للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

ثقافة آكلي لحوم البشر

بقلم: د. محمد يحيى

صدر منذ أشهر قليلة عن إحدى دور النشر الأمريكية وهي: (ويست فيو)

بمدينة (بولدر) بولاية كولورادو كتاب مهم لباحثة أمريكية اسمها (ديبورا روت) ، ... وعنوان الكتاب: (ثقافة آكلي لحوم البشر: الفن، والاستهلاك، وإضفاء ...

الطابع السلعي على الفروق) ، وعلى الرغم من غرابة هذا العنوان وصعوبته إلا أن

الكتاب نفسه يحتوي على أطاريح مهمة للغاية تكشف العديد من الأساليب الفكرية

التي تتبعها الثقافة الغربية في تعاملها مع الثقافات الأخرى، بل وفي تعاملاتها

الداخلية في نطاق الحضارة الغربية ذاتها.

وعندما تَصِفُ الكاتبة الثقافة الغربية بأنها ثقافة آكلي لحوم البشر فإنها تعني

بذلك: أنها تقوم على العنف الشديد، والرغبة الجامحة في الاستحواذ والسيطرة بأي

ثمن، وعلى حساب كل شيء، ويتجلى الاتجاه للاستحواذ والتملك والسيطرة في

النزعة الاستهلاكية العارمة التي تتسم بها الحضارة الغربية، ولا تتحدث الكاتبة عن

الاستهلاك بمعناه الدارج والمألوف من الأكل والشرب واللبس والتمتع بالترف

والكماليات، وإنما تقدم لنا تصوراً دقيقاً وجديداً لهذه الكلمة حينما تذكر استهلاك

الثقافات والفنون الأخرى من جانب الثقافة الغربية.

ونتوقف قليلاً عند هذه الفكرة المهمة:

إن الثقافة الغربية لا تستهلك الثقافات والفنون الأخرى بمعنى أنها تأكلها طبعاً، ولا تستهلكها بمعنى أنها تدمرها تماماً وإن كان التدمير يحدث بدرجات متعددة،

الاستهلاك المقصود هنا هو: أن الثقافة الغربية تتعامل مع ثقافات وفنون الشعوب

الأخرى بطريقة معينة تجعلها لا تعترف بها، ولا تقبلها، ولا تسمح لها بالوجود

المستقل إلى جوارها، وتبدأ طريقة التعامل هذه بوضع الثقافات والفنون الأخرى في

نطاق تعريفات وتصنيفات وخانات، تختزلها، وتبسطها، وتسهل بالتالي: النظر

إليها والتصرف إزاءها.

وهذه التصنيفات دائماً ما تضع الفنون والثقافات غير الغربية في موضع متدنٍّ

بجانب الثقافة الغربية، فهي الثقافات البربرية كما كان اليونانيون القدامى ينظرون

إليها، أو هي ثقافات الشعوب المتوحشة، أو الشعوب الأصلية، أو غير

المتحضرين، أو الثقافات الغريبة والبعيدة والساحرة، ومع وضع الثقافات والفنون

الأخرى في هذه المراتب المتدنية وداخل أطر وتعريفات تتسم بالتبسيط المخل

والتسطيح الشديد، تنتقل الثقافة الغربية إلى مرحلة أخرى أو أسلوب آخر من

أساليب التعامل معها.

وفي هذه المرحلة الجديدة من مراحل استهلاك الثقافات والفنون الأخرى وهي

مرحلة الاستهلاك والاستحواذ تُنتقى عناصر معينة من هذه الثقافات والفنون، بحيث

تكون مما لا يهدد الثقافة الغربية، ولا يشكل تحدِّياً لها، وهي في الغالب العناصر

المتعلقة ببعض الآثار القديمة والملابس والفنون الشعبية (الفولكلورية) أو العادات

الاجتماعية، وبعد انتقاء هذه العناصر تقدم للغربيين في إطار سلع أو أشياء غريبة، يمكن لهم تذوقها أو امتلاكها أو التعرف عليها دونما تهديد لثقافتهم، بل على

العكس: فإن هذا الاستهلاك لتلك السلع يغني الثقافة الغربية ذاتها، ويضفي عليها

مظهراً خارجيّاً بأنها منفتحة على الثقافات والفنون الأخرى، بينما هي في الواقع

ليست منفتحة على الإطلاق، بل مستحوذة على هذه الثقافات بعد عملية طويلة من

التشويه والاختصار والتحويل من مظاهر إنسانية حية إلى سلع وأشياء للاستهلاك

المأمون.

وتشير الكاتبة في هذا الصدد إلى صناعة السياحة في الغرب: حيث تكثر

الإعلانات والصور التي تقدم حياة بعض الشعوب غير الغربية في أشكال نمطية

وتقليدية مكررة، تبدو متخلفة للغاية عن مستوى حياة الغربيين، كما تبدو بعيدة

وغريبة إلى حد لا يمكن الاعتراف به، بل فقط استهلاك واستحواذ ما يصلح منه

بعد تنقيته وهندمته.

إن هذا العرض لجانب مما ورد في هذا الكتاب المهم قد احتوى على أفكار

ضمنها كاتب هذه المقالة للتوضيح والشرح، لكن الخلاصة هي أننا أمام تحليل

الأساليب الثقافية الغربية في التعامل مع الثقافات الأخرى، لا نخرج كثيراً عن

التحليلات التي يقدمها الكتاب والمثقفون والدارسون الإسلاميون لهذه الثقافة الغربية،

وهنا تكمن أهمية هذا الكتاب وأمثاله؛ فإذا كان الكتاب المسلمون معرضون لاتهام

(زائف) بأنهم قد لا يفهمون الثقافة الغربية الفهم الصحيح، أو أنهم غير قادرين على

التعمق فيها، أو أنهم يتحاملون عليها بدافع عقدي ... فإن هذا الاتهام لا يمكن ولا

يستقيم أن يوجه إلى البحاثة الغربيين، وهم على أي حال أدرى بشعاب حضارتهم،

والحق: أن ما تشير إليه هذه الكاتبة من أساليب تتعامل بها الثقافة الغربية مع

الثقافات الأخرى: سبق أن لفت النظر إليها العديد من الكتاب والباحثين المسلمين

في معرض تحليلهم لمفاهيم الحوار والآخر التي فرضت على ساحة الجدل

والمؤتمرات في بعض البلدان العربية في الفترة الأخيرة.

لقد ذهب بعض مثقفي الاتجاهات غير الدينية وأيضاً بعض من يفترض أنهم

مسلمون، بل حتى أرباب مناصب دينية إلى أن المسلمين، بل وحتى الإسلام ذاته، يعانون من مرض حب السيطرة ورفض الاعتراف بالآخر والحوار معه، ووصل

الأمر إلى حد أن مؤتمراً عقد خلال شهر يوليو (١٩٩٦م) في القاهرة سمعت فيه

اتهامات موجهة للمسلمين (من مسلمين آخرين، أو يحملون أسماء إسلامية) بأنهم

غير متسامحين تجاه أصحاب الأديان الأخرى، وأنهم متعالون متغطرسون.

ولم تجد هذه الاتهامات من يفندها أو يرد عليها من بين المشاركين الآخرين

في ذلك التجمع الذي نظمه مجلس أعلى للشؤون الإسلامية، وحضره رؤساء دينيون

عديدون.

لكن هذه الباحثة الأمريكية (وليست هي الوحيدة) تكشف الآن: عمن هو في

الحقيقة متعال ورافض للحوار من منطلق عنصري تصفه بأنه أشبه بنزعات آكلي

لحوم البشر. والثقافة الغربية كما تثبت الكاتبة لا تعترف بالآخر، أي: بالثقافات

والفنون الأخرى، ولا تتحاور معها، بل تخضعها وتستعمرها.

وحتى ما يبدو على الظاهر أنه اعتراف بهذه الثقافات الأخرى، ليس في

الواقع سوى صور مشوهة منتقاة ومبسطة و (معقمة) تطرح على الغربيين لكي

يستحوذوا عليها ويتملكوها من منطلق العلو الثقافي، وباعتبارها سلعاً استهلاكية

(السياحة، المنتجات الفنية والحرفية ... إلخ) وليست مظاهر حية لثقافات مستقلة،

وذات تاريخ وهوية لكن عيبها الوحيد هو أنها ليست غربية.

إذن: رفض الاعتراف والحوار مع الآخر، بل ورفضه، ونفيه، والتعامل

معه بأسلوب عنيف استحواذي متحامل.. ليس هو مسلك المسلمين أو اتجاه ثقافتهم، بل هو مسلك الغربيين وطابع الثقافة الغربية، ومن هنا وصفنا كتاب الباحثة

الأمريكية بالأهمية؛ لأنها تحلل وبشكل موضوعي تحليلي قوي الحجة أساليب

الثقافة الغربية في إخضاع الثقافات الأخرى.

ولكن من غرائب وطرائف الاتجاه العلماني في بلادنا: أنهم يأخذون نقائص

الثقافة الغربية التي يحاولون التمسح بها، ويرمون بها الثقافة الإسلامية وهي بريئة

منها، والأغرب والأطرف: أنهم وهم يزعمون الثقافة والفكر والاستنارة لأنفسهم لا

يُقْدمون وهم يوجهون الاتهامات للثقافة الإسلامية على دعم هذه الاتهامات بالحجة

والتحليل المقنع، كما تفعل هذه الباحثة الأمريكية وهي توجه الاتهامات نفسها إلى

ثقافتها الغربية، ولكن يبدو أن هناك فرقاً بين أهل الثقافة الغربية أنفسهم والمتغربين

من أصحاب التيار (اللاديني) ، الذين تحركهم فقط كراهية الإسلام، دون الاكتراث

ببناء هذه الكراهية على أسس من الحجة العقلية.