للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

يا دعاة الإسلام: لنتجرد ولنصدق

التحرير

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله

وصحبه ومن والاه.. أما بعد:

فالدعوة الصادقة إلى الله هي سبيل كل داعية مخلص لتبليغ هذا الدين وتبصير

الناس بأخلاقه وآدابه وأحكامه [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ

اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] [يوسف: ١٠٨] .

والدعوة إلى المنهاج الصالح الصحيح هي رسالة الأنبياء ومن تبعهم بإحسان

إلى يوم الدين [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ

المُسْلِمِينَ] (فصلت: ٣٣) .

فكلما كانت الدعوة منطلقة من تجريد الإخلاص لله (تعالى) وتجريد المتابعة

للرسول كلما كانت آثارها إيجابية ونتائجها موفقة.

وفي ظل الإحباطات التي تعيشها الدعوة في بعض البلدان؛ نتيجة لنقص العلم

الشرعي، ولفقدان التأصيل الصحيح لمسائل الخلاف: تشتد حاجتنا إلى الرجوع

لمنهج الأنبياء (عليهم السلام) في الدعوة: من البدء بالعقيدة، وتحقيق العبودية لله

(تعالى) ، وتجريد القصد والمتابعة للرسول، والعض على ذلك بالنواجذ.

فكثيراً ما نشاهد في الواقع الدعوي من الأخطاء والتجاوزات ما يمكن إرجاعه

إلى النقص في تلك المؤهلات الآنفة الذكر؛ مما قد يتسبب في فقد تأثير الدعوة في

بعض المجتمعات، وربما أدى إلى تعطيلها.

فقد نشاهد أحياناً من يظن أنّه قد بلغ الآفاق بقوله وفعله، بعبادته ودعوته،

وينتفش بكبرياء واستعلاء، ويتكلم بعجب وأستاذية، حتى يظن أنّ النّاس، كل

النّاس يشيرون إليه بالبنان.

إذا شارك بكلمة أو درس أو خطبة، تسلل العجب إلى قلبه، وشعر أنه

الداعية النشيط، والمجاهد المبارك، والعامل المنتج.. ويقول لنفسه بقوة: نعم،

ولم لا أكون كذلك..؟ ! ، ألم أتحرك حينما تقاعس الناس، وأتكلّم حينما سكت

الناس، وأنتج حينما عجز الناس..؟ ! عملي لا يُلحق شأوه، ودعوتي لايُشقّ لها

غبار.. نظراتي مسددة، وأعمالي موفقة ...

وتلك هي الهاوية..! ! إن الكبر والعجب يقودان في الغالب إلى الأمن من

مكر الله، وهذا داءٌ خطير مقعد، يحطم همة الإنسان، ويقعده عن التضحية والبناء، ويجعله يتآكل من الداخل.. وكيف يصح ذلك ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-

يقول: (إنّ قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلبِ واحدٍ

يصرفه حيث يشاء) ، وها هو ذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في

دعائه: «اللهم مصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك» (رواه مسلم) .

يقول ذلك وهو سيد ولد آدم، الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. بل

يصلي حتى تتورم قدماه، ويقول: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟ !» [رواه ... البخاري] .

تربية تزكي النفس، وتدفعها إلى الاعتصام بالله، ولا تجعلها تركن إلى نفسها، فتعلق القلب لا يكون إلا بالله (سبحانه وتعالى) .

ولهذا: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوصي أصحابه بذلك، فهو يقول

مثلاً لمعاذ بن جبل: «إني لأحبك يا معاذ، فلا تدع أن تقول في دبر كلِّ صلاة:

اللهم أعنِّى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (أخرجه أبو داود) .

إن الخوف من الله، والانكسار بين يديه، والثقة به وحده، هو الذي يهذب

النفس الإنسانية ويروضها، ويطامن من كبريائها، ويحد من غرورها وعجبها،

فالمرء ينشط ويدعو، ويضحي بنفسه وماله، ويبذل قصارى جهده لخدمة هذا الدين.. ومع ذلك: فهو يلح في الدعاء، ويتضرع إلى الله بقلب مخبت منيب، يسأله القبول والرضا، ويشعر بضعفه وحاجته إلى عون ربه (عزّ وجل) ، ولهذا: قالت عائشة (رضي الله عنها) لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قول الله (عز وجل) : [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ] [المؤمنون: ٦٠] : أهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر؟ فقال: «لا يا بنت الصديق، هم الذين يصلون ويصومون، ويتصدقون، يخافون ألا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات» [أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة] .. هكذا ربى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه.

فها هو ذا أبو بكر الصديق يأتيه قائلاً: علمني دعاءً أدعو به في صلاتي،

فقال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت،

فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم» (رواه البخاري) .

أبو بكر.. خير هذه الأمة بعد نبيها يقول: «رب إني ظلمت نفسي ظلماً

كثيراً» ، فكيف إذن يقول غيره..؟ ! كيف نقول نحن..؟ !

أما أبو بكر فيقول: «ودِدْتُ أني شجرة تعضد!» .

وهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ذلك الرجل الجبار القوي في دين الله، الذي أعز الله به الإسلام، وقوّى به المسلمين، الذي إذا سلك فجّاً سلك الشيطان

فجّاً آخر.. حينما علم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علّم حذيفة بن اليمان

(رضي الله عنه) أسماء المنافقين، ذهب إليه وألح عليه في السؤال: هل سماني لك

رسول الله..؟ ! .

شيء عجيب جدّاً.. عمر الفاروق لا يأمن على نفسه النفاق..! ! فكيف يأمن

من كان دونه بمراحل..؟ ! .

وتأتي ثمرة هذه التربية العجيبة حينما طُعن (رضي الله عنه) وهو خليفة،

وجعل يألم، فقال له ابن عباس مواسياً: «يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك، لقد

صحبتَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك

راضٍ، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم

صحبت صحبَتَهم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنّهم وهم عنك راضون» ،

ما الظن بعمر بعد كل هذا الثناء..؟ ! .

هل أحس بالعجب والخيلاء والأمن..؟ ! هل أحس بالانتفاش وتعاظم في

نفسه..؟ ! أم أنّه أسند ذلك إلى فضل الله ومنته؟ .

قال عمر لابن عباس: «أمّا ما ذكرت من صحبة رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- ورضاه: فإنما ذاك منّ من الله (تعالى) منّ به عليّ، وأما ما ذكرت من

صحبة أبي بكر ورضاه: فإنّما ذاك منّ من الله (جلّ ذكره) منّ به عليّ، وأما ما

ترى من جزعي: فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أنّ لي طلاع الأرض

ذهباً لافتديتُ به من عذاب الله (عز وجل) قبل أن أراه» ! (أخرجه البخاري) .

الله أكبر! بهذه النفوس الحية الزكية التي تظهر الحاجة والافتقار لله (تعالى) ،

وتلتجئ إليه بصدق ويقين: تنجح الدعوة وتؤتي ثمارها، وبذلك أيضاً يثبت الرجال

على تحمل أعباء الدعوة وتكاليفها، ويشدون على لوائها وإن أصابهم ما أصابهم من

اللأواء والعنت.

ما أحوج الدعاة إلى التجرّد والصدق، والبعد عن حظوظ النفس وشهواتها،

فكم من الطاقات تهدر وتتآكل بسب التعالي والإعجاب بالنفس، وصدق الرسول

بقوله: «ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال

والشرف لدينه» (أخرجه أحمد والترمذي) .

اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين.