للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات تاريخية

أتاتورك..

حقيقته.. والدور الذي أداه

(١ من ٢)

بقلم: ياسر قارئ

يمتد عمر الدولة العثمانية عبر ستة قرون ونصف من الزمان (٦٩٩ /١٣٤٠ هـ) ، وبالتالي: فهي تشغل جزءا كبيراً من تاريخ الإسلام منذ أن بزغ فجر الدعوة المحمدية وعمّ نورها أركان الأرض، ولقد كان للأتراك الحظ الأوفر من رعاية المسلمين والحفاظ على مجتمعهم، ومن الطبيعي جدّاً أن تتعرض دولة كهذه للمؤامرات الخارجية والحروب الضارية، خاصة إذا علمنا حجم الرقعة التي شملتها، والمقدار الذي اقتطعته للإسلام من أوروبا النصرانية، فقد تسابق الملوك والرؤساء في أوروبا على حربها، وتولى الفاتيكان كبر هذه العمليات، واتحدت أوروبا الممزقة على هدف واحد، هو: تصفية الوجود العثماني في أوروبا على أقل تقدير، واستعادة بيزنطة منها، إذا لم تنجح محاولاتها في إنهاء حياتها بالكلية، إلا أن حكمة الله أبت أن يكتب لتلك المحاولات النجاح، فعمدت أوروبا إلى أسلوب آخر هو أمضى وأنجع على الرغم من كونه خفيّاً وغير ملموس، إذ سرّبت إلى الجسد المسلم خلايا فاسدة تظاهرت بالإسلام وأبطنت الكفر، مستغلة بذلك سذاجة بعض المسلمين وغفلتهم، وتأويلات بعض المرجفين، أو انهزامية بعض المؤمنين، فسعت في الأرض وعاثت فيها فساداً، حتى نجح الثالوث اليهودي النصراني الوثني في تحقيق الحلم الأوروبي الكبير، وانمحت من الوجود دولة الخلافة وسلطان المسلمين، وغدت ديار الإسلام نهباً للأمم والشعوب الأوروبية (المتحضرة) ، التي ارتقت بها إلى الخراب الاقتصادي والفساد الأخلاقي.

هل كانت هذه المؤامرة امتداداً لفتنة عبد الله بن سبأ؟ .. الأسلوب والنتائج

يشيران إلى تشابه كبير، فهل تواصوا به؟ ! .

كما يقول المنصرون في أدبياتهم: «إنه لا يهدم البيت إلا أحد أركانه» ، لذا فقد فطن أعداء الإسلام إلى غرس فئة من اليهود في جسد الدولة العثمانية

يتظاهرون بالإسلام، فيما يقومون وبالتنسيق مع أعدائها بدك عرشها، وإزالة ... سلطانها، تلك الطائفة التي عرفت بيهود (الدونمة) ، وهذه اللفظة التركية تعني الردة عن الإسلام [١] ، وقد تركزت في منطقة (سلانيك) في الأراضي اليونانية حالياً، حيث نسجت خيوط اللعبة التي أدت بالدولة العثمانية إلى مصيرها المحتوم، وهنا: لا بد من الإشارة إلى أن الدولة هي التي تسببت في ذلك ابتداءً؛ إذ إنها لم تسع جاهدة إلى نشر الإسلام بين صفوف رعاياها، واكتفت بترك الطوائف وشأنها، بل تهاونت معهم كثيراً، الأمر الذي انعكس سلباً عليها وفتح ثغرة فيها نفذ منها الأعداء، فكانت الكارثة، ولقد شكل اليهود الخطر الأكبر على الدولة؛ بسبب مديونيتها لهم من جهة، وطبيعة هذا الشعب الماكر وحقده على السلطان عبد الحميد الثاني الذي رفض السماح لهم بالهجرة إلى فلسطين من جهة أخرى، فما برحوا يحيكون الدسائس ويستغلون الأحداث لإنهاء هيمنة دولة المسلمين على (الأرض المقدسة) ، وقد برز من يهود الدونمة رجل ساهم بشكل كبير في تغيير مجرى التاريخ المعاصر، حيث ألغى كيان الخلافة التي استمرت لمدة أربعة عشر قرناً في لمح البصر! !

سؤال خطير وجوابه:

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف تمكن فرد من تحقيق ما عجزت عنه

أوروبا بقضها وقضيضها، ولمدة سبعة قرون تقريباً؟ .. هذه الدراسة تحاول تسليط

الأضواء على هذه الشخصية ودورها وميراثها، وقد قسمتها إلى مقدمة عن

الأوضاع قبيل ظهور هذا الرجل، ثم مولده ونشأته، والتساؤلات حول أصله ونسبه، ثم تطرقت إلى تدرجه في السلك العسكري، وبروزه على الساحة، ثم صناعة

الإنجليز له وعلاقته بهم، بعد ذلك تعرضت إلى أعماله إبان فترة حكمه، وختمت

البحث بالحديث عن الإرث الذي تركه، ومدى استمرار الدولة في السير على نهجه.

تمهيد عن الأوضاع في فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني:

اعتلى عرش السلطة في وقت حرج جدّاً شاب طموح وعبقري، قد بزّ أهل

زمانه، وفاق أقرانه من الحكام، ذلكم هو السلطان عبد الحميد خان الثاني، الذي

حكم البلاد منذ سنة ١٢٩٣هـ (١٨٧٦م) إلى سنة ١٣٢٧هـ (١٩٠٩م) ، أي:

قرابة ثلاثة وثلاثين عاماً، وقد كانت الحياة الاقتصادية في عهده رخيصة، وأوشك

مؤشر التضخم الاقتصادي على الهبوط إلى الصفر، على الرغم من الحروب

الروسية المتتالية، ومضايقة الإنجليز المستمرة في مجال التجارة الدولية، لكن فئة

الضباط الذين عاشوا في أوروبا وجلهم من غير المسلمين لم تعجبهم تلك السياسة

الحميدة في الوقت الذي مات فيه ألوف البشر بسبب المجاعة في أيرلندا والهند

الخاضعتين للحكم الإنجليزي، ثم إن بريطانيا كانت تكره السلطان بسبب وقفه

لطموحاتها وتغلغلها في أراضي الدولة العثمانية من جهة، وسلطانه الروحي على

رعاياها في المستعمرات وكذلك النصارى الواقعين تحت حكمه من جهة أخرى [٢] .

في تلك الحقبة: فُتحت المجالس النيابية في روسيا وإيران، وقد سرت هذه

الظاهرة إلى الدولة العثمانية، فتطلع الشعب الذي شعر بالملل من طول فترة حكم

السلطان إلى النظام البرلماني الشائع في أوروبا، وقد استجاب السلطان لتلك

المطالب، فشكل لجنة للنظر في الدساتير الغربية والاستفادة منها، لكن أوروبا

المتربصة والمعارضين المفتونين بها أصروا على وضع دستور عام يضمن استقلال

المناطق والشعوب، مما يعني عمليّاً إلغاء سلطة الدولة على رعاياها، الأمر الذي

فطن إليه السلطان، وقد نصحه بذلك أيضاً المستشار النمساوي «بسمارك» ، لذلك: شكلت المعارضة جمعية في فرنسا تدعى (الاتحاد والترقي) ، القصد المزعوم منها: تطوير نظام الحكم [٣] ، وقد طالب أعضاؤها بمنح جميع الأقطار استقلالاً ذاتيّاً

وتقسيم البلاد على أسس قومية [٤] .

رضخ السلطان لمطالب المعارضة باستئناف أعمال مجلس المبعوثان (النواب) لكن الاتحاديين وكما يبدو من قرارات مؤتمر باريس قد أصروا على تنفيذ خطتهم

بتقسيم البلاد، بل وخلع السلطان بقوة السلاح، فأغاروا على العاصمة في سنة

١٩٠٩م، ولم يشأ السلطان مواجهتهم، بل استسلم لقضاء الله وقدره على الرغم من

سيطرته على الجيش! إلا أنه لم يشأ إراقة الدماء بسببه هو! ، فآثر مواجهة

الموقف وحيداً بعد أن أخلى القصر من الحرس، وتلك من حسناته التي يتعالى عنها

الحاقدون والمرجفون [٥] .

لقد استغل اليهود (جمعية الاتحاد والترقي) للعمل ضد السلطان عبد الحميد

المتربص بمخططاتهم.. والمتتبع لطبيعة القادة البارزين فيها: يتأكد أنها ليست

تركية أو إسلامية، فأنور باشا: بولندي، وجاويد باشا: من الدونمة اليهود،

وقارصوه يهودي إسباني، وأما طلعت باشا وأحمد رضا فهما من أصل غجري

تظاهرا بالإسلام [٦] ، وكما يذكر أحد المؤرخين: فإن السلطان قد أمر بجمع

المعلومات عن الصهاينة من سفاراته وإرسال مخبرين متنكرين إلى اجتماعاتهم

ليوافوه بالتقارير عنها، وكذلك إرسال قصاصات الصحف والمجلات الأوروبية

المتعلقة بنشاطهم [٧] ، لذلك: لا نفاجأ عندما يصرح طلعت باشا في مذاكرته بأن

الوفد الذي أخبر السلطان بعزله لم يكن فيه مسلم أو تركي واحد! ، وإنما كانوا:

يهودي، وأرمني، ويوناني، ويوغسلافي [٨] ، وهذا ما دعى أحد المؤرخين

الأتراك إلى القول بأن الثورة سنة ١٩٠٨م تقريباً من عمل مؤامرة يهودية ماسونية،

وشاركه الرأي رفيق بك أحد شخصيات الجمعية البارزة [٩] ، ومما يؤكد هذه

الحقيقة: أن جيش الجمعية الذي احتل (إستانبول) كان مكوناً من أرباب السوابق

وعصابات الروم والبلغار والأرناؤوط (الألبان) ويهود الدونمة من (سلانيك) ... وغيرها [١٠] ، فيما يحاول مستشرق فرنسي موتور تلميع صورة أولئك الأوباش، فيزعم أنهم ينحدرون من صفوف البورجوازية الصغيرة كالمحامين والصحفيين وصغار الضباط [١١] ، وللمزيد من الأدلة على دور اليهود في توجيه الجمعية والثورة لتحقيق أهدافهم: هذه شهادة من طلعت باشا (العضو في الجمعية) يعترف فيها بأن (الاتحاد والترقي) كان أمل اليهود المنشود، بينما يتنبأ شخصيّاً بإقامة دولة يهودية في فلسطين [١٢] ، ويزيد الصورة إيضاحاً كلام الدكتور رضا نور، إذ يعترف بأن الآمر الناهي في الاتحاد والترقي هم: جاويد، وقارصوه، وهما من يهود الدونمة، وطلعت باشا، وهو ماسوني [١٣] .

مصطفى كمال.. مولده ونشأته:

كما يقال بأن الشائعة إذا راجت في زمانها كان لها أثر كبير من الصحة،

ومصطفى كمال، المولود في مدينة (سلانيك) باليونان حالياً سنة ١٢٩٦ هـ ... (١٨٨٠ م) ، تحوم حول نسبه شكوك أثيرت في أيام طفولته حول هوية والده من ناحية، وحول أصله العرقي من ناحية أخرى، فوالده مجهول الهوية؛ إذ عندما قدمت له صورة والده الرسمي أنكرها [١٤] ، بينما يُقال: إن والده هو علي رضا، الموظف الحكومي المتواضع، وقد توفي ومصطفى ابن سبع سنين، فتولت أمه (زبيدة) رعايته، فكان يدرس اللغة الفرنسية سرّاً في العطلات المدرسية على يد رئيس دير فرنسي، وكان يعتني به شخصيّاً بصفة خاصة [١٥] ، فيما يدّعي بعض المطلعين بأن أباه قد مات بسبب عدم سيطرته على فسق زوجته وفجورها، وأن الأب الحقيقي لمصطفى هو إما صربي أو بلغاري أو روماني، وقد تبرأ علي رضا أفندي من مصطفى رسميّاً، إلا أنّ السجلات أزيلت من المحكمة [١٦] من جهة أخرى: فإن الأدلة الأنثروبولوجية لمصطفى كمال بشُقْرَته وعينيه الزرقاوين، وجمجمته: تؤكد أنه أكثر ما يكون بعداً عن الملامح التركية [١٧] .

التحق مصطفى كمال بالجيش بعد إنهائه للثانوية العسكرية، وهناك أضيف له

اسم «مصطفى» بسبب تشابهه مع أحد المدرسين، وكان من المعجبين بنابليون

والثورة الفرنسية، وكان له اهتمام بعلاقة الجنسين والحرية التامة لهما [١٨] بعد

تخرجه من الكلية الحربية بإستانبول خاطب زملاءه قائلاً: «إن الباشاوات

العثمانيين كلهم في غفلة وانخداع بفكرة العالم الإسلامي، وعلينا أن نجمع كل منابع

قوتنا في الأناضول التركي» [١٩] ، عُيِّن قائداً في الشام، وكان يتردد على مقهى

للعمال الإيطاليين ليشاركهم في الرقص وشرب الخمر، وهناك كوّن (جمعية الوطن

والحرية) في سنة ١٩٠٦م، كما أسس مع رفاقه فروعاً لها في يافا والقدس وبيروت، وكان قد التحق بالمحفل الماسوني (فداتا) [٢٠] ، ثم رجع إلى سلانيك سنة ١٩٠٧ م، حيث قضى أوقاته في الملاهي، لكنه تمكن عن طريق المحافل الماسونية هناك

من الترويج لحركته التي سميت (تركيا الفتاة) ، والتي اندمجت لاحقاً مع الاتحاد

والترقي [٢١] ، ولكن الاتحاديين لم يرتاحوا له، فنفوه إلى طرابلس الغرب في

مهمة عسكرية، ثم رجع إلى سلانيك، وعين قائداً للواء الثامن والثلاثين، وكان

هو أول من يتخلى عن التحية الإسلامية في الجيش [٢٢] ، وقد أكد السلطان عبد

الحميد توجس الاتحاديين من مصطفى كمال، إذا تجاوزوه وعينوا أنور باشا وزيراً

للدفاع؛ لأن به سكوناً خطيراً جعل طلعت باشا يتجاهله ويؤيد أنور باشا الذي كان

يتفاداه [٢٣] ، وفي حقه يقول أنور باشا: إنه «إذا ترقى إلى رتبة باشا فإنه يرغب

أن يكون سلطاناً، وإذا أصبح سلطاناً فإنه يرغب أن يكون إلهاً!» [٢٤] ، هذا

الطموح الشخصي والغرور الذي لا حد له سينعكس على كل قراراته وسياساته

المستقبلية، كما سيمر معنا.

بروزه على مسرح الأحداث وعلاقته بالإنجليز:

ملكت الثقافة الألمانية على زعماء الاتحاد والترقي الذين شكلوا الحكومة التي

أعقبت خلع السلطان عبد الحميد عقولهم وقلوبهم، فاندفعوا خلف ألمانيا في الحرب

العالمية الأولى ظنّاً منهم أن ذلك سوف يحميهم من التوسع البريطاني في أراضي

الدولة العثمانية، تلك الحرب التي كان ينتظرها السلطان المخلوع (عبد الحميد) ؛

لكي تدمر أوروبا نفسها، ويخرج هو سالماً بعدم مشاركته فيها [٢٥] ، وبعد أن

ورطوا البلاد في حرب خاسرة: رحل كبراء الجمعية (طلعت، وأنور، وجمال)

إلى ألمانيا، وبذلك خلت الساحة أمام مصطفى كمال، وبدأت أسهمه في الصعود،

لكننا لا بد أن نذكّر بأنه كان سبباً في هزيمة الدولة في حرب البلقان سنة ١٩١٢م؛

لانسحابه من المعركة حتى لا يحصل أنور باشا على شرف الانتصار، ثم انتُدب

لتخليص الحجاز من الإنجليز إبان اندلاع الحرب العالمية الأولى، وكانت خطته

العسكرية توصي بالتضحية بالحجاز مقابل المحافظة على القدس [٢٦] ، ثم ما لبث

أن انسحب أمام الجيش الإنجليزي في سورية، وبالاتفاق مع القائد (اللنبي) ؛

فتسبب في هزيمة الأتراك، لكنه لايكتفي بذلك، بل ينعى على الاتحاديين سياستهم

الموافقة لألمانيا والتي دمّرت الدولة [٢٧] ، ولا نزيد على أن نقول: «إذا لم تستح

فاصنع ما شئت» .

انتهت الحرب واحتل الحلفاء إستانبول، ودخل الجنرال الفرنسي «دسبري» المدينة، ممتطياً جواداً أبيض أهداه له سكان المدينة من اليونانيين؛ أسوة بما

فعله السلطان محمد الفاتح قبل ٤٦٦ عاماً [٢٨] ، لكن السلطان محمد وحيد الدين

السادس لم يصبر على الضيم ونظراً لعجزه شخصيّاً عن إثارة القلاقل في وجه

الحلفاء: فإنه عدل إلى مصطفى كمال باشا الذي أمده بالأموال اللازمة [٢٩] ، كما

أطلق يده، إذ عينه مفتشاً عامّاً لجيش الأناضول، ليقوم بالثورة على قوات

الاحتلال، فيتسنى بذلك للسلطان هامش للمناورة والمساومة السياسية مع المحتلين،

وقد أمده بمئة وعشرين ألف ليرة ذهبية [٣٠] ، ويبدو أن السلطان قد تجاهل

خيانات مصطفى كمال السابقة للدولة وتواطؤه مع الإنجليز، بينما اعتقدت بريطانيا

أن المشاكل المثارة في الأناضول تجري بناءً على عرض سابق تقدمت به إليه (أي: إلى مصطفى) سنة ١٩١٧م عندما كان قائداً في فلسطين، تطلب فيه الثورة على

السلطنة والخلافة مقابل مساعدته في ذلك [٣١] ، وربما كان هذا الرأي هو الأقرب

إلى التصديق؛ إذ لم تمانع إنجلترا في خروج مصطفى كمال من إستانبول بحراً إلى

مدينة سامسون، وهو الذي دحر الحلفاء في جناق قلعة [٣٢] ، وقد استغرب (ثريا

إيدمير) مؤلف كتاب (الرجل الأوحد) ، عن أتاتورك تصرف الإنجليز هذا،

وتزول الغرابة تماماً عندما نعلم بأن الجنرال اللنبي رشح مصطفى كمال لقيادة

الجيش السادس المرابط بالقرب من الموصل، حيث النفط والنفوذ الإنجليزي في

المنطقة الذي يتطلب شخصاً يستطيع الإنجليز التعامل معه [٣٣] .

وبالفعل: أجج مصطفى كمال الشعب على الاحتلال العسكري للبلاد، لدرجة

اضطر معها الإنجليز إلى الطلب إلى السلطان بتنحيته عن قيادة المنطقة، وفي هذا

الصدد: يضيف شيخ الإسلام (مصطفى صبري) بأن السلطان قد ماطل في

فصل مصطفى كمال لمدة شهرين على الرغم من تذمر قوات الاحتلال، واستمر في

دعوته للعودة إلى إستانبول، لكنه أبى، وقد ظل السلطان يحسن الظن به حتى قال

فيه: «ليخدم الوطن وليغتصب عرشي» ! [٣٤] ، علماً بأن أنور باشا بعث

ببرقية إلى السلطان يحذره فيها من «أن إرسال مصطفى كمال إلى الأناضول

سيكون بداية لمصائبنا» [٣٥] .. وبعد أن أُعفي من منصبه العسكري سارع إلى

عقد المؤتمرات (أرضروم سنة ١٩١٨م، وسيواس سنة ١٩١٩م) لتعزيز سلطته في

المنطقة، وقد خرج المجتمعون بتوصيات، منها: المحافظة على أراضي الدولة،

واستقلال الشعب، ومقاومة الاحتلال.. وتم تغيير اسم الجمعية إلى جمعية (الدفاع

عن حقوق شرق الأناضول والرومللي) ، أي: إسقاط باقي مناطق الدولة،

والمحافظة على المناطق التركية فقط [٣٦] ، كما تم انتخاب مصطفى كمال رئيساً

للجمعية.

وتستمر فصول المسرحية الهزلية، فيهاجم مصطفى كمال وجيشه مستودعات

الأسلحة والذخائر التابعة للحلفاء، وأرسلوا ما حصلوا عليه إلى الأناضول بوصفه

غنائم حرب [٣٧] ، فكان رد الفعل الإنجليزي هو: إرسال قواتها لاحتلال إستانبول، والزّج بنوّاب مصطفى كمال بالبرلمان في السجن، وحلّ البرلمان، ونفي بعض

أعضائه، وفرض الرقابة على الصحف والبريد والبرق والوزارة، وتم تشكيل

وزارة جديدة.. وكل ذلك بموافقة السلطان الذي لا يملك من أمره شيئاً، ثم أجليت

القوات الإنجليزية عن (إسكى شهر) و (قونية) دون الاشتباك مع قوات مصطفى

كمال المحاصرة، فظهر للناس وجود معسكرين، أحدهما يضم السلطان والمحتلين

الإنجليز، بينما يتكون الآخر من المناضل! مصطفى كمال ومؤيديه [٣٨] ، أما

المناضل الوطني! فقد أوعز إلى مفتي مدينة أنقرة بإصدار فتوى تندد بفتوى مفتي

إستانبول القاضية بمحاربة الكماليين؛ بحجة أنها والسلطان والحكومة محتلين من

قبل الإنجليز [٣٩] ، وهذه هي حيلة المنافقين دائماً: الإذعان إلى الدين متى ما

احتاجوا إليه في دعم باطلهم، كما أعلن عن تكوين برلمان في مدينة أنقرة ومقر

للحكومة لمكافحة الأجنبي، وكان مما صرح به هو: «أن كل التدابير التي ستتخذ

لا يقصد منها غير الاحتفاظ بالخلافة والسلطة، وتحرير السلطان والبلاد من الرق

الأجنبي» [٤٠] ثم إن الإنجليز قاموا في تلك الأثناء بنشر بنود معاهدة (سيفر) ،

التي تتنازل الدولة العثمانية بموجبها عن أراضٍ كثيرة؛ ليوغروا صدور العامة

على السلطان ويرفعوا من أسهم مصطفى كمال، كما قاموا بغض الطرف عن

تمويل وتسليح ذلك المناضل الوطني! [٤١] ، لكن هذا الرجل المتقلب عدل من

رأيه حول السلطة والخلافة (وبصورة غير ديمقراطية تماماً!) ؛ إذ صرخ في

أعضاء المجلس الجديد في أنقرة منادياً بحتمية الفصل بينهما، ولكن من المحتمل أن

بعض الرؤوس كانت ستقطع إذا لم توافق على ذلك الرأي [٤٢] ، ولقد اعترف فيما

بعد في كتاب الخطابة بأن الفصل بين السلطتين كان نقطة أساسية ولازمة وكانت

بمثابة الخطوة الأولى [٤٣] ، ترى ما هي الخطوة الثانية إذن؟ .

عقب التطورات الخطيرة، دعت بريطانيا إلى عقد مؤتمر لندن لحل المشكلة

(المسألة) الشرقية وقد وجهت إلى كل من إستانبول وأنقرة دعوتين منفصلتين، وقد

كانت الهيمنة لوفد أنقرة لحكمة يعلمها الحلفاء جيداً، من ثمارها: تنازل مصطفى

كمال عن سورية للفرنسيين، وعن باطوم للروس [٤٤] ، وتمخض عن هذه

التنازلات: قيام الحلفاء بتحريض اليونان على غزو إستانبول، ثم التخلي عنها،

بينما توقف الهجوم اليوناني وبدأ في الانسحاب، وكان مصطفى كمال قد أمر بوقف

القتال قبل تراجع اليونانيين، وقد ضخمت الدعاية الغربية الحادثة لتظهر الغازي

مصطفى كمنقذ للبلاد من عدوها التقليدي، والتساؤل الذي نطرحه هو: كيف يأمر

قائد بوقف القتال أمام عدو لم يعلن عن استسلامه أو انسحابه بعد؟ فإذا لم يكن هناك

تنسيق مسبق بين القوات فهذا يعني وضع الجيش تحت رحمة الأسلحة اليونانية، أم

إنها إحدى لعبات الإنجليز في صنع الأبطال القوميين؟ ! . وبعد تلك اللعبة تظاهر

الحلفاء بمقاومة الغازي في هجومه على (تراقيا) ، لكن الإنجليز توسطوا لإنهاء

القتال وانسحاب اليونان [٤٥] ، والأعجب من ذلك هو: قيام السفن الإنجليزية

الراسية في البحر بنقل الفاريين اليونانيين من سكان الأناضول وشارك معها سفن

الحلفاء [٤٦] ، ثم إن إنجلترا، وهي المنتصرة في الحرب العالمية، الأولى تنازلت

بمحض إراداتها عن مدينة أزمير لتظهر مصطفى كمال أمام العالم الإسلامي بأنه

الغازي والمنتصر، ثم تفرض شروطها عليه، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام

مصطفى صبري [٤٧] .

ثم إن الغازي! مصطفى كمال هدد أعضاء المجلس الوطني الكبير بالقتل،

إذا لم ينزلوا على رأيه بإلغاء السلطة العثمانية [٤٨] ، هذا هو أسلوب معاملة الرجل

الذي راهنت عليه إنجلترا، وتلكم هي طريقة تعامله مع البرلمان الموقر ونوابه

المحترمين، الذين يتمتعون بحصانة يكفلها الدستور الذي خلعوا السلطان عبد الحميد

الثاني من أجله! فكيف ستكون سياسته عندما يصبح الآمر الناهي في البلاد

والعباد؟

بعد هذه السلسلة من الحروب الكرتونية المفتعلة: قرر الحلفاء عقد مؤتمر

لإنهاء وضع الدولة العثمانية، وذلك لكسب الرأي العام التركي لصف الغازي

مصطفى كمال الذي صُنع على أعين الإنجليز، فكان مؤتمر (لوزان) بسويسرا سنة

١٣٤٠هـ (١٩٢٤م) ، ويقال: إن اللورد (كرزون) رئيس وفد إنجلترا قد طرح

أربعة شروط للاعتراف باستقلال تركيا، وهي: إلغاء الخلافة، وطرد الخليفة،

ومصادرة أمواله، وإعلان فصل الدين الإسلامي عن الدولة والحياة ... (العلمانية) [٤٩] .

بينما يؤكد شيخ الإسلام مصطفى صبري وبناءً على تصريح مستشار وزير خارجية بريطانيا بأن مصطفى كمال قد اقترح على المؤتمر: إلغاء الخلافة، وقطع

علاقة الدولة بالإسلام، وتجميد وشل حركة جميع العناصر الإسلامية الباقية،

واستبدال الدستور القائم بآخر مدني.. وقد وكل إلى عصمت إينونو القيام بتلك

المهمة [٥٠] ، وكان قد همس في أذن إينونو قبيل سفره بألا يعارض الإنجليز،

حتى ولو طلبوا التنازل عن مدينة إستانبول وتراقيا! [٥١] ، لكن الإنجليز اكتفوا

فيما يبدو بما قدمه الغازي من تنازلات، اللهم إلا اشتراط بقاء بطركية الروم في

إستانبول بناءً على ضغوط مجلس الكنائس البريطانية [٥٢] .. وإذا كان هذا لا

يكفي المسلمين جراحاً فإن الآلام تزداد عندما يخرج علينا مؤرخ مسلم حاول الدفاع

عن الدولة العثمانية في موسوعته، فيزعم بأن قرار مصطفى كمال بإلغاء السلطنة

كان الهدف منه هو: حسم ازدواجية الحكومة، وإلغاء معاهدة سيفر الظالمة، وسد

الباب على الإنجليز؛ لكيلا يضربوا بعضها ببعض [٥٣] .

ولكي يحقق الغازي! آماله: اضطر إلى حل المجلس الوطني الكبير،

وتشكيل مجلس مؤيد له يوافق على ما جاء في معاهدة لوزان، والمضحك في الأمر: أن ٤٠ (فقط من النواب هم الذين حضروا الاجتماع الذي أعلن فيه عن قيام

الجمهورية التركية وإلغاء مؤسسة الخلافة بعد أربعة عشر قرناً من الزمان [٥٤] ،

وقد أصدر المجلس القوانين: ٤٢٩، ٤٣٠، ٤٣١ التي تنص على إلغاء الخلافة،

وطرد الخليفة وأسرته، وإلغاء وزارة الأوقاف والشرعية والمدارس الدينية [٥٥] ،

ويقول عن تلك النكبة الكبرى ذلك المؤرخ: إنها كانت انتصاراً للقومية التركية،

واستطاع بذلك الغازي! تحدي بريطانيا وحلفائها، أما عن نقله للعاصمة إلى مدينة

أنقرة: فيبرر ذلك بحجة تجريد المدينة (إستانبول) من السلاح والتخلص من

الماضي [٥٦] ، فعلاً لقد نجح مصطفى كمال في خداع قطاع كبير من الناس بنفاقه

البغيض، لدرجة أن السلطان عبد الحميد الثاني على الرغم من ثاقب نظره صدّق

انتصار مصطفى كمال على الحلفاء في معركة جناق قلعة، أو ربما رغبته في

حماية البلد هي التي دفعته لتصديق تلك المهزلة، حتى دعا الله أن يتقبل منه عمله

ذاك! [٥٧] ، ولم يقف الحد عند ذلك، إذ تسابق الشعراء في الثناء على انتصارات

الغازي وتمجيدها، كما حصل مع أمير الشعراء أحمد شوقي، إذا أنشد [٥٨] :

الله أكبر كم في الفتح من عجب ... يا خالد الترك جدد خالد العرب

حذوت حذو صلاح الدين في زمن ... فيه القتال بلا شرع ولا أدب

ثم انصدم بعد ذلك كغيره من المسلمين بأعمال الغازي! المناهضة لدين الله،

وتأسف على ما فات. ويعلق المؤرخ إحسان حقّي على تلك الأحداث قائلاً: (لقد

عاصرت الثورة الكمالية وتأثرت بها؛ لغربة المسلمين ووقوعهم تحت الاحتلال،

وانخدعت بها كغيري، بينما استغل هو مشاعر المسلمين وأموالهم، وكان يتظاهر

بالإسلام، إذ كان يأمر بقراءة صحيح البخاري قبل المعارك بفترة) ! [٥٩] بينما

يأسف مستشرق ألماني حاقد على قصر همة مصطفى كمال الذي آثر التخلي عن

المنافع التي كانت دولته جديرة بجنيها لو رغب في إبقائها مركزاً روحيّاً ... للإسلام [٦٠] ، لكن مصطفى كمال كان صريحاً في موقفه من الإسلام، إذ خاطب المجلس الوطني أثناء مناقشة شروط معاهدة لوزان قائلاً: (إن الآوان قد آن لتنظر تركيا إلى مصالحها، وتتجاهل الهنود والعرب، وتنقذ نفسها من تَزَعّم الدول الإسلامية) [٦١] ، وهنا تجدر الإشارة إلى أن أحد النواب الإنجليز كان قد اعترض على استقلال تركيا، فأجابه اللورد كرزون قائلاً: «إن القضية هي أنّ تركيا قد قضي عليها، ولن تقوم لها قائمة؛ لأننا قد قضينا على القوة المعنوية فيها، وهي الخلافة الإسلامية» [٦٢] .

بعد أن حقق مصطفى كمال آمال أوروبا التي سعت إليها طوال سبعة قرون

تقريباً: هل توقف عند ذلك؟ أم تمادى في محاربته لله ولرسوله؟ .

هذا ما سنراه في الحلقة التالية.


(١) أحمد النعمي: تركيا وحلف شمال الأطلسي، ص ٣١.
(٢) يلماز أوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، ج٢، ص ١٤٨ ١٥٢، بتصرف.
(٣) انظر: محمد صلاح الدين، جمعية الاتحاد والترقي ودورها في إسقاط الخلافة الإسلامية.
(٤) أوزتونا، مصدر سابق، ص ١٧١.
(٥) راجع: مذكرات السلطان عبد الحميد، ترجمة د محمد حرب.
(٦) أحمد الشوابكة: حركة الجامعة الإسلامية، ص ٣٠٨ ٣٠٩.
(٧) د محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص ٣٨.
(٨) نجيب قيصه كورك: السلطان عبد الحميد خان الثاني واليهود، ص ٦٧.
(٩) حركة الجامعة الإسلامية، ص ٣١٠.
(١٠) جمعية الاتحاد والترقي ودورها في إسقاط الخلافة، ص ٤٠.
(١١) روبير مانتران، تاريخ الدولة العثمانية، ج٢، ص ٢٤٥.
(١٢) مذكرات السلطان عبد الحميد، ص ١٤٣.
(١٣) المصدر السابق، ص ١٨٦.
(١٤) الرجل الصنم، لمؤلف مجهول/ ضابط تركي سابق، ج١، ص ٣٧.
(١٥) علي حسّون، تاريخ الدولة العثمانية، ص ٣٠٧.
(١٦) الرجل الصنم، ص ٤٤ ٤٦، بتصرف.
(١٧) المصدر نفسه، ص ٥٠.
(١٨) حسّون، مصدر سابق، ص ٣٠٨.
(١٩) الرجل الصنم، ص ٦٠.
(٢٠) أحمد مصطفى: في أصول العثمانيين، ص ٣٠١.
(٢١) مانتران، مصدر سابق، ص ٢٣٧.
(٢٢) الرجل الصنم، ص ٧٣.
(٢٣) مذكرات السلطان عبد الحميد، ص ٢٦١.
(٢٤) الرجل الصنم، ص ٩٠.
(٢٥) مذكرات السلطان عبد الحميد، ص ١٣٦.
(٢٦) الرجل الصنم، ص ٨٦.
(٢٧) عبد العزيز الشناوي، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، ج ١، ص ٢٥٣.
(٢٨) المصدر نفسه، ص ٢٤٥.
(٢٩) الرجل الصنم، ص ١٢٩، ص ١٣٥.
(٣٠) محمد فريد، تاريخ الدولة العليّة العثمانية، ص ٧٤٧.
(٣١) المصدر نفسه، ص ٧٥١.
(٣٢) الرجل الصنم، ص ١٢٥.
(٣٣) المصدر نفسه، ص ١٠٥.
(٣٤) محمد فريد، مصدر سابق، ص ٧٤٩.
(٣٥) الرجل الصنم، ص ١٨١.
(٣٦) الشناوي، مصدر سابق، ص ٢٥٩.
(٣٧) المصدر السابق، ص ٢٦١.
(٣٨) حسّون، مصدر سابق، ص ٣١٩.
(٣٩) الشناوي، مصدر سابق، ص ٢٦٣.
(٤٠) حسّون، مصدر سابق، ص ٣٢٠.
(٤١) المصدر نفسه، ص ٣٢١.
(٤٢) الرجل الصنم، ج٢، ص ٢٥٩.
(٤٣) المصدر السابق، ص ٢٥٧.
(٤٤) حسّون، مصدر سابق، ص ٣٢٢.
(٤٥) المصدر السابق، ص ٣٢٤.
(٤٦) الشناوي، مصدر سابق، ص ٢٧٥.
(٤٧) مصطفى حلمي، الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة الإسلامية، ص ٣٣.
(٤٨) حسون، مصدر سابق، ص ٣٢٥.
(٤٩) المصدر السابق، ص ٣٢٦.
(٥٠) الأسرار الخفية، ص٢٦٥.
(٥١) الرجل الصنم، ج٢، ص ٢٧٠.
(٥٢) المصدر السابق، ص ٢٧٦.
(٥٣) الشناوي، مصدر سابق، ص ٢٧٨.
(٥٤) حسّون، مصدر سابق، ص ٣٢٧.
(٥٥) الرجل الصنم، ص ٢٩٨.
(٥٦) الشناوي، مصدر سابق، ص ٣٠٤ ٣٠٧، بتصرف.
(٥٧) مذكرات السلطان عبد الحميد، ص٢٦٠.
(٥٨) حسّون، مصدر سابق، ص ٣٢٣.
(٥٩) محمد فريد، مصدر سابق، ص ٧٥٤.
(٦٠) كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ص ٦٩٦.
(٦١) تركيا وحلف شمال الأطلسي، ص ٣٧.
(٦٢) حسّون، مصدر سابق، ص ٣٢٧.