للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هموم ثقافية

إشكالية مفهوم الديمقراطية

من خلال مدارسها [*]

بقلم: سامي محمد صالح الدلال

ليس هناك مفهوم موحد للديمقراطية، بل هو مبدأ تتعدد مفاهيمه بحسب

المدارس الفكرية، ولعلي أشير هنا إلى المدارس التالية:

الليبرالية. الاشتراكية.

الدكتاتورية. المصلحية.

الجبرية. الإسلامية! .

المدرسة الليبرالية:

وهي المدرسة الديمقراطية بالمفهوم الرأسمالي التقليدي، وتقوم على أسس:

الانتخابات. مجلس نيابي.

حكومة تنفيذية.

وتتضمن هذه المدرسة:

تعدد الأحزاب.

فصل السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية.

استقلال القضاء.

وجود ظاهرة الأغلبية والمعارضة في داخل المجلس النيابي.

وسبق أن ناقشت أهم أفكار هذه الإشكالية عند الحديث عن إشكالية مبادئ

الديمقراطية.

سمات هذه المدرسة:

إن أهم ما يميز هذه المدرسة ما يلي:

١- أن انتخاباتها وإن كانت حرة في الغالب، إلا أن نتائج الانتخابات لا تعبر

عن الرأي الحقيقي للناخبين، بسبب خضوعهم للزخم الإعلامي الذي يدخلهم فيما

يشبه التنويم المغناطيسي.

٢- أن كثيراً ممن يحق لهم ممارسة الانتخاب لا يحضرون الانتخابات، إما

بسبب أعذار يعتذرون بها، أو بغير أعذار أصلاً، أو لعدم اقتناعهم بالمرشحين، أو

لعدم اقتناعهم بالديمقراطية مطلقاً، أو لشعورهم أن الديمقراطية تفوّت مصالح لهم،

أو غير ذلك من الأعذار.

٣- لو نظرنا إلى الناخبين في هذه المدرسة لوجدنا أن شرائحهم في الأغلب لا

تتجاوز:

طلبة الجامعات والدراسات العليا.

الموجّهين التربويين في مختلف المراحل التعليمية.

العمال. الفلاحين. المهنيين. الموظفين. التجار.

القادة السياسيين.

المفكرين، والعلماء، والباحثين.

إن الإشكالية هنا ناشئة من ممارسة عملية محددة المعالم رغم الاختلافات

الهائلة بين مستويات الذين يمارسونها، فالقائد السياسي المحنّك له في العملية

الانتخابية صوت واحد مكافئ لصوت الطالب الجامعي في سنته الأولى، فيمكن

لستة طلاب أن يدفعوا بمرشح إلى الفوز بكرسي المجلس، مقابل منافس له من

القادة السياسيين لم يحظ إلا بخمسة أصوات! ! ! .

ومثل ذلك يقال عند المقارنة بين تأثير الأصوات للمفكرين والعلماء والباحثين

بالعمال أو الفلاحين.. وهكذا.

٤- أن طبيعة الوسط الانتخابي، أو بيئته، تترك آثاراً اضحة على العملية

الانتخابية، فالبيئة البدوية أو الزراعية لها إفرازات انتخابية تختص بها مغايرة لتلك

التي تختص بالبيئة المدنية أو الحضرية.

٥- أن التزوير يكاد يكون الميزة الملتصقة بالانتخابات النيابية باستمرار،

وله أشكال شتى، فإما أن يقع بشراء الأصوات، أو عند فرزها، أو من خلال

التلاعب بصناديق الاقتراع، وإما أن يتم بإجبار الناخب على إعطاء صوته لمرشح

بعينه، أو بحجب من يحق له الإدلاء بصوته من المشاركة في الانتخابات، أو

بطرق أخرى غير ذلك، محصلتها النهائية: أنها لون من ألوان التزوير.

٦- قلّما تنتهي انتخابات نيابية دون أن تترك وراءها آثاراً سلبية من العداوات

والبغضاء والشقاق الذي يقع بين الأحزاب والطوائف والقبائل والأفراد، فالانتخابات

بحدّ ذاتها تعتبر واحدة من أدوات التفتيت الاجتماعي، والضعف السياسي، والتبديد

الاقتصادي، والدجل الإعلامي! ! .

٧- أن المرشح في الديمقراطية الليبرالية لا بد أن يكون غنيّاً رأسماليّاً قادراً

على تمويل حملته الانتخابية، أو أن يكون مدعوماً ماليّاً من جهات حزبية أو من

جهات أخرى لها مصلحة من إيصاله لكرسي المجلس النيابي، وهنا يتضح دور

اليهود في استفادتهم من هذا اللون الديمقراطي، حيث إن مكانتهم المالية توظف

بشكل مركز لإيصال المرشحين الذي يحقّقون مآربهم إلى قاعات المجالس النيابية.

٨- لا يشترط في المرشح في الديمقراطية الليبرالية أي مواصفات أخلاقية

تتعلق بحسن السيرة الذاتية، فشرب الخمر، والزنا، والشذوذ الجنسي، لا يعتبر

قدحاً في المرشح، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن هذه الموبقات أصبحت من

العادات المباحة لدى كثير من أفراد الشعوب الديمقراطية الليبرالية في أمريكا وبلاد

الغرب عموماً.

٩- المكانة العلمية والمستوى الثقافي لهما أثرهما في نجاح المرشح؛ حيث إن

ذلك يترك صداه المميز في الوجاهة الاجتماعية.

١٠- الاستعلاء الشخصي، وإبراز المميزات، وتزكية الذات، والحط من

قيمة المرشحين الآخرين، وتسفيه آرائهم وذكر مثالبهم.. من أهم سمات مرشحي

الديمقراطية الليبرالية.

١١- أن أكثر الفائزين بكراسي المجالس النيابية يتنكرون لوعودهم لناخبيهم،

ويخالفون ما ذكروه في شعاراتهم الانتخابية بمجرد أن يستدفئوا بحرارة كراسي

المجلس.

١٢- في الديمقراطية الليبرالية: فإن نبض المجلس النيابي بمناقشاته

وقراراته لا يعبر دائماً عن النبض الشعبي وتوجهاته، فهو في حالات كثيرة يعبّر

عن مصالح النواب الشخصية، وأحياناً أخرى يتوافق نبضه مع نبض الحكومة،

خاصة إذا شعر بقرب رفع سيف الحلّ على رأسه! ! ! [١] .

١٣- أن المجلس النيابي في الديمقراطية الليبرالية يتمتع بصلاحيات مطلقة،

وله الحرية التامة غير المقيدة في اتخاذ أي قرار مهما كان منافياً للدين أو القيم

الإنسانية المعتبرة عرفاً؛ ولذلك: فإن بعض المجالس النيابية الغربية أباحت

ممارسة الشذوذ الجنسي (فعل قوم لوط) ، كما أباحت زاوج المرأة بالمرأة والرجل

بالرجل.

١٤- أن الليبرالية الديمقراطية الغربية هي نتاج طبيعي لغياب احتكام الشعوب

الغربية لمنهاج رباني، لذا: فإنها إفراز حتمي للشعور البشري بحاجته لتنظيمات

وترتيبات يقيم عليها شؤون حياته وطريقة صياغة نظم تحصيل مصلحته؛ فهي

اجتهاد بشري محض لإيجاد وسيلة تشريعية ملزمة للجميع؛ ولذلك: يجب أن

يشترك الجميع في صياغتها الدستورية، ولو بشكل نظري له إيقاع عملي يتم من

خلال المجلس، والمجلس هو الذي عبر بطريقته الخاصة عن ذلك الإيقاع، آخذاً

بعين الاعتبار وبشكل خاص ومحدد تحقيق مصالح أعضائه أولاً.

١٥- أن قرارات الحرب والسلام وميزانية الدولة والسياسات المختلفة لا تأخذ

مجراها في الديمقراطية الليبرالية إلا عن طريق موافقة المجلس النيابي عليها،

وبالتالي: فإن القرارات الكبرى هي بيد المجلس النيابي أكثر مما هي بيد رئيس

الدولة.

وأخيراً أقول: إن الليبرالية الديمقراطية قد مدت بساط نفوذها وتنفيذها في

كثير من دول العالم الثالث وخاصة الدول الإسلامية، وهي تغذ السير ضاغطة بشدة

على دفة المسار الديمقراطي في دول الاتحاد السوفييتي السابق؛ لتحذو حذوها

وتختط مسارها.

المدرسة الاشتراكية:

إن المدرسة الاشتراكية تمثل وجهاً من وجوه الحكم الشمولي [٢] ، وبالتالي:

فإن إلحاق الوصف الديمقراطي بهذه المدرسة بحاجة إلى موائمة تبريرية، فبقدر ما

يبرز الإيقاع الفردي في الديمقراطية الليبرالية، يختفي هذا الإيقاع في الديمقراطية

الاشتراكية؛ ذلك أن المدرسة الاشتراكية تعتمد على التعبير الجماعي عن الحس

الجماهيري، وذلك من خلال تحالف المفردات الإنتاجية في أطر تنظيمية بإشراف

الدولة تحت شعار: (لا إله، والحياة مادة) ، ولذلك: فإنني بعد هذه المقدمة سأوضح

المفهوم الديمقراطي في المدرسة الاشتراكية في النقاط التالية:

١- تقوم الدول الاشتراكية على الأحادية الحزبية، فلا مكان لتعدد الأحزاب؛

فالحزب الحاكم وهو الحزب الوحيد هو الذي يضع قانون الانتخابات، وهو الذي

يحدد طريقة الأداء الانتخابي، كما أنه هو الذي يحدد المساحة النيابية التي يشغلها

المستقلون.

٢- إن المستقلين لا يمثلون في مجلس الشعب الاشتراكي موقع المعارضة،

فالأنظمة الحاكمة في الدول الاشتراكية لا تتسع صدورها لأي شكل من أشكال

المعارضة، فالمستقلون النيابيون يمثلون حالة الانتماء فقط.

٣- إن تقسيمة مجلس الشعب الاشتراكي تعتمد بشكل أساس على التوزيع

المعدّ مسبقاً للمساحات النيابية التي تحدد لكل مرفق عامل، أو كما يسمّونه هم:

مرفق منتج أو إنتاجي، وهم العمال والفلاحون بشكل أغلب.

٤- إن مجلس الشعب الاشتراكي يمثل صيغة تحالفية للقوى المنتجة، فهو

تعبير عن تحالف قوى الشعب العاملة، التي تتشكل قاعدتها ممن يسمون

بالبروليتاريا.

٥- لا ينفرز انتخابيّاً في مجلس الشعب الاشتراكي إلا الحزبيون الذين

يتسنمون مواقع حزبية قيادية.

٦- إن قيادات القوات المسلحة لها مداخلات معينة تؤثر على قرارات مجلس

الشعب الاشتراكي.

٧- إن مجلس الشعب الاشتراكي يجب أن يكون في خدمة السياسة العامة

للحزب الحاكم، وفي حال تسرب عناصر لها اجتهادات مخالفة لتوجهات الحزب

الحاكم: فإن المجلس يُحَلّ، وفي حال تمرده على الحل: يقمع بالقوة.

٨- باستثناء العدد القليل من المستقلين، فإن مجلس الشعب الاشتراكي لا

يمثل الشعب بأي حال من الأحوال، بل يمثل القوى الحزبية، ولذلك: فإن قراراته

لا تصب في مصلحة الشعب، بل تصب في مصلحة الحزب، وبتعبير أدق:

تصب في مصلحة المتنفذين الحزبيين، وهي في كل الأحوال منعتقة عن التقيد أو

الاسترشاد بأي شرعة ربانية حقة: كالإسلام، أو محرفة: كاليهودية أو النصرانية.

٩- وبناء على ما ذكرت: فإن الديمقراطية الاشتراكية هي تعبير اصطلاحي

أكثر مما هي تعبير واقعي عن المفهوم اللغوي للكلمة أو المفهوم الغربي التطبيقي لها، فهي مبنية على الولاء الحزبي وعلى المرتبة القيادية لدى الذي يشغل كرسي

مجلس الشعب، أما المقاييس الأخلاقية: فلا مكان لها في القاموس الاشتراكي، كما

أن الوجاهة الاجتماعية ليست معتبرة لدى المرشحين لشغل كراسي المجلس.

١٠- إن القياديين الحزبيين يشكلون مراكز قوى ابتزازية وانتهازية غير

منظورة، إذ إنهم يستفيدون ماديّاً من مواقعهم الحزبية، من خلال سيطرتهم على

مرافق الإنتاج؛ ولذلك: فإنهم يشكلون طبقة رأسمالية ترتدي قلنسوة اشتراكية.

إن هذه الطبقة هي التي يتشكل منها مجلس الشعب الاشتراكي، فإذا كانت

قرارات المجلس تكرّس المصلحة الحزبية في العموم، فإنها تكرّس بوصف أدق

مصلحة أولئك القياديين الحزبيين.

١١- إن ديمقراطية الاشتراكيين، نظراً لكونها معبرة عن تطلعات الحزبيين،

فإنها تحظى بمعارضة شعبية واسعة، تلك المعارضة التي لا تستطيع الشعوب أن

تعبر عن مكنونها، حتى ولو بطريقة إظهار مجرد الامتعاض، خشية من شدة بطش

القمع الاشتراكي الديمقراطي، إن المكوّنات الجنينية للثورة الشعبية المضادة إنما

تترعرع في رحم ذلك الامتعاض، حيث تتنامي شيئاً فشيئاً، إلى أن تصل إلى

مرحلة التعبير عن الذات عبر ولادة قيصرية تصاحبها آلام مبرحة، تنتهي بالإطاحة

بهذه الديمقراطية الاشتراكية المستغلة، وقد يحدث هذا من خلال تضحيات قليلة كما

حصل في الاتحاد السوفييتي أو من خلال تضحيات جسيمة كما حصل في رومانيا

والله وحده يعلم ما هي التضحيات التي ستصاحب الإطاحة الشعبية بالاشتراكية

الصينية.

المدرسة الديكتاتورية [٣] :

هل للديكتاتورية مدرسة ديمقراطية؟ ! :

نعم، إنها ديمقراطية اللهيب والنار، ديمقراطية القمع والبطش، ديمقراطية

السجون والتعذيب.

إن حديثنا عن مفهوم الديمقراطية الديكتاتورية يمكن تلخيصه في النقاط التالية:

١- إن رواد الأنظمة الديكتاتورية لا يؤمنون بالديمقراطية إطلاقاً، لكنهم

يتوشحون بها لتلميع صورهم البشعة، ويفعلون ذلك من خلال اصطناع مجلس

نيابي.

٢- إن هذا المجلس لا يعبر عن الإرادة الشعبية، ولا يمثل طبقات الشعب،

ولا يتشكل من خلال انتخابات حرة نزيهة، بل من خلال انتخابات موجهة محسوبة

سلفاً، ومحسومة مسبقاً لصالح النظام الديكتاتوري الحاكم، ذلك النظام الذي ربما

كان حزباً متسلطاً أو فرداً طاغياً أو مجموعة أفراد متجبرين.

٣- وبناءً عليه، فإن تركيبة المجلس تكون معدّة سلفاً من قِبَل النظام الحاكم،

ولا يصل إلى المجلس النيابي إلا من وافق النظام الديكتاتوري على وصوله.

٤- ولذلك: فإن أعضاء المجلس النيابي في ذلك النظام الديكتاتوري ليس لهم

وظيفة إلا التسبيح بحمد النظام الحاكم، وسنّ القوانين التشريعية التي توطد هيمنته، وتعزّز مصالح أفراده.

٥- وبناء عليه: فإنه لا يشترط في أعضاء ذلك المجلس أي مستوى ثقافي

رفيع أو وجاهة اجتماعية معتبرة أو مقدرة مالية ظاهرة، إلا بقدر ما يكون في ذلك

من خدمة للنظام (الديكتاتوري) الحاكم، ولذلك: ما أكثر ما يتاجر أولئك الأوغاد

النيابيون بالرشوة، وأكل أموال الناس بالباطل، وما أكثر ما يسيطرون على

الشركات والمؤسسات، ويفرضون عليهم الإتاوات السرية، مستغلّين نفوذهم

ومستفيدين من عضويتهم المجلسية، وهم في كل ذلك يسابقون الزمن انتهازاً

للفرصة قبل أن يأتي أوان انقضائها! !

٦- ولذلك: فإن هذه المجالس النيابية في ظل الأنظمة (الديكتاتورية) لا تتمتع

بأدنى درجة من درجات المصداقية أمام شعوبها، فالعلاقة بين تلك المجالس النيابية

وشعوبها مبنية على عدم الثقة، وعلى التشكيك في النوايا، وعلى استشراء

التوجّسات والتربص بالمواقف.

٧- ورغم كل ذلك: فإن تلك المجالس النيابية تبذل جهوداً جبارة؛ لاطناع

الوجه الحسن للنظام (يكتاتوري) الحاكم لتجميل (كتاتوريته أمام الشعوب المنكوبة

بتلك الأنظمة، ولتلميع صورته أمام العالم، إنها مهمة شعبية ودولية! فيا لهم من

منافقين، كم لهم من الوجوه؟ ! ! .

٨- إن مراكز القوى في الأنظمة الديكتاتورية الطاغوتية الحاكمة تتحكم في

قرارات تلك المجالس النيابية بطريقة التحكم بالآلة عن بُعد (ريموت كونترول) ،

فتصدر تلك المجالس النيابية قراراتها بإشارة من النظام الحاكم، وتلحسها بإشارة

أخرى! ! .

٩- ومن ذا الذي يجرؤ من أعضاء تلك المجالس النيابية على أن يفعل أو أن

ينفعل بخلاف ذلك؟ ! فلو فعل، فسرعان ما تسحب الحصانة المجلسية منه.

١٠- وإذا كان ذلك جائزاً على عضو المجلس، فهو جائز على أعضائه

أجمعين، ففي لحظة يقوم بإصدار أمره المتعالي بحل المجلس النيابي، وإحالة

أعضائه إلى القضاء الجائر لمحاكمتهم.

١١- وعندما يتأكد النظام الديكتاتوري الطاغوتي من حسن التزام المجلس

النيابي بتوجيهاته وأوامره؛ فإنه يتخذ منه وسيلة لقمع شعبه بتشريع القوانين التي

تعطيه صلاحيات واسعة، وأحياناً مطلقة، للأجهزة الأمنية لتدلي بدلوها القذر في

اعتقال الأبرياء وسجن المستضعفين وتعذيب المعتقلين وإعدام المعارضين.

وأخيراً: لا بد من لفت الانتباه إلى أن الأنظمة الديكتاتورية هي تلك الأنظمة

التي يسيطر على دفة قيادتها العسكريون في الأغلب.

المدرسة المصلحية:

تمتاز هذه المدرسة بأن روادها ليسوا ليبراليين ولا اشتراكيين ولا ديكتاتوريين

ولا إسلاميين، ولا يمثلون أي انتماء آخر.

إن روادها هم المصلحيون (الوصوليون) ، تلك الفئة التي رأت أن مكاسبها

تزداد وجيوبها تنتفخ وتجارتها تزدهر إذا سلكت مسلك الديمقراطية.

إن إشكاليتها ليست في تأصيل الفكر العقدي والنظري، بل في تأصيل الفكر

النفعي والمصلحي؛ فأفكارها لا تتجاوز هذه الدائرة، إن هؤلاء النفعيين

والمصلحيين قد يرتدون لباس الليبرالية وليسوا بليبراليين، وقد يرتدون لباس

الاشتراكية وليسوا باشتراكيين، وقد يلبسون لباس الإسلام وليسوا بإسلاميين، إنهم

يدورون مع مصلحتهم حيث دارت، فإذا اقتضت المصلحة خلع لباس الليبرالية

وارتداء لباس الإسلاميين فعلوا ذلك، غير هيّابين ولا وجلين، بل ولا مستحين،

وإذا اقتضت المصلحة خلع لباس الإسلاميين وارتداء لباس الاشتراكيين أو

الليبراليين أو القوميين أو الوطنيين فعلوا ذلك، ظاهرين غير مستترين.

فما هي معالم ديمقراطية هؤلاء القوم؟ !

يمكننا رصد تلك المعالم بما يلي:

١- أن الهيكل العام الأغلب لهذه الديمقراطية ليبرالي؛ لذا: فإنه ينطبق عليها

كثير من الأوصاف التي ذكرتها حول المدرسة الليبرالية.

٢- من خلال الممارسة قد تتطعم ببعض مواصفات المدرسة الاشتراكية

والديكتاتورية.

٣- يمارس المرشحون خلال فترة الانتخابات جميع الوسائل المشروعة وغير

المشروعة للتأثير على الناخبين لاجتذاب أصواتهم، فربما اشتروا الأصوات،

وربما دخلوا في تحالفات انتخابية، وعيونهم خلال كل ذلك منصبّة على حجم

المكاسب ومقدار المنافع وعدد المصالح التي سيجنونها إذا أفلحوا في الوصول إلى

المجلس النيابي، وفي سبيل ذلك: يكيلون الوعود الكاذبة لناخبيهم، وليس في نيّتهم

إلا الخداع والغش والدجل.

٤- يعتبر النواب المصلحيون نجاحهم في احتلال كراسي المجلس النيابي

فرصة ينبغي استغلالها حتى الثمالة، إنها فرصة العمر لتحقيق أوسع المصالح

الذاتية في أقصر المُدَد الزمنية.

٥- لذلك: تراهم منهمكين في استصدار القوانين التشريعية التي تكرس

مصالحهم، وإن كانت على حساب المال العام للأمة.

٦- ما إن يحتل هؤلاء المرشحون كراسي المجلس حتى يبادروا بتأسيس

الشركات، وافتتاح المؤسسات في كافة الخدمات، ولجميع أنواع التخصصات

بأسماء أسرهم وأقربائهم، مستفيدين من مواقعهم الجديدة التي تنفتح أمامها جميع

الأبواب وتذلل كافة الصعوبات وتزال جميع العقبات.

٧-وإذا ما اقترب المجلس من نهاية مدته المقررة سارع النواب المصلحيون

إلى المزايدة على شعوبهم، من خلال طرح بعض المشاريع التي تدغدغ عواطف

الناس، لعلهم يحظون منهم بجميل إعادة انتخابهم للمجلس النيابي الجديد.

٨- أن كثيراً من النواب المصلحيين لا يجدون في تصرفاتهم غضاضة، ولا

يستشعرون في قلوبهم أي حرج إذا أقروا ووافقوا على الصلح مع اليهود مثلاً،

طالما في ذلك تدعيماً لمصالحهم واستبقاءً لكراسيهم، وقد يوافقون الحكومة على

توقيع المعاهدات التي تسوّد بياض البلاد وتكبل حرية العباد.

٩- أن دستور المدرسة الديمقراطية المصلحية قابل للتنقيح في أي لحظة

يراها أصحاب تلك المدرسة، مما يعزز مصالحهم، ولكنه في البلاد الإسلامية غير

قابل للتنقيح إذا كان ذلك لمصلحة الإسلام! ! ! فتأمل! !

المدرسة الجبرية [٤] :

إنها ديمقراطية الالتقاء الجبري، إنها ديمقراطية التعايش الحرج ...

إنها الخيار الأوحد عند أصحابها.. فإما هي وإما الكارثة! ! هكذا يقولون! ! .

إنها ديمقراطية الطوائف والأديان قبل أن تكون ديمقراطية الجماعات

والأحزاب.

إن خير مثال للمدرسة الجبرية هو لبنان.

ذلك البلد الذي فيه من ينتسبون إلى الإسلام (حقّاً أو باطلاً) وهم طوائف عدة:

السنة، والشيعة، والدروز.

ومنهم من ينتمي إلى النصرانية، وهم أيضاً طوائف، من أشهرها المارونية.

وأما الأحزاب فحدث ولا حرج ...

إن أهم ما يميز هذه المدرسة هو:

١- أن الانتخابات في إطارها الواقعي وليس القانوني تتم في الأطر الدينية ثم

الطائفية.

٢- أن توزيع الرئاسات يتم في الإطار العرفي المتفق عليه، ففي لبنان مثلاً:

رئيس الجمهورية نصراني ماروني، ورئيس الحكومة مسلم سني، ورئيس المجلس

النيابي شيعي.

٣- أن المصالح الطائفية مقدمة على المصالح الوطنية.

٤- تسود أعمال المجلس النيابي روح التربص أكثر من روح التعاون.

٥- أن الخلافات في داخل المجلس النيابي تستمد خلفيتها من الصراع

الطائفي، وليس من اختلاف وجهات النطر المتعلقة بالمصلحة البحتة.

٦- أن استمرار بقاء الديمقراطية الجبرية متعلق باستمرار وجود حالة التوازن

في التمثيل الطائفي.

٧- أن البديل للديمقراطية الجبرية هو التقسيم الجغرافي على أسس طائفية،

ذلك التقسيم الذي لا يمكن أن يحصل إلا عبر حرب أهلية، وعندما تعجز كافة

الأطراف عن تحقيق مكاسب على الساحة الجغرافية يعود الجميع قسراً وجبراً إلى

التعايش الحرج في إطار الديمقراطية الجبرية.

٨- أن تمرير أي طائفة من الطوائف لقرار من القرارات من خلال المجلس

النيابي يعتمد بالإضافة إلى عدد الأصوات الداعمة له على القوى المختلفة التي

تدعمه من خارج المجلس، وخاصة القوى العسكرية والقوى السياسية المحلية

والوافدة.

٩- إن حلّ المجلس النيابي في دول الديمقراطية الجبرية يعتبر من أصعب

القرارات السياسية؛ بسبب ما يمكن أن يؤدي ذلك إلى اندلاع الحرب الأهلية

وسقوط البلاد في حمامات من الدماء.

١٠- حتى القرارات الوطنية البحتة والمتعلقة بأمن البلاد واستقرارها

وتحريرها من القوات الأجنبية الغازية، يمكن أن تكون محل خلاف ولا تتفق

الأطراف الطائفية في المجلس على إقرارها، مما يكرّس السيطرة الأجنبية ويساعد

على إبْقائها.

المدرسة الإسلامية:

لا توجد في الإسلام ديمقراطية أصلاً [**] ، وإنما أقحمت الديمقراطية على

المسلمين إقحاماً، وبالتالي: عندما سنناقش هذا الموضوع لاحقاً تحت عنوان

(إشكالية الإسلاميين في فهم الديمقراطية) فإننا لن نناقشه من باب صحة هذا الإقحام، بل من باب ما تورط فيه الإسلاميون من انزلاقهم في هذا المنحدر الخطر، وعلى

هذا الأساس أقول: لا توجد مدرسة إسلامية ديمقراطية، بل توجد مدرسة

ديمقراطية للإسلاميين الديمقراطيين فحسب.

إن خصائص هذه المدرسة وإفرازاتها التي تمثل ورطة حقيقية للمسلمين

ستكون محل بيان وتوضيح عند مناقشتنا للإشكالية المتعلقة بهذا الموضوع، التي

نوهت عنها قبل أسطر.

الملامح المشتركة لمدارس مفهوم الديمقراطية:

من خلال تطواف سريع بالمدارس الديمقراطية التي ذكرتها، يمكننا الإشارة

إلى الملامح المشتركة لها كما يلي:

١- جميع تلك المدارس تشترك في كونها نتاج البشر، متحررة تماماً من أي

استدلال رباني.

٢- أنها تستمد شرعيتها الحقيقية من مراكز القوى الحاكمة، سواء أكانت

طبقة، أو حزباً، أو عسكراً، أو عائلة، أو طائفة.. ومع ذلك: فإنها جميعاً تدعي

استمداد شرعيتها الحقيقة من الشعب! .

٣- أن المجالس النيابية، رغم كون دورها تشريعيّاً ورقابيّاً، فإنها لا تمارس

هذه الصلاحيات بشكل مستقل، بل بحسب ما يوده النظام الحاكم.

٤- إن النظام الحاكم يستطيع شراء عدد غير قليل من ذمم النواب بما يغدقه

عليهم من الأعْطية والامتيازات، بما يجعلهم في النهاية موظفين لصالح خدمة

مصالحه.

٥- من خلال المجالس النيابية يصادَر أي تحرك شعبي، حيث إن حجة

النظام الحاكم جاهزة: ممثلوكم في المجلس، فعلام هذا التحرك؟ ! ! .

٦-الأخلاقيات والسلوكيات تهدر قيمها الحقيقية في جميع المدارس

الديمقراطية.

٧- فيما يخص العالم الثالث: فإن المجالس النيابية كالخاتم في يد النظام

الحاكم يلبسه متى يشاء، ويخلعه متى يشاء.

تلك هي أهم القواسم المشتركة في المدارس الديمقراطية، وإن كل قاسم منها

هو كارثة حقيقية في ذاته! ! .

[فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأََلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] [المائدة: ١٠٠] .


(*) تناول الكاتب في مقالتين سابقتين بالعددين ٩٧، ٩٨ من البيان إشكالية زاوية النظر الديمقراطية.
(١) إن ذلك قلّما يحدث في البلاد الغربية، لكنه كثير الحدوث في بلاد ما يسمى بالعالم الثالث ذات نظام الحكم الديمقراطي.
(٢) لقد تقلصت المدرسة الاشتراكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تقلصاً كبيراً، ولم يبق لها إلا بعض الرموز كالصين وكوبا وبعض المخلفات في العالم الثالث.
(٣) لفظة (الديكتاتورية) ليست لفظة عربية، بل هي لفظة أجنبية دخلت الاستعمال العربي اصطلاحيّاً؛ للتعبير عن (حالة) معينة، هي واحدة من الحالات الكثيرة التي يشملها اللفظ القرآني: (الطاغوت) .
(٤) لا نقصد بهذا التعبير الاصطلاح المعروف عن مفهوم طائفة الجبرية في العقيدة.
(**) قد يتعجب القارئ من هذا القول، ولكنه في نظرنا له وجهه، وقد بحث الموضوع باستفاضة في العديد من الدراسات، من أشملها (نظام الحكم في الإسلام) د/محمود الخالدي، وقد تطرق لبيان هذا الموضوع الشيخ الصادق عرجون (رحمه الله) في كتابه (موسوعة سماحة الإسلام) في فصل (أسطورة الديمقراطية) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -.