للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

[من يملك الحقيقة المطلقة؟]

بقلم: د.محمد يحيى

شاعت في الخطاب العلماني في الآونة الأخيرة مقولة تذهب إلى أن الحوار

مع من يسمون عادة بـ (الأصوليين المسلمين) مرفوض؛ لأن هؤلاء الإسلاميين!

يدّعون أنهم وحدهم يملكون الحقيقة المطلقة، بينما لا يملك خصومهم إلا الضلال..

الحق أن هذه الحجة هي واحدة فقط من عدة مقولات تُروّج لتبرير عدم الحوار

مع الإسلاميين، تارة بحجة أنهم معادون للديمقراطية وسوف ينقلبون عليها بمجرد

وصولهم إلى الحكم، وتارة أخرى بحجة أنهم ليسوا على المستوى الفكري الذي

يؤهلهم للدخول في حوار مع العلمانيين الذين يتسمون بالعقلانية والاستنارة، بينما

يتسم الإسلاميون بالجهل والتخلف! ! .

لكن هذه الحجة الأخيرة تسلط الضوء الفاضح لمقولة ادعاء الإسلاميين بامتلاك

الحقيقة المطلقة، ذلك لأن هذه المقولة، إن جاز أن توجه على الإطلاق، فإنما

يجب أن توجه في المقام الأول إلى الاتجاه العلماني دون غيره على اختلاف وتنوع

مذاهبه وتياراته.

إن التوجه العلماني الفكري الذي بدأ في الغرب مع عصر النهضة (نهاية

العصور الوسيطة في التقويم الميلادي) مع ما يسمى بالنزعة الإنسانية (أي: إعلاء

شأن (الإنسان) ، باعتباره القيمة الأسمى والمعيار الأوحد والمرجع الأخير) هو الذي

ادّعى لنفسه ملكية الحقيقة المطلقة.

لقد مر هذا التوجه بتحولات وتطورات عدة، من إحياء النزعات المادية

الوثنية القديمة، إلى ما وصف بالتيار العقلاني المستنير في القرن السابع عشر

والثامن عشر الميلاديين، وإلى الفلسفات المثالية، ثم المادية (الجدلية والعلمية) في

القرنين التاسع عشر والعشرين، وأخيراً: بفلسفات وتيارات حديثة عدة:

كالبراجماتية، والوجودية ... وغيرها.

ولكن في كل هذه التحولات كان التوجه العلماني الذي نُقل إلينا وفرض علينا

في البلاد العربية والإسلامية في أشكال ساذجة وسطحية، ولكنها متطرفة هو الذي

يدّعي أنه يمتلك الحقيقة المطلقة في وجه خصمه الرئيس، وهو الدين (المسيحية في

أوروبا، ثم الإسلام في عالمنا العربي) .

وعلى الرغم من أن هذا التوجه جاء على أيدي مفكرين وكتاب وفلاسفة لا

يزعم أحدهم أنه يوحى إليه من السماء بل يؤكدون بشريتهم إلا أنهم زعموا لفكرهم

هذا أنه الحقيقة المطلقة، في الوقت الذي أضفوا فيه النسبية على الأفكار الدينية،

التي هي بطبعها مطلقة، على الأقل لانتسابها إلى الله خالقاً متعالياً يغيِّر ولا يتغير.

دأب التوجه العلماني بأشكاله إذن على أن ينسب لنفسه وحده امتلاك الحقيقة

المطلقة في كل مجالات القيم والمبادئ الخلقية والاجتماعية والتاريخية والعلمية،

فالعقل الذي يزعم هذا التوجه أنه هو أداته الأساسية مطلق أبدي، لا نسبية فيه ولا

تغير، وهو الذي يُنَصّب حاكماً، تعرض عليه شتى العقائد، والأفكار، والمذاهب، فيخطئها، أو يصدقها ويقرها.

وأمام العقل أو بالأصح: أمام التوجه العلماني فالكل نسبي متغير، وجزئي

غير مكتمل، فالأديان ليست إلا مواضعات تاريخية جاءت لأسباب مادية، ثم زال

أثرها، أو زالت مصداقيتها وصلاحيتها مع زوال هذه الأسباب، والقيم والمبادئ

في الأخلاق والاجتماع والفنون.. غير ثابتة، بل هي الأخرى متغيرة بتغير البيئات

والظروف التي أنتجتها، بل إن معاني اللغة واصطلاحاتها ليست هي الأخرى

بمعزل عن عوامل النسبية والتغير، فالنص يعني غداً ما لا يعنيه اليوم، والعكس

صحيح.

الوحيد الذي يتعالى على كل هذا التغير والسيولة وعدم الثبات والنسبية

والجزئية هو: العقل العلماني! ، وهو ضمان اليقين المطلق، وراعيه، وفارضه

على الأشياء والأفكار.

بهذه البساطة يذهب التوجه العلماني إلى أنه هو مالك الحقيقة المطلقة، وأن

كل ما عداه باطل وضلال، أو هو على الأصح: نسبي، وناقص، وغير دائم.

إذن: هم يرمون الإسلام والإسلاميين بالنقيصة والتهمة التي تتجلى أوضح ما

تتجلى فيهم هم، والزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة إذن ليس بجريمة ولا عيب؛ لأن

العلمانيين بشتى مذاهبهم هم أول من ينادي به لأنفسهم، لكن هناك جانباً آخر للقصة:

فالعلمانيون عندما يتهمون الإسلاميين بادعاء امتلاكهم للحقيقة المطلقة يوحون

ويلمحون (بل يصرحون في أحيان كثيرة) إلى أن هؤلاء يقولون أن كل ما يزعمونه

هو الصواب المطلق، حتى لو كان رأياً في الشؤون الزراعية، أو التجارية، أو

طريقة من طرق التدريس، أو تنظيماً لحركة المرور، أو حلاّ لمشكلات الصناعة

والتقنية، أو وسيلة من وسائل مد المرافق الأساسية أو البنية التحتية.. وهذا ما لم

يفعله أحد من الإسلاميين، حتى من يحاول منهم أن يؤصل بعضاً من هذه الأمور

بإرجاع حلولها أو التعامل معها إلى مبادئ الشريعة الإسلامية.

إن الزعم العلماني بغير ذلك يرمي إلى تشويه صورة مخالفيهم، ويعتمد على

حيلة منطقية أو جدلية سخيفة، تقول: بأن ينسب للمرء أبعد الآراء وأكثرها غرابة

مما لم يقله في مجال كان له فيه رأي قريب إلى العقل والصواب.

ويرمي العلمانيون من وراء هذه الحملة إلى أن يقوضوا كل ما يقول به

الإسلاميون، ليس في مجال الشؤون الحياتية التقنية، بل في مجال العقيدة والقيم

العليا؛ من ذا الذي سيثق فيما يقوله أشخاص زعموا أنهم وحدهم يمتلكون الحقيقة

المطلقة في ميادين الري، والصرف، والمجاري، والحاسبات، وتعبئة البضائع..

وكلها أمور نسبية متغيرة مفتوحة لاجتهادات وإضافات الباحثين من المسلمين وغير

المسلمين على حد سواء؟

لكن الحقيقة المطلقة التي قال الإسلاميون فعلاً أنهم يمتلكونها لا تقع أبداً في

هذه المجالات، هذا ما يدركه جيداً العلمانيون، وإنما تقع في مجال آخر أعلى

وأسمى، هو نفسه المجال الذي ادعى العلمانيون لأنفسهم امتلاك الحقيقة المطلقة فيه، ألا وهو مجال العقيدة العليا في مسائل الألوهية، والخلق، والبعث والنشور،

والهداية، والشريعة، فهنا يؤكد الإسلاميون بل كل المسلمين أن إلههم واحد أحد،

وأنه هو الذي بعث الأنبياء والرسل، وأن القرآن وحيه المنزّل، والعلمانيون كذلك

لهم حقيقتهم المطلقة في هذا المجال، فالذين يؤمنون بالدين منهم حسبما يقولون

يفترض أنهم يتفقون مع المسلمين في الإيمان بهذه الحقيقة أو الحقائق المطلقة، أما

الذين لا يؤمنون بالإسلام: فلهم حقيقتهم المطلقة الخاصة بهم، وهي كما أسلفنا:

مفهوم العقل، الذي يحولونه من حقيقته النسبية الجزئية المحدودة إلى كيان مطلق.

إن كل الجعجعة والطنطنة حول رفض الحوار مع الإسلاميين وإقصائهم

وإبعادهم بل واضطهادهم عن ساحات الفكر، والثقافة، والعمل الاجتماعي،

والسياسي، التي يهيمن عليها ويحتكرها العلمانيون.. ليست سوى حجج جوفاء

تغطي على الحقيقة المطلقة التي تحكم سلوك التوجه العلماني منذ أن عرفناه، وهذه

الحقيقة المطلقة هي: السيطرة التامة على كل مفاتيح الحياة والفكر والحركة،

وإبعاد كل المخالفين عنها، إلى حد التصفية الشاملة، واستغلال هذا الاحتكار

الأحادي لتشويه صورة الخصوم، والإيهام والتمويه بأن كل العيوب قد اجتمعت فيهم.

ولو كان العلمانيون من المؤمنين حقّاً في سلوكهم وفكرهم بالمبدأ النسبي في

طرح الأمور كلها، لجاز لهم أن ينتقدوا الإسلاميين، إلا أنهم كما رأينا لا يؤمنون

بهذا المبدأ؛ لسبب بسيط ووجيه، هو: أن أحداً لا يستطيع مهما ادعى أن يؤمن به

أو يطبقه؛ لأن الفكر (أي فكر) لا بد له من ثوابت منطقية أو بدهية؛ حتى يستطيع

مجرد الوجود والقيام.

أما دعاوى النسبية والتميع وعدم الثبات التي تروج: فالمستهدف فيها

المسلمون في المقام الأول؛ لإضعاف عقيدتهم وزعزعتها في النفوس، بينما تبقى

عقائد العلمانيين ومعها عقائد أخرى صليبية وصهيونية ثابتة، راسخة، مطلقة،

تقام على أسسها وبها الدول والأنظمة، وتستباح في سبيلها كل حرمات المسلمين.