للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملف العدد

(متابعات حول نقد الدعوة الإسلامية)

ملاحظات أولية على الدعوة إلى نقد الصحوة الإسلامية

بقلم: جمال سلطان

كنت ولا أزال أشعر بقلق كبير من ترداد الحديث عن (النقد الذاتي) أو نقد

الصحوة الإسلامية، سواءً أكان هذا الحديث نابعاً من أبناء الصحوة أنفسهم أو من

خصومها، على الرغم من اختلاف الوجهة والقصد والمنهج، وليس ذلك بطبيعة

الحال عن قناعة بأن هذه الصحوة مبرأة من العيوب والأخطاء، وحتى الانحرافات

في بعض أطرافها، وأنما يعود إلى عدد من الاعتبارات الواقعية التي لاحظتها من

خلال تتبع هذه الظاهرة في الفترة الأخيرة على وجه الخصوص.

الاعتبار الأول:

هو شيوع هذه الموجة بشكل واضح، وهي بلا شك من جراء التأثر ببعض

حاجات المناخ الثقافي العام، الذي استهوته قصة النقد الذاتي، إضافة إلى أن

الضغوط المتوالية من الصحافة العلمانية والدوائر الثقافية العلمانية بشكل عام يبدو

أنها أزعجت قطاعاً من الإسلاميين وألجأتهم إلى اعتراف قهري بالذنب، وضرورة

(التكفير عنه) ثقافيّاً بتشريح الصحوة على الملأ.

وموطن الخطر في هذا الجانب: أن زيادة الشيء عن حدّه، وتضخيمه،

والإلحاح عليه: لا يؤدي عادة إلى علاج الحالة، بقدر ما يؤدي إلى انحراف مضاد، قد يتمثل في مثل حالتنا في إشاعة أجواء من الإحباط والكآبة والشعور المَرَضي

بالذنب والعجز.

الاعتبار الثاني:

أن عملية المراجعة والتقويم والنقد، ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي

مقصودة لتحقيق أهداف معينة، مثل ترشيد المسيرة، وبث روح جديدة تدفع بالعمل

الإسلامي خطوات على الطريق القويم ... ونحو ذلك، وهذا كله يلفت نظرنا إلى

أن المكان والزمان اللذين يرد فيهما (النقد الذاتي) حاسمان وفاعلان في تحقق النتائج

المرجوة أو تحقيق عكسها تماماً، فإذا كنت في واقع محبط، أو محاصر، أو شديدة

جراحه، أو مستعرة أجواؤه بالعداء والحرب: فإن توجيه النقد إلى أبناء هذه

الأجواء يكون عملاً مدمراً وغير مسؤول؛ لأن نتيجته المباشرة هي: تقريب المسلم

خطوات جديدة إلى إعلان الهزيمة: نفسيًّا، وواقعيًّا، ودع عنك موجات الفتنة التي

تمور وتطحن الصف المسلم بعضه في بعض، ولعله لذلك المعنى، كان من هدي

النبي الامتناع عن إقامة الحدود في الحرب.

وكانت قناعتي: أن الأجواء التي تعيشها الصحوة الإسلامية الآن لا تناسب

التوسع في مثل هذا الجانب النقدي، مهما كانت المبررات الثقافية جميلة وجذابة.

الاعتبار الثالث:

أن الأجواء الثقافية مشوشة للغاية، والهجوم العلماني، وغير العلماني، من

جهات ذات مصالح في تشويه الصحوة الإسلامية قد بلغ مداه، وهذا ما يحول دون

عرض قضية النقد الذاتي للصحوة على الملأ بصورة عاقلة وعملية ومأمونة؛ لأن

المتربصين يأخذون الكلام على أنه اعترافات إسلامية بالخطيئة، مما يسبب تضليلاً

كبيراً لدى العوام، وإذا ما حاولت الدفاع أو كشف المغالطات وجدت نفسك وسط

معركة فكرية مضنية ومهدرة لجهدك، وقد كنت في غنى عنها.

إن ممارسة النقد الذاتي تحتاج إلى مناخ اجتماعي وفكري قائم على الاتزان

والهدوء والتعقل والحوار البناء، إلا في حالات الضرورة القصوى، وهي حالات

جزئية على كل حال، ولا تتسم بالشمول أو الإطلاق.

الاعتبار الرابع:

أن فكرة (النقد) رغم أنها تعني تشريح القوى الذاتية والإمكانات، وجلاء

إيجابياتها وسلبياتها، إلا أن مصطلح (النقد) قد انتهى في الممارسة العملية والثقافية

في العالم العربي إلى معنى (مناقشة السلبيات وتصحيحها) ، وأصبح شائعاً أن تقول

: فلان لا يطيق النقد، بمعنى: أنه ينزعج من مناقشة أخطائه أو سلبياته، وهذا

المعنى هو الذي استقر في معظم الكتابات عن (نقد الصحوة) ، وفي هذا المناخ غاب

الحديث تماماً عن (إيجابيات الصحوة) حتى أنه يكون عسيراً على أحد الشباب

الإسلامي أن يعدد لك إيجابيات الصحوة إذا سألته عنها، في حين أنه يقدم لك لائحة

بالسلبيات إذا سألته، وذلك لأنه تعود الاستماع إلى الكلام في الثانية دون الأولى،

فأَلِفَها، ولذلك: فقد تصورت أن الحديث عن (إيجابيات الصحوة) ، والكشف عن

مكامن القوة فيها، هو الأولى بالإبراز هذه الأيام، لتحقيق الموازنة النفسية

والتصوريّة لدى الشباب بين سلبيات الصحوة وإيجابياتها؛ وكذلك لبلورة معنى هذه

الإيجابيات، وتفسير أسبابها، وحشد الطاقات لتنميتها والبناء عليها، إضافة إلى أن

ذلك سبيل عملي للرد على العلمانيين والمشوشين، ممن يرون لكل شيء في الوجود

سلبيات وإيجابيات، إلا الصحوة الإسلامية، فهي الظاهرة الوحيدة التي لا يجدون

لها إيجابيات أبداً، أو لا يذكرون أن لها إيجابيات.

لكل هذه الاعتبارات وجدتني متحفظاً تجاه كثرة الحديث عن (نقد الصحوة) ،

وإن كانت الحاجة تبقى ماسة إلى البحث عن (آلية) مناسبة لتصحيح المسار، ورتق

الخروق، وسد الثغرات التي تهدر طاقات النهوض والتقدم، وفي تصوري: أن

الإعلام الإسلامي يمكنه رغم كل التحفظات السابقة أن يساهم بشكل فعال في هذا

التصحيح والترشيد، من خلال الكلمة والدراسة والحوار والتحقيق والندوات..

ونحو ذلك، وهي ممارسات قائمة بالفعل، ولا يخلو أحد منّا مِنْ جهد ساهم به في

ذلك، على أن يكون ذلك الجهد وفق صياغة متزنة، ومعالجة رصينة وحانية،

وذكاء كبير في العرض، ووفق توازن نفسي وفكري يمنع الآثار السلبية الخطرة

التي قد تنتج عن هذه المعالجات وعرضها.

ثم إن هناك جانباً من جوانب الصحوة، لا يخضع للاعتبارات السابقة، ولا

يجوز إخفاء عواره أو تأخير بيان فساده، إلا وهو الجانب الفكري، ولا سيما ما

يتصل بالعقيدة وأصول الديانة؛ فالبدعة، والغلو، والانحراف الفكري: ظواهر

خطرة، لا يمكن السكوت عنها، بل إن تجاهلها والسكوت عنها يكون أخطر بكثير

من عرضها للنقد والبيان والترشيد، وتبقى من وراء ذلك كله الضرورة القصوى

لإشاعة مناخ الرحمة والتغافر بين الإسلاميين، وتعميق الشعور بالحاجة إلى الرفق

والتريث والاتزان في معالجة مختلف قضايا الصحوة الإسلامية، سلوكاً وفكراً.