للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مناقشة ابن عباس للخوارج

دروس وعبر

معن عبد القادر

أصيبت الأمة الإسلامية في القرون المتأخرة في أعز ما تملك وهو عقيدتها

الصافية النقية التي جاء بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- من عند الله عز وجل،

وسار عليها صحابته رضوان الله عليهم، وتبعهم في ذلك ثلة من الأولين وقليل من

الآخرين، ولا تزال طائفة من الأمة سائرة عليها كما أخبر بذلك الرسول -صلى الله

عليه وسلم-.

وهذه المصيبة العظيمة لها جذور تاريخية ترجع إلى القرون الأولى. فقد

بدأت هذه المصيبة بمقتل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-

على يد مجوسي حاقد، ثم قتل ذي النورين عثمان بن عفان --رضي الله عنه-،

بمؤامرة دنيئة، ثم ظهر القول بنفي القدر، ثم أوقدت الفتنة بين المسلمين، ودار

القتال بينهم، ثم خرجت الخوارج بمقولة شنيعة، ثم ظهر التشيع، وازداد ... أهله غلواً وبعداً عن الدين، وانتشر الرفض في بقاع شتى من العالم الإسلامي.

وفي كل مرة كانت هذه الانحرافات تجد من يتصدى لها من الرجال الأفذاذ

الذين جمعوا بين العلم والعمل، والجهاد في سبيل الله، وكان هؤلاء يعملون على

تنقية الأجواء الإسلامية من كل انحراف ومن كل دخيل.

وفي الأسطر التالية أثر يتحدث عن نموذج لانحراف خطير ظهر في هذه

الأمة، وكيف تصدى لهذا الانحراف رجل تخرج من مدرسة الرسول -صلى الله

عليه وسلم- التي تخرج منها أعظم الرجال.

وهذا الأثر فيه فوائد شتى، لم يكن المقصود استخراجها جميعاً، بل ترك ذلك

للقارئ الكريم، وإنما حسن التنبيه على بعض فوائده على وجه الاختصار.

وطريقة عرض هذا الأثر هي: عرض جميع رواياته التي وقفت عليها ومن

ثم إدراج الزيادات على السياق الأصلي، وقد أسوق نصًا غير النص الأصلي - في

بعض المواطن - لأن في ألفاظه زيادة فائدة.

وسياق الرواية الأصلي هو لمتقدم المخرجين لهذا الأثر من أصحاب مصنفات

الحديث.

وهذا نص الأثر:

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما خرجت الحرورية اجتمعوا في دار -

على حدتهم - وهم ستة آلاف وأجمعوا أن يخرجوا على علي بن أبي طالب

وأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- معه، قال: جعل يأتيه الرجل فيقول: يا

أمير المؤمنين إن القوم خارجون عليك، قال: دعهم حتى يخرجوا فإني لا أقاتلهم

حتى يقاتلوني وسوف يفعلون. فلما كان ذات يوم قلت لعلي: يا أمير المؤمنين:

أبرد عن الصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم فأكلمهم، قال: إني أتخوفهم عليك. قلت:

كلا إن شاء الله تعالى وكنت حسن الخلق لا أوذي أحدًا. قال: فلبست أحسن ما

أقدر عليه من هذه اليمانية، قال أبو زميل: كان ابن عباس جميلاً جهيرًا. قال: ثم

دخلت عليهم وهم قائلون في نحر الظهيرة. قال: فدخلت على قوم لم أر قط أشد

اجتهادًا منهم، أيديهم كأنها ثفن [*] الإبل، وجوههم معلمة من آثار السجود، عليهم

قمص مرحضة، وجوههم مسهمة من السهر. قال: فدخلت. فقالوا: مرحبًا بك يا

ابن عباس! ما جاء بك؟ وما هذه الحلة، قال: قلت ما تعيبون علي؟ لقد رأيت

على رسول الله أحسن ما يكون من هذه الحلل، ونزلت [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ

الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق] قالوا: فما جاء بك؟ قال: جئت أحدثكم

عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن عند صهر رسول الله -صلى

الله عليه وسلم- عليهم نزل الوحي، وهم أعلم بتأويله، وليس فيكم منهم أحد، فقال

بعضهم: لا تخاصموا قريشاً فإن الله تعالى يقول: [بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ] ، وقال

رجلان أو ثلاثة لو كلمتهم.

قال: قلت أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- وختنِه، وأول من آمن به، وأصحاب رسول الله معه؟

قالوا: ننقم عليه ثلاثاً.

قال: وما هنّ؟

قالوا: أولهن أنه حكّم الرجال في دين الله، وقد قال الله: [إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ] ، فما شأن الرجال والحكم بعد قول الله عز وجل.

قال: قلت وماذا؟

قالوا: وقاتل ولم يَسْبِ ولم يغنم، لئن كانوا كفارًا لقد حلت له أموالهم ولئن

كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم.

قال: قلت وماذا؟

قالوا: محا نفسه من أمير المؤمنين. فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير

الكافرين.

قال: قلت أعندكم سوى هذا؟ قالوا: حسبنا هذا.

قال: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم، وحدثتكم من سنة نبيه -

صلى الله عليه وسلم- ما لا تنكرون [ينقض قولكم] أترجعون؟

قالوا: نعم.

قال: قلت أما قولكم: حكّم الرجال في دين الله، فإن الله تعالى يقول: [يَا

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ] ،إلى قوله: [يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ] . وقال في المرأة وزوجها: [وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ

وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا] . أنشدكم الله أحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم، وإصلاح

ذات بينهم أحق أم في أرنب ثمنها ربع درهم، وفي بضع امرأة. وأن تعلموا أن الله

لو شاء لحكم ولم يصير ذلك إلى الرجال.

قالوا: اللهم في حقن دمائهم، وإصلاح ذات بينهم.

قال: أخرجت من هذه؟

قالوا: اللهم نعم.

قال: وأما قولكم قاتل ولم يسب ولم يغنم، أتسبون أمكم عائشة، أم تستحلون

منها ما تستحلون من غيرها، فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها ليست أم المؤمنين فقد

كفرتم، وخرجتم من الإسلام، إن الله يقول: [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ

وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] ، فأنتم مترددون بين ضلالتين، فاختاروا أيهما شئتم، أخرجت

من هذه؛ فنظر بعضهم إلى بعض.

قالوا: اللهم نعم.

قال: وأما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بما ترضون، فإن

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا قريشًا يوم الحديبية أن يكتب بينه وبينهم

كتابًا فكاتب سهيل بن عمرو وأبا سفيان. فقال: اكتب يا علي هذا ما قاضى عليه

محمد رسول الله، فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت،

ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال: والله إني لرسول الله حقًا وإن

كذبتموني، اكتب يا علي: محمد بن عبد الله، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم-

كان أفضل من علي -رضي الله عنه- وما أخرجه من النبوة حين محا نفسه.

أخرجت من هذه؛ قالوا: اللهم نعم. فرجع منهم ألفان، وبقي منهم أربعة آلاف

فقتلوا على ضلالة.

هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في (المصنف، باب ذكر رفع السلام

١٠/١٥٧ رقم ١٨٦٧٨) ومن طريقه - بنفس اللفظ تقريبًا -أخرجه أبو نعيم في

(الحلية ١/٣١٨) ، وأخرجه البيهقي في (السنن الكبرى ٨/١٧٩) ، وابن عبد البر

القرطبي في (جامع بيان العلم وفضله ٢ / ١٠٣ طبعة المنيرية) ، ويعقوب بن

سفيان البسوي في (المعرفة والتاريخ ١/٥٢٢) ، والحاكم في (المستدرك ٢/١٥٠-

١٥٢) ، وأخرج بعضه الإمام أحمد في (المسند ١/٣٤٢، ٥/٦٧ رقم ٣١٨٧،

طبعة شاكر) كلهم أخرجوه من طريق عكرمة بن عمار ثنا أبو زميل الحنفي ثنا ابن

عباس به، ولكل منهم لفظ مختلف وزيادات أثبتنا منها ما كان فيه زيادة معنى.

وهذا الأثر نسبه الهيثمي في (مجمع الزوائد) إلى الطبراني وأحمد في المسند،

وقال: رجالهما رجال الصحيح، وأشار إليه الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية ٧ /

٢٨٢) ، وابن الأثير في (الكامل) وابن العماد الحنبلي في (الشذرات) ، وذكر

غيرهم سياقات أخر لهذه القصة ولكنها عن غير ابن عباس من غير هذا الطريق،

وإنما مقصودنا رواية ابن عباس فقط..

وقال أحمد شاكر في تعليقه على (المسند ٥ / ٧ ٦ رقم ٣١٨٧) : إسناده

صحيح. اهـ

أصول ودروس مستفادة من الأثر:

أولاً: لقد أتى الخوارج من قبل فهمهم السقيم لنصوص الشرع، ويرجع

ضلالهم إلى أسباب أهمها:

١- فهم النصوص ببادئ الرأي، وسطحية ساذجة، دون التأمل والتثبت من

مقصد الشارع من النصوص، فوقعوا في تحريف النصوص وتأويلها عن معناها

الصحيح.

٢-أخذهم ببعض الأدلة دون بعض، فيأخذون بالنص الواحد، ويحكمون على

أساس فهمهم له دون أن يتعرفوا على باقي النصوص الشرعية في المسألة نفسها،

فضربوا بعض النصوص ببعض (وبهذا أسكتهم ابن عباس -رضي الله عنه-، فقد

كان يأتيهم بباقي الأدلة في الموضوع نفسه، فلا يجدون لذلك جواباً) .

وسبب ضلال الخوارج هو سبب ضلال طوائف عديدة من المسلمين. يقول

الشاطبي رحمه الله أن أصل الضلال راجع إلي (الجهل بمقاصد الشريعة،

والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت، أو الأخذ فيها بالنظر الأول، ولا

يكون ذلك من راسخ في العلم) [١] .

ثانياً: الحرص على وحدة المسلمين وجماعتهم، وتوحد صفهم، وهذا ظاهر

من موقف على -رضي الله تعالى عنه- ابتداء حين (جعل يأتيه الرجل فيقول يا

أمير المؤمنين: إن القوم خارجون عليك فيقول: دعهم حتى يخرجوا، فإني لا

أقاتلهم حتى يقاتلوا وسوف يفعلون) فكان -رضي الله عنه- حريصًا على أن لا يأتي

إلى الخوارج بشيء من القتال ونحوه يفرق به المسلمين، ويضعف شوكتهم، ما لم

يخرجوا هم عليه، أو يؤذوا المسلمين ببدعتهم.

وهذا الأصل متمثل أيضًا في موقف ابن عباس -رضي الله عنهما- في

حرصه على الخروج إليهم وانتدابه نفسه للتفاهم معهم، وتفنيد شبهتهم وإرجاعهم

إلى الحق.

فهذا الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمون من الامتناع عما يضعف شوكتهم،

ومن بذل الجهد في جمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم، ولابد أن نُتْبِع هذا الأصل بأصل

آخر وهو:

ثالثًا: ولعله من أصل الأصول وأعظمها لكثرة ما تشتد إليه حاجة المسلمين

ألا وهو (السبيل إلى وحدة المسلمين وجمع صفهم) .

إن وحدة المسلمين أصبحت مقولة يقولها كل مسلم، وكل جماعة، فالكل

ينادي بالوحدة والكل يزعم أنه ساعٍ إليها حريص عليها، ولكن ما هو السبيل الحق

إلى تحقيق هذه الوحدة، هنا موضع الخلاف، وهنا تزل الأقدام، وتضل الأفهام،

وتنحرف الأقلام.

إن وحدة المسلمين مطلب شرعي ومقصد عظيم من مقاصد الشريعة، فلا بد

أن تكون الوسيلة إليه شرعية. إن وحدة المسلمين يجب أن تكون عبادة نتقرب بها

إلى الله عز وجل، والله لا يعبد إلا بما شرع، وكل عمل ليس عليه أمر الشرع فهو

رد كما أخبر بذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

إن وحدة المسلمين بمعناها الشرعي الصحيح، تعني أن يعودوا جميعًا إلى

الفهم الصحيح لكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- على فهم السلف

الصالح، هكذا وهكذا - فقط - يمكن أن نتحد، وهذا هو السبيل الوحيد لوحدة

الصف، وهذا الذي سلكه ابن عباس وأقره عليه على -رضي الله تعالى عنهما-.

ذهب ابن عباس -رضي الله عنهما- إلى الخوارج حتى يعيدهم إلى الصف

الإسلامي، فبين لهم أولاً وقبل أن يناظرهم المنهج الصحيح، فقال: (أرأيت إن

قرأت عليكم من كتاب الله المحكم، وحدثتكم من سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-

مالا تنكرون ... ) إذن هو الكتاب والسنة والعودة إليهما، وقد كان صرح لهم قبل

ذلك بالفهم الذي ينبغي أن نفيء إليه إذا اختلفت أفهامنا فقال: (جئت أحدثكم عن

أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن عند صهره، عليهم نزل الوحي،

وهم أعلم بتأويله) الله أكبر! ما أنصع هذا المنهج وما أشد وضوحه، الرجوع إلى

الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح.

وبعد أن بين لهم المنهج شرع يدحض حجتهم، ويفند شبهتهم، ويوضح فساد

منهجهم فمن عاد منهم وتنازل عن معتقداته وآرائه، واعتقد اعتقاد جماعة المسلمين

فقد عاد إلى الصف، ومن أبى وأصر على معتقده فهو خارج على الصف ولا سبيل

للوحدة معه، بل عندما آثار بقية الخوارج الفتنة، قام إليهم علي -رضي الله عنه-

فقاتلهم ولم يتحرج في ذلك.

إن السبيل إلى وحدة المسلمين هو الاتحاد على الأصول الثابتة من الكتاب

والسنة وكل سبيل آخر للوحدة لا تقره الشريعة، ولا يجوز لنا - ونحن عباد الله

سلمنا أمرنا إليه - أن نجعل منها صنمًا نستجيز من أجله كل وسيلة غير مشروعة.

إن الوحدة التي تنشأ عن ضم الطوائف المختلفة في الأصول في دائرة واحدة،

وإعطائها مسمى واحد على اختلاف عقائدها، هي وحدة غير شرعية، وإن الصف

الذي ينشأ عنها ليس مرصوصًا.

ولنتأمل في قول الله عز وجل: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً] ، ثم قال:

[وَلاَ تَفَرَّقُوا] ، يقول الشاطبي رحمه الله تعليقًا على الآية: (تبين أن التأليف إنما

يحصل عند الائتلاف على التعلق بمعنى واحد، وأما إذا تعلقت كل شيعة بحبل غير

ما تعلقت به الأخرى فلابد من التفرق وهو معنى قول الله تعالى: [وَأَنَّ هَذَا

صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ] [٢] .

إذن فتضييع الأصول من أجل الوحدة سبيل غير شرعي، بل هو فوق ذلك

عمل لا يقره العقل، وإليكم التوضيح.

إن التفرق بين المسلمين حاصل ولابد، فكلام الله حق [وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ

* إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ] وكلام رسوله حق «تفترق هذه الأمة على ثلاث

وسبعين فرقة» ... وقال: «سألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» فإذن

فإنه يستحيل في الواقع أن يزول الاختلاف تمامًا وأي مسلم يوقن بمعاني هذه

النصوص، ليس عنده طمع في ذلك فهذا أمرٌ قضى الله به، ولكنه ستبقى طائفة

على الحق.

فإن كان الأمر كذلك فهل يعقل أن نفرط في أصولنا - ونحن معاقبون إن فرطنا - من أجل السعي في حصول أمر مستحيل.

إن كل مسلم مخلص صادق غيور يحزن على حال المسلمين، ويغتم له

ويتأسف عليه أسفًا شديدًا، ولكن ليس الحل أبدًا أن نفرط في الأصول من أجل

تحقيق أمر قد قرر الشارع أنه لا يكون، كيف وقد أمرنا الله بقتال طائفة من

المسلمين إن بغت وهل يكون القتال إلا تفرقة؟ بل وفيه ما هو أشد من ذلك، ولكنه

أمر الله [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] .

وعذرًا أخي القارئ إن أطلنا في هذا الأصل، فلقد فحش فيه الخطأ

والانحراف.

رابعًا: الحكم في تقييم الرجال: إن أحوال الخوارج من كثرة العبادة والاجتهاد فيها غير خافية على أحد، فلقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم..» وقال ابن عباس في ...

وصفهم كما في هذا الأثر: ( ... لم أر قط أشد اجتهادًا منهم، أيديهم كأنها ثفن ... الإبل، ووجوههم معلمة من آثار السجود ... ) ومع كل هذا فلقد أتوا ببدعة ... خطيرة، ووضعوا بذور الخلاف بين المسلمين، وليس من مسلم سليم العقيدة ... ... إلا ويذكرهم في معرض الذم، ولم يذكرهم العلماء في مصنفاتهم إلا للتحذير ... ... من بدعتهم وبيان فساد معتقدهم دون أدنى فخر واعتزاز بعبادتهم. ...

إن المنهج الإسلامي الواضح، يدلنا على أنه يجب تقييم الرجال أولاً من منطلق معتقداتهم وتصوراتهم، وجميع السمات الأخرى -إذا أقرها الشرع - تأتي بعد ذلك لا قبله. فلو انطلقنا في الحكم على الخوارج من خلال شدة اجتهادهم في العبادة، وجعلنا ذلك هو المقياس الأول في ... الحكم عليهم، لكان ينبغي أن نجلهم ونحترمهم، فنرفع درجتهم حتى فوق درجة الصحابة إذ يقول الرسول،صلى الله عليه وسلم، لصحابته في شأن ... الخوارج: «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم» فكم يكون هذا التقييم سخيفًا؟ ...

ولكن الأمر يختلف تمامًا، ويعود إلى نصابه الصحيح، عندما يحكم عليهم من

خلال معتقداتهم وتصوراتهم فنرى أنهم قد ابتدعوا في دين الله بدعة خطيرة فاحشة،

فوضعوا بذور الخلاف والفتنة.

إن الاعتقاد الصحيح، يليه العمل الصالح، هو الذي يميز المسلم الحق

المنتمي إلى أهل السنة والجماعة، أما كل الاعتبارات الأخرى فإنه يشترك فيها

المسلم الحق مع غيره من أهل البدع والضلال. فلا ينبغي أن تكون معيارًا أساسيًا.

ونتيجة لانحراف هذا الأصل عند كثير من الإسلاميين -فضلاً عن عامة

المسلمين -وجدنا من غالى في الثناء على جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده

وغيرهما، وذلك أنه حكم عليهم من منطلق ظنه بأن لهم جهدًا مشكورًا في نشر

الإسلام والدفاع عنه، ولم يضع للاعتبار الأساسي وزنًا، فلم يضع في حسابه أن

الأول كان شيعيًا، وأنه كان عضوًا بارزًا في الماسونية ومؤسسًا لبعض فروعها في

البلاد العربية، وأن الثاني - مع إخلاصه في الدفاع عن الإسلام - قد أوَّل

المعجزات وقدم العقل على النقل، وكانت له علاقة مشبوهة مع المستشرقين.

لقد شاع تعظيم بعض الرجال وتقديسهم على ما هو أقل من ذلك، مثل قدمه

في مجال الدعوة، أو كثرة الأفراد الذين اهتدوا على يديه، أو شدة التعذيب الذي

لاقاه من الطغاة، أو طول فترة السجن في زنزاناتهم. ولا نعني بكلامنا أبداً أن مثل

تلك الأعمال لا وزن لها، بل لها فضل عظيم إن صح الأصل الأول، وحتى لو لم

يصح فنحن نعترف بالحق، ونثبت الفضل لكل صاحب فضل، ولكن المحظور هو

الانسياق وراء العواطف، فنعظم الرجال ونتحمس لهم، ونشهد بعدلهم وصدقهم

ونزاهتهم، بل وكثيًرا ما نسمع من يشهد لهم بالجنة! ! لأجل اعتبار من تلك

الاعتبارات.

خامسًا: إن تبني الخوارج لموقفهم ابتداء لم يكن عن تثبت وتمحيص ونظر

ولذلك فقد زالت شبهتهم، ودحضت حجتهم بعد دقائق معدودة من بداية المناظرة،

وإن كان القسم من الخوارج الذي فاؤوا إلى الحق يمدحون على ذلك لتجردهم

وإخلاصهم، وعودتهم إلى الجادة الصحيحة حينما تبين لهم ذلك دون مماراة ولا

مماطلة، وإن كانوا يمدحون على ذلك فإنهم ينتقدون على سرعة تبنيهم للفكرة ابتداء

دون تثبت وتمحيص.

إن الذين لا يعتنقون الفكرة عن اقتناع عميق بالفكرة ذاتها، وبعد تثبت من

أدلتها الشرعية الصحيحة بمنهج سليم، يكثرون التنقل.

إن الدعوة المعاصرة تواجه تحديات ضخمة، ومشاكل عدة، من الداخل

والخارج، فما لم يكن أصحابها على قناعة شرعية قوية بأفكارهم، وبأدلتها فإنه لا

يؤمن عليهم التذبذب بين الصف والصف إن بقي عندهم الحماس للإسلام، أو

الانتكاس إن فقدوا حماسهم لدينهم.

وإنه لمن المؤسف حقًا أن نرى كثيًرا من أتباع الدعوات، أذهانهم خواء من

كل فكرة أصيلة، مليئة بتاريخ دعوتهم وسيرة عظمائهم فقط هي زادهم في الطريق، ودافعهم إلى العمل، فنصيحتنا إلى كل مسلم مخلص، أن يستوثق من أصوله،

ويطلب عليها الأدلة الشرعية وأن يفهمها بالمنهج الصحيح، وأن يفتش بتجرد عن

قناعته بالأفكار التي يؤمن بها ويدعو إليها، وينظر هل هي أصيلة أم أنها موجودة

بوجود المؤثر والمرغب، فإن زال المؤثر زال التأثير، ولنأخذ درسًا عظيمًا من

الصحابي الجليل كعب بن مالك- أحد المخلفين الثلاثة-وقد هجرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وترك المسلمون السلام عليهم، ثم جاءته الدعوة للجوء إلى من يعززه ويكرمه [٣] فلم يتذبذب أو يتردد، بل قذف رسالة ملك غسان إلى التنور لشدة إيمانه بأنه على الحق، ونصيحة لإخواننا الدعاة: إن الذي يتبنى فكرة بسرعة ولظروف معينة عرضة لأن يتخلى عنها بنفس السرعة، لظروف أخرى.

سادسًا: إن مخالفة ابن عباس التامة للخوارج في جميع الأفكار والتصورات

لم تمنعه من العدل في القول، فقد كان بمقدوره السكوت لكن العدل مع المخالفين

جعله يصفهم بما وجد فيهم -وإن كان في هذا الوصف مدح لهم -قال: (فدخلت

على قوم لم أر قط أشد اجتهادًا منهم في العبادة ... ) فعلى العاملين في حقول الدعوة

إلى الله الاتصاف بالعدل مع مخالفيهم، وعدم الامتناع من ذكر محاسنهم، بل

ويحرصوا على أن يستفيدوا منها [٤]

سابعًا: وما كان هذا الدرس بحاجة إلى أن يذكر لظهوره ووضوحه وكثرة

الأدلة عليه، لولا أن التفريط فيه قد وقع من كثير من العاملين للإسلام فضلاً عن

عامة الناس، ألا وهو الحرص على صلاة الجماعة.

ولقد سمعنا حوادث عديدة عمن يفرطون في حضور الصلاة جماعة مع

المسلمين في المساجد بحجة انشغالهم بطلب العلم، أو ببعض البحوث الهامة، أو

أنه وإخوانه يتداولون أمرًا يهم المسلمين، فيعتذرون بذلك عن تفويتهم الجماعة.

فعلى هؤلاء وغيرهم، أن يتأملوا في حال ابن عباس، وقد انتدب نفسه لمهمة

عظيمة، لا شك في أن فيها مصلحة للمسلمين، ومع ذلك فحرصه على صلاة

الجماعة شديد إذ يقول لعلي -رضي الله عنه-: (أبرد عن الصلاة، فلا تفتني حتى

آتي القوم فأكلمهم ... ) .

فهل نفقه هذا الأمر، ونعلم أن التمسك بأحكام الدين جميعها واجب على كل

فرد، وهو من أبرز سمات المسلم، وهو من تعظيم حرمات الله، فلم نتهاون

ونتساهل في أوامر الله يا عباد الله؟

ثامنًا: ينبغي على الدعاة إلى الله عز وجل، من أصحاب المنهج الصحيح ألا

ييأسوا من عودة الطوائف المنحرفة إلى المنهج القويم ممن أمعنوا في الضلال،

فهاهم الخوارج على شدة بدعتهم وتمسكهم بها (حتى أن عبد الرحمن بن ملجم -

أحدهم - قد قتل عليًا تقربًا إلى الله بقتله) ومع ذلك فقد عاد منهم كثير إلى الحق بعد

أن تبين لهم، فلا ينبغي أن نيأس من عودة تلك الطوائف المنحرفة إلى الحق،

خاصة وأن كثيرًا من المنتسبين إليها هم من الأتباع حجبهم مشايخهم ومتبوعوهم عن

الاستماع للمخلصين خوف تذبذب موقفهم وتخليهم عنهم، فلم يصل الحق إلى كثير

من الأتباع حتى تحصل لهم المقارنة بينه وبين ما هم عليه.

فعلى الدعاة إلى الله أن يحرصوا على الوصول إلى الأتباع بعيدًا عن الملأ

والمشايخ والقادة.

هذا، ولا يزال في القصة دروس عظيمة، منها أسلوب المناظرة والجدل مع

أهل البدع ولعلنا نفرد هذا في مقال خاص، ونشير في الختام إلى بعض الدروس

الأخرى الهامة، التي لا يتسع المقام للتفصيل فيها، ولعل في الإشارة إليها كفاية

لأولي الألباب.

ففيها أن ينتدب الكفء نفسه للمهام وأن الإخلاص وحده لا يكفي في صحة

العمل، وأن على الداعية أن يغشى الناس في مجالسهم، وعليه أن لا يستثار لانتقاد

ذاته، وفيها أيضًا استئذان الفرد قائده إذا هم بفعل ما.

نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، إنه سميع مجيب.


(*) ثَفِن: مفردها (ثفنة) بكسر الفاء: وهي ما ولى الأرض من كل ذات أربع إذا بركت، كالركبتين وغيرهما، ويحصل فيه غلظ من آثار البروك، وتجمع أيضًا على ثفنات (النهاية ١/٢١٥) .
(١) الاعتصام للشاطبي ٢/١٨٢.
(٢) الاعتصام للشاطبي ٢/١٩٢.
(٣) اقرأ القصة كاملة في صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك ٨/١١٣ رقم ٤٤١٨ الطبعة السلفية الأولى.
(٤) اقراً مقال: (وإذا قلتم فاعدلوا) من هذه المجلة أعداد رقم ٥، ٦.