان المسلم، عندها نمتلك القدرة على القفز فوق كل الحواجز لتحقيق التقدم

والإنجاز الحضاري.

إن الأمة الإسلامية لن يكون لها مكان على خريطة المستقبل إلا إذا تاب

أبناؤها من خطيئة الكلام الكثير والعمل القليل، وإلا إذا شمر كل منهم عن ساعديه،

وتعبد لله في ليله ونهاره بالعمل الكثير.. وبدون ذلك، تبقى هذه الأمة بين مطرقة

الغرب الحاقد وسندان أفعال أبنائها العاجزة، التي لا تعدو في كثير من الأحيان

مجموعة من الكلمات! !

إن التخلف الذي ترسف فيه أمتنا إنما هو في حقيقته نتيجة لازمة لكسلنا

وعجزنا عن المبادأة في أي ميدان. ولا طريق لنا إلى التقدم إلا أن نكون على يقين

أن الفاعلية هي طريق الأمم إلى الحضارة.


(١) المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري، د محسن عبد الحميد، ص ٦٣، ٦٤.
(٢) المصدر السابق، ص ٦٥، ٦٦.
(٣) هذا الدين، سيد قطب، ص ٦.
(٤) أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، د أحمد كنعان ص ٣٣، ٣٤.
(٥) لقد أطلقوا على المجتمعات المتخلفة لفظة (النامية) كي لا تشعر بعمق المأساة، فلا تتساءل عن سبب تقدم الآخرين وتخلفنا، ولا تتحول الهزيمة النفسية إذا ما أحستها إلى دافع يفجر فيها روح (التحدي) والرفض للواقع المزري؛ مما يجرها نحو التغيير من أجل التقدم والرقي.
(٦) المجتمع الإسلامي، د محمد أمين المصري، ص ٣٣ ٣٥.
(٧) مشكلة الثقافة، مالك بن نبي، ص ١٠٨.
(٨) فقه الدعوة ملامح وآفاق، عمر عبيد حسنة، ص ١٧٥.
(٩) واقعنا المعاصر، محمد قطب، ص ١٨١.
(١٠) المصدر السابق، ص ١٨١.
(١١) بين الرشاد والتيه، مالك بن نبي، ص ٦٠.
(١٢) تأملات، مالك بن نبي، ص ١٧٠.
(١٣) تأملات، مالك بن نبي، ص ١٩٠ ١٩١.
(١٤) كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟ ، محمد قطب، ص ٢٤٢.
(١٥) تأملات مالك بن نبي، ص ١٨٥.
(١٦) كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟ ، محمد قطب، ص ٢٤٤.
(١٧) أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، د أحمد كنعان، ص ٥٠.
(١٨) بين الرشاد والتيه، مالك بن نبي، ص١٧٢.