للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

الشرعية الدولية.. هل لها شرعية إسلامية

بقلم: عبد العزيز كامل

كثير أولئك الذين تحدثوا عن حكم الإسلام في التحاكم إلى القوانين والأنظمة

الوضعية التي ابتليت بها أكثر البلاد الإسلامية، وكذلك عن التحاكم إلى الأعراف

والعادات والتقاليد القبلية؛ حيث بينوا: أن هذا التحاكم محرم بنصوص الوحي

المحكم، وأن من فعله عن علم ورضا وقصد، فإنه يخرج بذلك عن ملة ... الإسلام [*] .

ولكن الحاجة ماسة إلى البحث عن حكم التحاكم إلى القوانين والأعراف الدولية، تلك التي اختار لها الداعون إليها اسماً يصرح بمرادهم منها، فأسموها: (الشرعية) الدولية، فهي إذن: (شرع) يحكم علاقات الدول والأمم.

فهل هذا التشريع المحدث مقبول كله، أم مردود كله، أم بين هذا وذاك؟ وما

هو الموقف العقدي للأمة منها؟ .

قد لا يتنبه كثير من الناس إلى خطورة تلك العبارات التي أصبحت تتردد على

أسماعنا كل حين عن: (ضرورة احترام الشرعية الدولية) ، و (وجوب الشرعية

الدولية) و (تحريم الخروج على الشرعية الدولية) ! !

إن الأمر لا يعنينا إذا دارت تلك العبارات على ألسنة الساسة في دول

الديمقراطية الغربية النصرانية، أو الاشتراكية الشرقية الإلحادية، ولكن الأمر

يختلف حينما يكون له تعلق بأمتنا الإسلامية، فمن ذا الذي يملك سلطة جعلها أمة

متحاكمة إلى (شرعية) أو (شريعة) غير شريعتها ... ولو في بعض الأحكام؟ !

نعم، إن تلك التشريعات لم توضع خصيصاً لأمتنا الإسلامية، ولكنها من

الناحية الواقعية تشملها وتفرض عليها، وللأسف: فإن الآلة الإعلامية الرسمية في

عالمنا الإسلامي اليوم، لا تكف عن الضجيج حول ترسيخ هذا المفهوم: (احترام

الشرعية الدولية) ، فهل هذه (الشرعية) هي فعلاً واجبة الاحترام، ملزمة في

الاحتكام، عادلة على الدوام؟

أليست الشرعية الدولية هي تلك القوانين والنظم التي صاغتها الدول المتكبرة

المنشئة لما سمي بـ (منظمة الأمم المتحدة) ؟ وأليست تلك المنظمة هي الجهاز

الحاكم والقائم على أكتاف الدول الثلاث الكبرى التي تحالفت وانتصرت في الحرب

العالمية الثانية (أمريكا - بريطانيا - روسيا) ؟ إن تلك الدول تعاقدت وتعاهدت -

ومعها بعد ذلك (فرنسا والصين) - على تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ، حيث أطلقت

على نفسها منذ ذلك العهد: (الأمم المتحدة) ، وهو الاسم الذي اختير بعد ذلك

للمنظمة الحاكمة والمشرعة لصالحها.

لقد صاغت تلك الدول بمفردها ما أطلق عليه: (ميثاق الأمم المتحدة) ؛ لتكون

له المرجعية الكبرى في كل قضية من قضايا العالم، حيث تستمد (الشرعية) الدولية

منه الأحكام والنظم، وتستند إليه في الإجراءات والتحركات.

إن ميثاق (الأمم المتحدة) ليس مجرد وثيقة منشئة لمنظمة دولية، ومحددة

لقواعد العمل بها، وإنما هو أكثر من ذلك بكثير، إن الخبراء في القانون الدولي -

الذين يُطلَق عليهم وصف (الفقهاء) - يعلنون في وضوح وصراحة: أن الميثاق هو

أعلى مراتب المعاهدات الدولية، وأكثر قواعد القانون الدولي سموّاً ومكانة! ولذلك: لم يكن من المستغرب أن تنص المادة (١٠٣) من هذا الميثاق نفسه على أنه: (إذا

تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأمم المتحدة وفقاً لأحكام هذا الميثاق

مع أي التزام دولي يرتبطون به، فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق) ؛

ومعنى ذلك: أنه لا يجوز لأي دولة أن تبرم أي اتفاق دولي تتعارض أحكامه مع

القواعد والأحكام الواردة في ميثاق الأمم المتحدة! ، بعبارة أخرى يمكن القول: إن

أي سلوك أو فعل لأي دولة في العالم يتناقض صراحة، أو يشكل خرقاً لميثاق الأمم

المتحدة، يصبح بالضرورة: فعلاً أو سلوكاً منافياً للقانون الدولي وللشرعية الدولية! وخروجاً عليها.

ويمكنك أن تتصور عشرات الصور لتصرفات يمكن أن تكون من وجهة

النظر الإسلامية واجبة التنفيذ، ولكنها تكون من وجهة نظر (الشرعية الدولية)

محرّمة ومجرّمة، وتشكل خروجاً على شريعة الدول الكبرى! .

فلو أن مارقة من المرتدين، أو خارجة من الخارجين انشقوا على دولة مسلمة، وقاموا بحركة انفصالية انشطارية، فاقتطعوا أرضاً، وأعلنوا فيها دولة، وشاءت

الدول الكبرى أو بعضها أن تعترف بتلك الدولة المنشقة حتى صارت عضواً في

المنظمة الدولية، لما كان بمستطاع تلك الدولة الإسلامية أن تنصب في وجه أولئك

الخوارج أو المرتدين سيف قتل البغاة! ! ، ولو أن طائفة من اليهود أو النصارى أو

الملحدين احتلوا أرضاً إسلامية وأعلنوا فيها دولة لهم، ثم أرادت مشيئة الدول

الكبرى أو بعضها أن تعترف لهم بهذا الاغتصاب - كما حدث كثيراً - لما كان

بإمكان المسلمين - كلهم أو بعضهم - أن يعيدوا هذه الأرض المغتصبة التي

أصبحت بحكم (الشرعية الدولية) ! دولة مستقلة ذات سيادة، ولشعبها الحق في

تقرير المصير! ! ، وهكذا تتشكل وتتطور خريطة العالم الإسلامي على حسب ما

يتقرر في أروقة هيئة الأمم المتحدة.

وأيضاً.. لو صدر قرار، أو اتخذ من الأمم المتحدة ضد أي دولة إسلامية أو

عربية، فإن من واجب جميع الدول الباقية أن تلتزم به، مهما كان ظالماً ومظلماً،

لأنها ينبغي أن تتأدب بأدب العضوية في المنظمة الدولية.

هكذا، وهكذا ... قس على ذلك الكثير مما تسمعه أذنك، وتبصره عينك،

وتزكم برائحته أنفك، مما يدور في عالمنا العربي والإسلامي.

ثم تُدعى بعد ذلك شعوب المسلمين إلى (احترام) الشرعية الدولية للمنظمة

العالمية ... ليت الأمر يقتصر على ذلك، وتكتفي هيئة الأمم بالهيمنة السياسية على

العالم، ولكن الواضح أن الدور المرسوم للأمم المتحدة هو: أن تتحول تدريجيّاً من

مجرد منظمة دولية عامة، إلى تنظيم عالمي شامل؛ من خلال إقامة شبكة كثيفة من

التفاعلات الدولية والإقليمية العامة والمتخصصة، الحكومية وغير الحكومية، وقد

احتوى الميثاق بالفعل على النصوص التي تمكن الأمم المتحدة من أن تتحول إلى

نواة لمنظومة عالمية، تعكس الإطار المؤسسي للنظام الدولي كله، تكون لها أهلية

التوجيه والتخطيط - وربما الإلزام - فيما يختص بالنواحي الاقتصادية والتعليمية

والبيئية والاجتماعية، وكذلك الأسرية لدى شعوب العالم.

ويبدو أن أوضاع العالم قد أوشكت على التكيف لتصبح صالحة لأن تتعامل

معها الدول الكبرى كعجينة تقبل التشكيل وفق أهوائها ومصالحها، ويزداد الأمر

خطورة بتحول العالم إلى القطبية الواحدة التي تمثلها أمريكا ... التي يسيطر عليها

اليهود.

والمؤتمرات الدولية التي انعقدت وستنعقد تحت مظلة الأمم المتحدة تشهد على

ذلك التحول والتطور للمنظومة الدولية، بما يمهد لتمكينها في النهاية أن تكون

(حكومة عالمية) ، وما المؤتمرات مثل: مؤتمر (الأرض) في (ريو دي جانيرو) ،

ومؤتمر (السكان) بالقاهرة، ومؤتمر (المرأة) ببكين ... إلا علامات دالة على

التحول في دور المنظمة الدولية، فاليوم توصيات.. وغداً قرارات ... وبعد غد

تشريعات.

إن الأمم المتحدة قد حشرت أنفها - وبخاصة في المؤتمرين الأخيرين - في

أمور من أخص خصائص التشريع، فهل يراد أن يكون لهذا التشريع (شرعية) ،

وهل يصلح أن ينادى وقتها بضرورة احترام هذا التشريع الوضعي أو ذاك،

وتحريم الخروج عليه باعتباره (شرعية دولية) ؟ ! .

قد يكون لضغط الواقع تأثيره في (تطبيع) مشاعر الأمة، لكي ترضى بهذا

المنكر العريض على المستوى السياسي، فتقبل للدول الكافرة الكبرى بمنصب

(الولاية) على العالم، ولكن ما هو العذر في ترويضها كي تقبل مع الزمن الالتزام

بتشريعات الكفار وتصوراتهم المريضة في الميادين الاجتماعية والاقتصادية

والأسرية؟ .

وحتى على المستوى السياسي: من يقول بمشروعية إخضاع العالم الإسلامي

كله لولاية فوقية غير إسلامية يطلق عليها (شرعية دولية) ! ويطلب لها التوقير

والاحترام؟ ! .

إن مسؤولية إحقاق الحق وإبطال الباطل تقتضي من أهل الدعوة ألا يمرروا

هذا الواقع الاضطراري على أنه أمر مشروع، ففرق كبير بين أن تضطر إلى أكل

لحم الخنزير، وأن تستحل أكله وتعتبره مباحاً، حتى ولو لم تذقه.

إننا في حاجة إلى استبانة خصائص ومقومات وآثار تلك (الشرعية) ! التي

يُراد منا أن نحترمها، ونحن في حاجة كذلك إلى قراءة جديدة لنصوص الوحي،

فيما يتعلق بقضية التحاكم إلى أي شرعية غير الشرعية الإسلامية، ولو كانت هذه

الشرعية هي (الشرعية الدولية) !


(*) انظر: رسالة مفتي الديار السعودية العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم (رحمه الله) حول (تحكيم القوانين الوضعية) نشر دار المسلم بالرياض، وانظر أيضاً رسالة (تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن) ، للشيخ أبي هبة الله الأزهري.