للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مقال

غيبة الهدف.. من حياتنا العلمية

بقلم: محبة الدين سماء

أننا لنعجب من طائر صغير غادر عشه مع انبلاج فجر يوم جديد، نراه وقد

فرد جناحيه على بساط النسيم، رافعاً رأسه الصغير، ورافعاً معه همته لأعلى بكل

عزيمة البِشْر، ينطلق، ينشرها أغاريد عذبة تعطّر الأجواء، ونراه يطير عند

الأصيل أو في جو الهجير، نراه يسير يلتقط الحَبّ بمنقاره الصغير، وقد يغدر به

حيوان جارح أو طائر كاسر، أو يستعذب في رحلته لفح السموم باحثاً عن لقمة

عيش لصغاره، أو منقباً عن أعواد صغيرة لعشه، يقطع آلاف الأمتار مستميتاً في

الوصول إلى ما يريد، ثم لا تنظر.. إلا وقد عاد إلى بيته الصغير عند الغروب

راضياً مسروراً.

لم يكن بإمكان تلك الروح أن تهدأ ساعة قبل أن تصل إلى الهدف المنشود

الذي تحيا لأجله، هكذا يهدي الله المخلوقات إلى فلكها الذي تدور فيه وفق سنن

محكمة.

لكل إنسان هدف:

إنّ الحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان هي: أنّ لكل إنسان هدفاً رسمه في

حياته حتى يبلغه، ويسعد بنواله.

لذا: كان من البدهي أن يسعى المرء ويجتهد في حياته للوصول لما يصبو

إليه، فالهدف إذن ضرورة لا بد منها في هذه الحياة، وإلاّ لتخبّط الإنسان وسار

سير الأعمى، فالهدف هو بمثابة البوصلة التي تهديه لسلك الطرق الصحيحة،

والسفينة بدون بوصلة في عرض البحر تكون معرضة للهلاك.

إن الله (سبحانه وتعالى) أراد لهذه الإنسانية الارتقاء والعلو، لذلك حدّد لها

الهدف الذي من أجله خلقت، وبيّن لها أن الخير كل الخير في السير على هذا

الطريق الذي يصل إلى الغاية الكبرى، وصدق الله إذ يقول: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ

وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] [الذاريات: ٥٦]

أثر الخطأ في تحديد الهدف:

ولعدم تحديد الهدف من الحياة الناشئ عن خطأ في أصل التصور الصحيح

للحياة؛ نشأت مشكلات عديدة ما زالت البشرية - التي تنأى عن روح الإسلام إلى

اليوم - تجترّ آلامها، وعلى رأسها المشكلات النفسية الناشئة من انعدام التصور

الصحيح لهذه الحياة وعدم معرفة سبب وجودنا فيها ومهمتنا الموكولة إلينا في هذا

الوجود، ومصيرنا ومصير الكون، والغاية من هذا التنظيم الرائع للكون، ومن

هذا الإبداع العجيب الدقيق المحكم للإنسان ولسائر الأحياء والكائنات، لماذا وُجد كل

ذلك بهذه الدقة والإحكام؟ ! .

لذلك: كان الإسلام يربّي أبناءه دائماً على أن يكونوا ذوي بصيرة، لأنهم

فهموا الغاية الكبرى ووعوا دورهم في الوصول إليها (فجاءت التربية الإسلامية

تربّي الناشئ على: أن ينظر إلى كل ساعات الحياة ولحظاتها على أنها أمانة في

عنقه، عليه أن يستغلها في الخير، وتربيه على أن يجد لذة نفسية عظيمة كلما

ساهم وسابق في عمل الخير، أو دفع الشر عن نفسه وأمته؛ فكل لحظة من حياته

يتقرب فيها بإرضاء ربه هي متعة جديدة تشعره بالمزيد من قيمته عند الله، الذي

أوجده ليبلوه في هذه الحياة، ثم يجزيه الجزاء الأوفى، كما تشعره بأثره في

المجتمع، وفي البيئة، وفي الكون والإنسانية [الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ

أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ] [الملك: ٢] [١] .

والواقع الملموس يؤكد أن هذه الحقيقة لم تتجاوز حدود الإقرار والاعتراف

اللساني؛ فنظرة قريبة من بيوتنا ومقارّ أعمالنا تشير إلى حقيقة تقع فيها فئات من

الناس، ولعلها - مع استمرار إغفال دراستها وآثار أبعادها - ستتحوّل إلى طابع

عام للعاملين في مجالات عديدة، وهي: عدم رسم الهدف الكبير وجعله بمثابة

ضابط لخط الحياة، والتحليق في الأفق الواسع بدلاً من النظر إلى الأفق القريب أو

نصب أهداف زائلة ببلوغ الأجل المسمى، إنْ لم تكون هذه الأهداف قصيرة الأمد،

خسيسة في موضوعها، حقيرة في مضمونها، ذاتية في روحها وشكلها، ويلاحظ

أن هذه الظاهرة موجودة بين اليافعين والراشدين الناضجين ومن فوقهم، ولعل من

أسباب انتشار هذه الظاهرة: عدم تنشئة الفرد بيئيّاً على أن يحيا لغاية.

ولا أدري ما سبب غياب هذه المسألة لدى أكثرنا، هل هو زيف الحضارة

المدنية الذي أبعدنا عن نقطة البداية الصحيحة؟ ، أم هو التفريغ الثقافي من عقولنا

وأرواحنا الذي سبّب الابتعاد التدريجي عن القرآن بوصفه دستور حياة؟ أم كل هذه

الأمور مجتمعة؟ !

وإن كانت الأسرة هي المسؤول الأول فهي ليست الأخيرة؛ فهناك المؤسسات

الإعلامية بشتى صورها، يعيش في وسطها الفرد ويتفاعل معها وتتفاعل معه، قد

يربّى عليها وقد ينهل منها الآداب والعلوم، بل أصبحت لا تقل تأثيراً عن الأسرة

في صياغة المفاهيم وتكوين الاتجاهات، فهي بذاتها كافية لأن تكون محضناً مهمًا

وعاملاً مؤثراً في إيجاد مثل هذه الغاية وأبعادها.

صور غياب هذه الفكرة في حياتنا:

وصور كثيرة من يومياتنا تشير إلى غياب هذه الفكرة من حياتنا، مثلاً:

عدم صدق بعض الممتهنين للعملية التربوية في تحقيق الأهداف التربوية

الإجرائية.

إننا بحاجة إلى فهم: أنّ الهدف العلمي ضرورة للوصول لغاية كبرى؛ من

أجلها خلقنا، والتأكيد على هذه الفكرة يأتي من عدة أوجه:

العلم يهدي إلى الإيمان، وقد رأينا كثيراً من العلماء الراسخين المنصفين

هداهم علمهم إلى أن وراء هذا الكون ذا قوة عليا يدبره، وينظمه، ويرعى كل

شيء فيه، وبميزان وحساب ومقدار، ذلك أن العالم أقدر من غيره على استبانة ما

في هذا الكون من ترابط وتناسق وإحكام.

بعد ذلك: ما حجم هذه الفكرة في عقل المسلم أو المسلمة خصوصاً.

إن التاريخ الإسلامي لا يبخل علينا بنماذج وشواهد تؤكّد على اهتمام أهله

بمثل هذا الفهم، فهم يسعون للعلم حتى الرمق الأخير من حياتهم.

(فلنوازن بين ذوي تلك الغايات وأضدادهم من طلاب وطالبات جامعاتنا اليوم، الذين يدرسون فيها أربع سنوات، فبعضهم يدرسون دراسة ضعيفة فرديّة، لا

حضور ولا استماع ولا مناقشة ولا اقتناع، ولا تطاعم في الأخلاق، ولا تأسّي،

ولا تصحيح للأخطاء، ولا تصويب ولا تشذيب للمسلك، وَيَتَسَقّطُون المباحث

المظنونة السؤال من مقرراتهم المختصرة، ثم يسعون إلى تلخيص تلك المقررات،

ثم يسعون إلى إسقاط البحوث غير المهمة من المقررات، بتلطفهم وتملقهم لبعض

الأساتذة، فيجدون لدى بعضهم ما يسرّهم وإن كان يضرهم، وبذلك يفرحون) [٢] .

ما رأي الفتاة المسلمة؟ :

وأتساءل الآن: أين هي الفتاة المسلمة؟ .. إنّ ما تهتم به الفتاة اليوم بعيد جدّاً

عن مثل هذه الأمور! .

هل الخلل يعود إلى فهمها لطبيعة الهدف؟ ! ! أم الخلل في ضعف إيمانها

بضرورة هدف تحيا لأجله؟ أم لعدم إدراكها أبعاد تلك الفكرة؟ أم لسطحية ثقافتها

التي أصبحت شكلاً من الأشكال غير المستهجنة اجتماعيًّا؟ أم إنه المجتمع الذي

يطالبها بأن تنصرف لاهتمامات ضيّقة؟ أم لعدم عناية المناهج الدراسية بهذه الفكرة

والتركيز عليها؟ أم لفقداننا رعاية الفتاة المتعلمة ثقافيّاً واجتماعيًّا على المستويات

الرسمية والمؤسسات التربوية والتثقيفية؟ أم لعدم بناء والديها لها بناءً يقوم على

تصور صحيح لدورها في هذا المجتمع؟ .

إنّ هذه الأسباب مجتمعة تؤدي إلى ما نعاني منه الآن، نعم هناك معاناة

نسائية غير مرئية الأسباب نرى آثارها من جرّاء غياب هذا الوعي على أصعدة

عدة؛ على صعيد الأمة الإسلامية عموماً: على صعيد الزوج، الطفل، محيطها

الاجتماعي، وظائفها التعليمية التربوية خصوصاً.

نعم.. إنها مسألة محسوسة برياضيات العلم ومعادلاته.

فإنسان دون غايات كبرى، قوية، صحيحة الجذور، سليمة التصورات،

مفهومة الأبعاد، هو إنسان خامل عقليّاً؛ نتيجة ضمور الهدف العلمي لديه، الأمر

الذي يترتب عليه انصرافه عن أمور جليلة إلى اهتمامات ضعيفة ... وبعد أن

تصبح المرأة ذات مسؤولية: لا نملك إلا أن نعظم لها المسميّات ونضخم

المصطلحات اللصيقة بطبيعة وظيفتها داخل البيت.. فهي المربية، والمعلمة، وإن

لم تأخذ منهما سوى مسمياتهما، وهي صاحبة الرسالة، وصانعة الأجيال، والله

أعلم بتكوينها ومستوى تركيبها الروحي والفكري ... وإن أصبنا كبد الحقيقة، فهي

منصرفة بما يشبه الكلية عن خصائص لصيقة بالتربية وشؤون قريبة من التوجيه

والبناء. وهذا الحكم لم يتأتّ من فراغ؛ فمن يطالع ما يقدم للمرأة شكلاً ومضموناً

من أدب وفكر.. يستطيع إصدار حكم واضح عادل ليس بعيداً عما ذكرت.

نعم هناك صور مشرقة من نساء يصنعن أولادهن بأعينهن، ويحرصن على

تعلّم ما هو مفيد لجيل واعد مسلم، ومع ذلك: يظل جانب من حياتها لم تُضأ

مصابيحه بعد.. وهو تكوّن قناعات لديها بضرورة التنشيط العقلي والسعي العلمي،

وربط هذه الخدمات بغاية عظمى، إننا نجمّد طاقات مدخرة، ونحوّل طاقات من

حالتها الحركية إلى حالتها الكامنة.. عندما نجعل من هذه الحقيقة الغائبة أمراً تكميليًا

أو ثانويّاً بالنسبة للمرأة، فالآذان ما زالت تسمع من يقول: جميل أن تتعلم المرأة،

لا بأس من تفوّق للمرأة، أمر حسن أن تحصل على درجة علميّة ...

إنّ من الضرورة بمكان أن تستغل المرأة طاقاتها العقلية، وتوظّفها بما يخدم

نفسها وأمتها حتى تزكّي عما وُهبت إيّاه من عقل وفطنة وذكاء، وحتى تحصّن

مجتمعها من خطر محدق به فيما لو لم تزاول دورها بشكل صحيح.

إنّ ضمور عقل الفتاة الفكري أو العلمي لن يعود على مجتمعاتنا بالخير،

والنتائج التي يتمخض عنها هذا الضمور لا تعد ولا تحصى، يكفي أن أذكر منها:

اختلال كفتي ميزان المجتمع ثقافيّا وعلميّاً (فوارق فكرية كبيرة بين الجنسين

المتزوجين) .

خلل في البناء الداخلي للأجيال القادمة.

وأخيراً: فإن صرح الحضارة الإسلامية الجديد ما زال بحاجة إليه وإليها؛

لكي يقفا على خط التجنيد لكل ما فيه خدمة الأمة جمعاء؛ ليواجها معاً، ويدافعا معاً.

إنه بحاجة إلى الجيل المتعلم بفرعيه، فثمّة برامج علميّة كبيرة تنتظرهم وهي

في مسيس الحاجة إلى تآزر وجهود النوعين حتى يعمروا ويشيدوا، وعلى نعم ربهم

يشكروه.

وصدق الله العظيم القائل: [وَاللَّهُ أََخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً

وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأََبْصَارَ وَالأََفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] [النحل: ٧٨]


(١) التربية الإسلامية والمشكلات المعاصرة، إعداد / عبد الرحمن نحلاوي.
(٢) إسلامية المعرفة، د عماد الدين خليل.