للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

العولمة الاقتصادية.. ومؤتمر الإيواء البشري

بقلم: محمد عبد الله الشباني

عقد خلال الفترة من الثالث حتى الرابع عشر من شهر يونيو لعام ١٩٩٦م في

استنبول مؤتمر الإيواء البشري تحت مظلة الأمم المتحدة، وهذا المؤتمر حلقة من

حلقات المؤتمرات التي دأبت الأمم المتحدة على عقدها وفق دعايتها بتحسين أوضاع

العالم الاقتصادية والتجارية والعمرانية والسياسية والاجتماعية، - لكن حقيقة الأمر

بخلاف ذلك، بل إن هذه المؤتمرات أداة تستخدمها الرأسمالية اليهودية للسيطرة

على العالم اقتصاديّاً وفكريّاً من خلال تأطير السلوك الاجتماعي والسياسي ليوافق

الفكر العلماني الذي تقوم عليه الرأسمالية اليهودية المعاصرة.

إن الإطار الفكري الذي تقوم عليه فكرة المؤتمر وما طرح في وثيقته من أفكار

وأساليب مطلوب من الدول المشتركة في هذا المؤتمر تبنيها لحل مشكلة تؤرق

السياسيين في مختلف أقطار العالم وهي (مشكلة الإيواء وتوفير الأماكن الكافية

لاستيعاب ملايين البشر (، هذا الإطار ما هو إلا غطاء للتسلل لاحتواء موارد

الدول الفقيرة واستغلالها لصالح المؤسسات المالية والمالكين لها من دهاقنة اليهود

والمتهودين فكراً وسلوكاً، ونشر الأنماط السلوكية التي أفرزتها الفلسفة الجدلية

المادية، التي من مقتضياتها الانفلات السلوكي: سواء ما كان له ارتباط بالمنهجية

الاقتصادية، وما يرتبط بذلك من حرية مطلقة في استلاب الآخرين، وتحقيق

المنفعة الفردية على حساب المنفعة الجماعية مع استبعاد الجوانب الأخلاقية في

السلوك الاقتصادي، أو ما كان له ارتباط بأنماط السلوكيات الاجتماعية لسيطرة

الرأسمالية اليهودية ممثلة في الولايات المتحدة بوصفها قوة وحيدة بتمكين هذه القوة

الجديدة من الاستحواذ على العالم؛ ليكون القرن الحادي والعشرين قرن أمريكا.

أهداف المؤتمر:

إن أهداف المؤتمر الذي حددتها مسودته (جدول أعماله) تلبس الحق بالباطل؛

حيث تعلن مفاهيم عامة وتمنيات تُدغدغ بها رغبات الحكومات الفقيرة التي ترزح

تحت وطأة الفقر والحاجة والتخلف، ولكنها في الواقع سراب يُنْفَذُ من خلاله إلى

الهدف الحقيقي المغلف بهذا السراب.

فمن الأهداف المشار إليها في وثيقة المؤتمر التي هي مدخل للأهداف الحقيقية

الأمور التالية:

١- المساواة والعدالة لجميع الأفراد، للحصول على الإيواء وتوفير البنية

التحتىة المكملة للمسكن الملائم.

٢- استئصال الفقر، من خلال توفير المأوى للفئات ذات الدخل المنخفض مع

حق اختيار العمل والحصول عليه.

أما الأهداف الحقيقية للمؤتمر فيمكن فهمها من خلال ما رسم من إجراءات

تنفيذية لتحقيق الأهداف الفضفاضة، وما امتزج ضمنها من مفاهيم أدرجت لتخدم

الغرض الحقيقي للمؤتمر، ويمكن تحديدها على النحو التالي:

١- العمل على تغيير مفهوم الأسرة القائم عل الأسس الدينية والقيم الاجتماعية

الفطرية، وتوسيع هذا المفهوم ليشمل أنماطاً من الأشكال التي تم تبنيها في المجتمع

الغربي بوجه عام، وفي الولايات المتحدة بوجه خاص؛ من خلال تغيير معالم

ومكونات الأسرة كما عرفتها الإنسانية، حيث أشار البند (١٨) من الوثيقة إلى

شمول الإيواء لمختلف أشكال الأسر، والمقصود من ذلك: منح الشاذين جنسيّاً

الذين يكونون فيما بينهم أُسَراً، وتلك الأشكال من العلاقات بين الرجال والنساء

الذين لا يرتبطون بعلاقات شرعية، مساكن للإيواء.

٢- توسيع النظام الربوي، وتمكين المؤسسات المالية الربوية من السيطرة

على المقدرات المالية لدول العالم الثالث، من خلال عمل شبكة من البنوك

ومؤسسات الإقراض، وربط تمويل توفير المباني والبنية التحتىة لمشاريع الإيواء

بالإقراض الخارجي، البند (٣٠) .

الالتزامات المطلوب تنفيذها لتحقيق الأهداف:

من أهم الالتزامات المطلوب تبنيها من قبل المشاركين في هذا المؤتمر

والموقعين على وثيقته الأمور التالية:

١- تغيير قوانين الملكية الخاصة بالأراضي: سواء الزراعية أو السكنية،

وقوانين الإسكان والإيجارات، وفتح باب سوق شراء وبيع العقارات، وإزالة جميع

العوائق الخاصة بتوفير المناخ الملائم لحرية السوق العقاري (البند ٥٦ من الوثيقة) .

٢- تغيير وتعديل الأنظمة لتسهيل حركة الأموال وربط تمويل الإسكان

بالنظام المالي العام للدولة وتعديل السياسة النقدية والمالية لتوفير روح المنافسة،

لتتحرك الأموال من أجل توفير القروض للفقراء، مع توفير الإمكانية لأنظمة

الإقراض لتحقيق استعادة القروض من خلال توفير القوانين والأنظمة لذلك، وإقرار

برامج رهن المساكن لمؤسسات الإقراض المتعددة (البند: ٦١) .

٣- ربط اقتصاديات الدول المتخلفة باقتصاديات الدول الرأسمالية ضمن

المفهوم الذي تبشر به الوثيقة، وهو الاقتصاد الدولي، كما أشارت إليه البنود

(١٤٠، ١٤٧، ١٥٠) ، من الوثيقة، حيث تم التأكيد على ربط السلطات المحلية

بالسوق المالي الدولي ومؤسسات الإقراض الخاصة بالشؤون البلدية، مع العمل

على توفير البنية التي تسمح للاقتصاد الدولي في النمو، والمساهمة في بناء البنية

التحتىة لمشاريع الإيواء وتكوين المراكز الحضرية.

إن تبني الأهداف وقبول الالتزامات التي حددتها الوثيقة التي تم التوقيع عليها

في مؤتمر استنبول يعني التمكين لما يعرف في مجال الدراسات الاقتصادية (بعولمة

الاقتصاد) تحت قيادة صندوق النقد الدولي والمؤسسات التابعة له.

وظاهرة (العولمة) التي أخذت في الازدياد في الفترة الأخيرة لها خطورتها

على النمو الاقتصادي والحضاري والثقافي للمجتمعات المتخلفة، وبخاصة

المجتمعات الإسلامية؛ حيث يتوفر في بلاد المسلمين مصادر الثروات الطبيعية؛

مما يدفع إلى الاستحواذ عليها من قبل الرأسمالية اليهودية العلمانية.

إن أهم مظاهر عولمة الاقتصاد هي: زيادة نمو الشركات المتعددة الجنسية،

ومؤسسات الإنتاج الدولية الطابع والعالمية النشاط، وقد أدى هذا الأمر إلى التشابك

بين مؤسسات الإنتاج على الصعيد القطري والإقليمي، واتجاه الشركات القطرية

إلى توسيع رقعة أنشطتها لتخرج به خارج الحدود الوطنية أو القومية وصولا إلى

المستوى الكوني، والشكل الذي تأخذه العولمة هو قيام المؤسسات الضخمة بمد

نشاطها خارج حدودها الوطنية وإنشاء فروع شبه مستقلة ولكنها تابعة لها في بلدان

الدول المتخلفة، أو تحويل الكيانات القائمة للشركات القومية؛ لتُكوّن فروعاً لها

وتوابع لنشاطها.

لتتضح أبعاد ظاهرة العولمة الاقتصادية أو ما يمكن تسميته بظاهرة الرأسمالية

متعددة الجنسية التي تجمع لديها عناصر القوة الاقتصادية، وما يمكن أن توظفه من

قوة سياسية أو تمارسه من ضغوط على الدول المتخلفة غير القادرة على التعامل

بندية مع هذه الكيانات العملاقة، فالإحصاءات توضح مدى خطورة هذا التمركز

الرأسمالي ... فإذا عرفنا أن إيرادات أكبر خمسمئة شركة في العالم بلغ في عام

١٩٩٤م نحو عشرة تريليون ومئتين وأربع وخمسين بليون دولار، وإذا تم مقارنة

ذلك بمجموع الناتج المحلي الاجمالي لدول العالم في سنة ١٩٩٣م (الذي كان أكثر

قليلاً من ثلاثة وعشرين تريليون دولار) ، أدركنا مدى خطورة تركز الأموال لدى

الرأسمالية العالمية.

إن السؤال الذي يبرز هنا هو: لماذا تتجه الرأسمالية اليهودية في نقل وتركيز

بعض عمليات الإنتاج في الدول المتخلفة؟ .. وإن الهدف الحقيقي هو البحث عن

أعلى معدلات للربح، وهو هدف سهل يمكن تحقيقه بعد أن قامت الرأسمالية

اليهودية بالدفع إلى تبني السياسات الليبرالية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وفشل

الفكر الاشتراكي في تحقيق النمو الاقتصادي للدول التي تبنته.

ومن هنا: نجد أن القوى الرأسمالية من خلال مؤسسات الأمم المتحدة المالية

(البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتوابعهما) وبعد أن تزعمت الولايات المتحدة

العالم؛ أخذت بالدعوة إلى تبني أساليبها الاقتصادية، حيث أصبح تبني هذه السياسة

بدون نظر لمحاذيرها هو التوجه لدى دول العالم المتخلف وبخاصة دول العالم

الإسلامي، فقد أخذ البنك الدولي بتوجيه من الولايات المتحدة بإجبار دول العالم

الإسلامي إلى إعادة هيكلة اقتصادياتها على ضوء هذه السياسة الليبرالية، فاتجهت

لخارج دولها لجذب رأس المال الأجنبي، وتبني مفهوم القطاع الخاص من خلال

استخدام آليات السوق وما يتطلبه ذلك من تحجيم واضح في الملكية العامة، وتدخل

الدولة في النشاط الاقتصادي، وهذا ما تتبناه وثيقة استنبول لحل مشكلة الإيواء.

إن عولمة الاقتصاد الذي تُطالب به الأمم المتحدة برئاسة الولايات المتحدة

حيث يحل مشروع أممية رأس المال بدلاً من أممية البروليتاريا، فما يحصل الآن

من أساليب إجرائية متعددة الأشكال لحل مشاكل اجتماعية واقتصادية هو تمكين

لمراكز النظام الرأسمالي من إعادة احتواء دول العالم المتخلفة وإعادة امتصاص

قواها، طبقاً لمنطق تراكم رأس المال في تلك المراكز.

إن آليات السوق الذي تقوم عليه الفكرة الأساس للرأسمالية: أن من لا

يستطيع كسب قوته يجب أن يموت، فهناك في الغرب فلاسفة ممن يقول: إن

المليار من فقراء العالم الثالث، بل وفقراء الدول الصناعية كانوا زائدين عن الحاجة، وبالتالي: فلا مبرر لوجودهم ولا حاجة إليهم، ضمن مفهوم فلسفة البقاء للأصلح! ، ولذا: تجد الدعوة المستمرة لتغيير مفهوم الأسرة، والدعوة إلى الإجهاض وقتل

العجزة.. وغير ذلك من الدعوات غير الأخلاقية وغير الإنسانية، وما هي إلا

نتيجة العبثية الرأسمالية العلمانية.

إن المخرج من هذا الفخ الذي نصبته الرأسمالية اليهودية هو قدره العالم

الإسلامي في اتخاذ قراره السياسي المستقل، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا طرح

الفكر العلماني ونبذه من مناهجه وتوجهاته، وتبنى الفكر العقائدي الإسلامي وما

يحتويه من سلوكيات وقيم ونظم وتشريعات لتحقيق سعادة الانسان الدنيوية

والأخروية [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ

وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] [الأعراف: ٩٦] . [*]


(*) تأجلت الحلقة الثالثة من دراسة الكاتب الكريم د/ محمد الشباني عن (الربا والأدوات النقدية المعاصرة) وذلك لتواكب المجلة المؤتمر مدار البحث، وموعدنا مع الحلقة المؤجلة في العدد القادم إن شاء الله - البيان -.