للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البيان الأدبي

الغيمة التي لم تمطر بعد

بقلم:علي محمد

أما آن لك أن تمطري قبل أن أموت اختناقاً؟

كان (صابر) ينظر إلى تلك السحابة، ويستجديها أن تمطر، وهو يتأمل وجهه

على صفحة ماء النبع الذي يمر بخجل بين الحقول الصغيرة في قريته المستلقية

تحت إبط جبلٍ ضخم، يربض على الغرب منها وكأنه يدسّها عن أعين تتربص بها

الدوائر.

أمطري، أغرقيني، أو فاجعلي برقك المكتوم يحرقني.

ظل صامتاً ينتظر أن يدوي الرعد من صدر السحابة،.. فإذا بالنبع يكتسي

حمرة ظنها أول الغيث، لكنه صعق بصوت الغريب الذي نبذته القرية فأقام على

أطرافها إذْ مرّ وهو يردد:

كل مساء يدلف ليلٌ

وعلى فمه بقعة دمْ

كل مساء تهوي ذَبْلىَ

خلف تخوم الظلمة شمسْ

يجرؤ همسْ

كلّ صباح تُشرقُ شمسْ

وعلى فمه كلّ مساء تُسْحق شمسْ!

خُنق الهمسْ فمحى دمَه أثر الشمس.

رفع (صابر) رأسه، فإذا الأفق تجاه الجبل تغشاه حمرة داكنة، لم تكن تلفت

انتباهه من قبل، والشمس تسقط في فم ليل قاسٍ، وعلى شفتيه بحر دم.

آه أنتِ أنا أيتها السحابة.

لم تمطري بعد؟

حمل سحابته، وسار خلف الغريب الذي ابتلعه الظلام، وصدى صوته يدوّي

بين جنبات الوادي.

ليلٌ فم شمسٌ دم

لكنه لم يتمكن من اللحاق به، ورويداً رويداً بدأ صوت أمه يخنق صوت

الغريب ليحل مكانه، وهي تردد: لا بد أن تذعن لرغبات عمك، إنه عمك الذي

ربّاك وإخوتك.. وضع إصبعيه في أذنيه وهو يصرخ: لا ... لا ... لقد آن أن

تتجرعي ثمرةً مرةً من شجرة العقوق التي غرستيها في مهجتي منذ فرضت عليّ

عمومة هذا الوغد.

ألستِ من صنع له الحبل ليشد منه مشنقتي؟

أنسيتِ أنك من نزع الجلجل المعلق برقبة ذلك الحمار الذي رُبط برجله

الطرف الآخر لحبل مشنقتي؟

لا ضير أن أموت، لكن ذلك الحمار حينما يركض نحو العشب المزيف الذي

ألقيتِ به على بعد خطوات منه لتخدعيه، لن يشعر إلاّ بقليل من الحسرة والكثير

من المقت والاحتقار؛ فيركض لمسافة أبعد في المرة القادمة.

والحبل في عنق أخي الآخر.

ومضى يردد كلمات الغريب بين بيوت القرية حتى خرج منها، وكان الصيف

بحرارته الخانقة رابضاً في بطن الوادي، وهبوب السموم بين الأشجار كفحيح

الأفعى حين تقتنص رأس الفريسة لتخنقها.

وجد نفسه أمام دار الغريب الذي كان مستلقياً على ظهره خارجها، وعيناه

ترقبان الجبل الذي جثم على صدر الليل، فأمسى الليل لا حراك به، فلا تسمع إلا

أصوات الحشرات، وكأنها حشرجة أنفاس الليل الذي يحتضر خوفاً من الجبل

الصامت، قال دون أن يلتفت إلى صابر: كم تثلج صدري هيبة الجبل وأنا أتخيل

الليل ترتعد فرائصه من أن يتحرك.

أصغى إليه صابر وهو يحاول تأملَهُ رغم عتمة الظلمة.

منذ أدركت حقيقة الجبل أحببته وظللت أرقبه، وأبشّر باليوم الذي يتحرك فيه

حتى اتهمني السّذج بالجنون، وظلت الشمس التي تعاني من جراحاتها تخرج

مبتسمة كل صباح، وتشارك الآخرين السخرية مني، حتى انتبذتُ مكاني قرب

الجبل.

آهٍ ليتني أستطيع الصعود إليه، لكن السذج سيتهمونني بالصعلكة قبل أن

يقذفني الليل بتلك القرية.

وليتهم يكتفون بذلك، بل ها هم يقومون بحفر القبور في طريقه.

اقترب (صابر (أكثر، فعقدت لسانه المفاجأة حين رأى على جبين الغريب

سحابةً أشد قتامة من تلك التي على جبينه، وأكثر انتشاراً على وجهه.

أدرك الغريب ما يدور بخلده، لكنه استرسل في كلامه.

آهٍ كم أود معانقة قمة الجبل فلعله يفجر هذه الغيمة السوداء التي تسكن وجهي،

فهناك تُبدّد الغيوم حينما تلاحقها قمم الجبال.

صمت الغريب.. و (صابر) لم يعد يرى سوى ضخامة الجبل، ويتخيّل

معاناته وهو يرى الشمس كل يوم تنزف بين فكي الليل، وهو مكبل بالقبور تحت

قدميه وموثق بشفقته على أولئك المغفلين.

مرت أمام وجه (صابر (نسمة حارقة نبهته إلى أنه بحضرة الغريب الذي

سكت وتخيل أن صمته إيذان له بالحديث.

لم تزرني السعادة أبداً، فلقد سجنها موت أبي ووضعت أمي مفتاح السجن

بقبضة ذلك الوغد، الذي زرع الحرمان في قلوب إخوتي قبل قلبي، وظل يضرب

حولنا سياجاً من العتمة، وأمّنا في بلاهة وخنوع تقدم له أكثر مما يتمنى حين تخنقنا، وتتوقع أنها بذلك تمنحنا طوق النجاة.

والتفت في هذه اللحظة إلى الغريب قائلاً بلهجة الباكي: انظر إلى هذه

السحابة التي على جبيني لم يراكم غيومها إلا أكُفّ القهر.. تأمل جيداً.. إنها تشبه

الغيمة التي على وجهك؟

لم يرد الغريب ...

اقترب (صابر) من وجهه، وحدّق فيه فلم يجد سوى غيمة سوداء جامدة لم

تمطر، فأصابت قلب الغريب بالقحط والجفاف، فمات..

وتذكر تلك النسمة الحارقة قبل قليل.

آهٍ.. حتى أنت أيها الغريب رفضت سماعي، وأنت تشاركني وطأة الغيوم،

إن الموت ليس نهاية المطاف، لكنني لن أرضى أن تظل هذه الغيمة تخنق أنفاسي

أو أظل أرقب الجبل، لكن قبل ذلك: لا بد أن أواري جثمان هذا الغريب، وأمسى

ليلة يحفر القبر، ومع شروق الشمس كان الغريب تحت الثرى..

و (صابر) الذي أنهكته تفاصيل الليلة السابقة، ينظر إلى الشمس التي لم تزل

تخرج رغم معاناتها.

فاستلقى تحت شجرةٍ قرب الغريب، والتفت ليتأكد أن ما عاشه الليلة الماضية

لم يكن حلماً، فرأى القبر وأخذ مزودة الماء، وتوضأ، وبدأ رحلته إلى الجبل،

وعيناه لا تريان إلا القمة.

يطأ الشوك ... فلا يبالي ... وتخترق أذنيه نداءات العاطلين فيخرجها من

الجهة الأخرى، وبدأ يتجاوز بعض القبور التي تحيط بالجبل، وهي تزداد كثافة

كلما تقدم في الطريق، والحجارة تدمي عقبيه، وأصوات المغفلين تقذفه بما تعرف

وما لا تعرف، فلم يبال بها، لكن بعض الأصوات مزّقت قلبه فلم يجد بدّاً من

الالتفات للتأكد من أصحابها.

إنهم إخوته الذين اختار هذا الطريق لتخليصهم.

كانت أمه وبعض إخوته أكثر من يرجمه بالحجارة والبذاءة، وبعض إخوته

يرقبه بصمت.

وبدأ الليل كالأخطبوط يجذب الشمس إلى فيه ليقطع (صابر) الطريق إلى قمة

الجبل، لكن (صابر (لم يعد يملك إلا المجازفة، فإما الوصول إلى القمة ليفجر عليها

سحابته التي على وجهه فتمطر، أو يحرقه البرق الذي بصدرها ويشعل النار في

رأس الجبل لتكون دليلاً يقود الآخرين ممن تعتمر الغيوم جباههم، أو يمزق بطن

الليل ويخرج الشمس منه لتبقى مضيئة حتى تحرق العيون التي لا تعيش إلا في

الظلام الدامس.

لكن الليل ابتلع الشمس كعادته، والمغفلون ما زالوا ينتظرون أن يصاب ذلك

الصعلوك بلعنة الجبل التي يخافونها، ويشكرون الليل أنه يحجب عنهم الجبل حينما

يريحهم من رؤيته كل مساء.

ودوت في قمة الجبل صرخة أفزعتهم، وإذا بالنار تشتعل في القمة والبرق

يمزق السماء، وإذا بهم تتهلل أساريرهم، لكن الصرخة لم تنته، والنار بدأت في

الانحدار بشكل سريع، وصوت (صابر) يرتفع، والنار تلتهمه، فقذف بنفسه من

قمة الجبل، وقبل أن يصل الأرض استيقظ من حلمه، وإذا بالشمس قد اشتدت

حرارتها، والشجرة لم تعد تظلله وهو يلهث من شدة العطش، وعيناه في اتجاهين

مختلفين إحداهما ترمق قمة الجبل، والأخرى تتمعن قبر الغريب والغيمة السوداء

بينهما لم تمطر، وحينما كرر نظرته وجد أمه وإخوته يحولون بينه وبين رؤية

الجبل وعمه يبتسم بجوار قبر الغريب.