للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هموم ثقافية

إشكالية التعبير العملي عن الديمقراطية

(١)

بقلم: سامي محمد صالح الدلال

ما إن نتجاوز المعاني النظرية لمفهوم الديمقراطية وفق المدارس التي ذكرتها

إلى التطبيقات العملية لتلك المدارس: حتى نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام الإشكاليات

التالية:

- إشكالية التعريف.

- إشكالية البلورة الاجتماعية للديمقراطية.

- إشكالية البلورة الثقافية للديمقراطية.

- إشكالية البلورة الاقتصادية للديمقراطية.

إشكالية التعريف:

قد اصطُلح على تعريف الديمقراطية بأنها «حكم الشعب بالشعب، أي:

(السيادة للشعب) ، ولدى التطبيق العملي انقسم الناس في طريقة التعبير الواقعي

عن هذا التعريف؛ ومن هنا: نشأت المدارس المختلفة التي عبر كل منها عن فهمه

للديمقراطية بأسلوب يختلف عن الآخر، فمن أين نشأ هذا الاختلاف؟

لقد نشأ الاختلاف من تنوع زاوية النظر لكل كلمة من كلمات التعريف

المذكور، مما دفع إلى سطح الواقع تفسيرات شتى لذلك التعريف.

فكلمة (الحكم) ،

وكلمة (الشعب) ،

وكلمة (السيادة) أو (بالشعب) ،

لم يتم الاتفاق على تفسيرها.

إن كلمة (الحكم) لها معانٍ تعبيرية شتى:

فمعناها لدى المدرسة الليبرالية: أن المجلس النيابي المعبِّر عن الشعب يضع

الدستور الذي تقوم الحكومة على تنفيذ بنوده.

ومعناها لدى المدرسة الاشتراكية: أن مجلس الشعب المعبِّر عن اتحاد القوى

العاملة يسن التشريعات التي تقوم الحكومة بتنفيذها بعد إقرارها مما يسمى باللجنة

المركزية.

ومعناها لدى المدرسة الديكتاتورية: أن المجلس النيابي هو أداة تشريع

القوانين التي تكرِّس هيمنة الملأ الطاغوتي، ورغم أنه منتخب من قبل الشعب

بطريقة خاصة إلا أنه يعامل طوعاً لإرادة الطغمة الديكتاتورية الحاكمة، فهو معبِّر

عنها وليس معبِّراً عن الشعب.

ويلاحظ في هذه المدارس الثلاث أن مزاولة (الحكم) من المنظور الأمني

تتم من خلال مؤسسات تمارس أفعالاً بشعة، بما لها من صلاحيات تستمدها من

التعابير الفضفاضة للقوانين؛ فمؤسسات المباحث والمخابرات العسكرية وتوابعهما

تعتبر مؤسسات مغلقة لا يكاد يعلم أعضاء المجلس النيابي عنها شيئاً.

ومعناها لدى المدرسة الجبرية: أنها وسيلة لحل إشكال تناقضات التعايش

القسري في دولة واحدة لطوائف وأديان شتى؛ لذلك: فإن كلمة» الحكم «لدى هذه

المدرسة هي معنى اصطلاحي لواقع متناقض التوجهات، أفرز في واجهته أشخاصاً

اختص كل منهم برئاسة مرفق دستوري (رئاسة الدولة، رئاسة الحكومة، رئاسة

المجلس النيابي، قيادة الجيش، قيادة الأمن العام..) .

ومعناها لدى المدرسة المصلحية: أنها وسيلة دستورية لتحقيق مصالح

أعضاء المجلس النيابي بغطاء شعبي مصطنع.

ومعناها لدى المدرسة الإسلامية النيابية: أنها مجرد وسيلة متاحة يمكن

استغلالها من خلال المشاركة الجزئية وإن كانت محدودة جدّاً، على أمل أن تتسع

هذه المحدودية لتشكل أغلبية ساحقة في المستقبل البعيد، فيتمكن الإسلاميون من

تنفيذ أحكام الشريعة بتقنينات نيابية.

فالنتيجة التي وصلنا إليها هي: لا يوجد اتفاق على تفسير عملي لكلمة (الحكم) بين المدارس الديمقراطية المختلفة.

وأما كلمة (الشعب) : فهي أيضاً محل خلاف عند التطبيق.

فمن هم أفراد الشعب؟ ! .

هناك نظرتان رئيستان في هذا الصدد.

الأولى: أنهم الأفراد الذين يقعون ضمن حدود جغرافية معترف بها دوليّاً،

ويعبِّر عنهم نظام سياسي حاكم.

إن جميع المدارس الديمقراطية تعترف نظريّاً بهذا التعريف.

الثانية: أن الشعب هو مجموع الأفراد الذين يطبّق عليهم القانون، وهم العامة

أو الغوغاء، أي: الذين لم يسجِّلوا عضويتهم في الحزب الحاكم. وأما المنضوون

في الحزب الحاكم فهم إما فوق القانون، أو يطبّق عليهم القانون بطريقة خاصة،

فهم بهذا المعنى فوق الشعب! ! وتشمل هذه النظرة المدرستين الاشتراكية

والديكتاتورية.

وهذا يعني: أنه لا يوجد اتفاق على تفسير عملي لكلمة (الشعب) بين

المدارس الديمقراطية المختلفة.

وأما كلمة (السيادة) ، أو (بالشعب) : فهي أيضاً لها مفاهيم منوعة لدى

المدارس الديمقراطية.

ففي المدرسة الليبرالية: الشعب لا يحكم نفسه، بل هناك أفراد مقتدرون

ماليّاً، ولهم وجاهات اجتماعية، يبحرون على متن سفنها التي تلقي مراسيها تحت

قبة المجلس النيابي، فيمارسون التشريع وفق ما يرونه هم، وليس وفق ما يراه

الشعب، فهم أقلية يحكمون أغلبية، لكنهم لا يعبرون عنها تعبيراً حقيقيّاً وشاملاً.

فالديمقراطية في المدرسة الليبرالية هي حكم الأغلبية بالأقلية مع ملاحظة تناقض

المصالح بين الأغلبية والأقلية، التي تعني أن الأقلية تستثمر طاقات الأغلبية، أي

طاقات الشعب، لتحقيق مصالحها أولاً، ولا يضر أن تلك المصالح قد يشاركهم فيها

الشعب بشكل جزئي.

وأما في المدرسة الاشتراكية: فالسيادة هي لمجموع القوى العاملة من خلال

ممثليها في مجلس الشعب، ولا بد أن يكونوا حزبيين حُكماً، أي: إن مفهوم

الديمقراطية في هذه المدرسة هو: حكم الشعب بالحزب الحاكم.

وأما في المدرسة الديكتاتورية: فالمجلس النيابي ليس سوى صورة مجردة

من الأبعاد والألوان، مهمتها تشريع القوانين التي تخدم الطغمة الديكتاتورية الحاكمة، فمفهوم الديمقراطية في هذه المدرسة هو حكم الشعب بالطاغوت الديكتاتوري.

وأما في المدرسة الجبرية: فمعناها حكم الشعب أي حكم الطوائف المكونة

للشعب بقوانين يصطلح على سنِّها مجموع ممثلي الطوائف في المجلس النيابي، أي

إن الأحكام التي تنفذ على طائفة معينة منها ليست أحكامها الخاصة، بل ولا حتى

المعبرة عنها، ذلك أنه لا توجد أحكام تنفذ على كل طائفة بشكل مستقل في هذه

المدرسة، وهذا يعني أن مفهوم الديمقراطية في هذه المدرسة هو حكم الطائفة، من

أي دين كانت أو من أي عرق، بواسطة مجموع آراء جميع الطوائف المشكلة

للشعب من خلال قوانين يتفق على سنّها.

وأما في المدرسة المصلحية: فمعناها حكم الشعب بواسطة القوانين التي

يشرعها أصحاب المصالح الذين وجدوا في حياض المجالس النيابية مرتعاً خصباً

ومقبولاً، للوصول من خلاله إلى مآربهم، فمفهوم الديمقراطية في هذه المدرسة هو

حكم الشعب بأصحاب المصالح.

وأما في المدرسة الإسلامية النيابية فهي بحسب ما يكونون فيه من مدارس،

فهم ليس لهم وضع مستقل. لكنهم يقولون: إن مفهوم الديمقراطية عندهم هو حكم

الشعب من خلال مجلس نيابي تتمثل فيه جميع الطوائف والأديان والأحزاب، فهو

حكم الشعب بممثلي الطوائف والأديان والأحزاب.

ومن ذلك يتبين لنا: أنه لا يوجد اتفاق على تفسير عملي لكلمة (السيادة)

أو (بالشعب) بين المدارس الديمقراطية المختلفة.

إذن: إن إشكالية التعريف تتناول كل كلمة من كلمات مفهوم الديمقراطية،

وليس هناك اتفاق بين المدارس المختلفة على أي كلمة من كلمات تعريف

الديمقراطية، مما نتج عنه اختلاف التعبيرات العملية للديمقراطية في الإطار

السياسي وغيره من الأطر.

إشكالية البلورة الاجتماعية للديمقراطية [١] :

إن التحدي الذي تواجهه أي مدرسة من مدارس مفهوم الديمقراطية التي ذكرتها

هو مدى النجاح الذي تحققه في بلورة الصياغة الاجتماعية لمجموع الشعب؛ بحيث

تتوافق مع أفكار وأهداف تلك المدرسة.

ولكي تتضح أمامنا صورة هذا التحدي فلا بد من تكثيف الضوء على الأجزاء

الرئيسة والمعالم البارزة التي تجتذب بصر الناظر إلى تلك الصورة، وهي كالتالي:

-التفاوت الطبقي:

إن التفاوت الطبقي يعتبر ظاهرة تكاد تعم جميع مجتمعات الأرض دون

استثناء، وإن العلاقة الجدلية للصراع بين تكريس هيمنة الأغنياء واستخلاص

حقوق الفقراء تتوسع دائرتها يوماً بعد يوم، أما متوسطو الدخل فهم وإن كانوا

يؤيدون مطالب الفقراء، ويكرهون تسلط الأغنياء، إلا إنهم ينؤون بأنفسهم عن

الوقوع بين فكي كماشة ذلك الصراع الذي يمكن أن يتطور إلى ثورة غير مسيطر

على توجهاتها ولا على اضطرام أوارها.

وعندما اصطلح الجميع على الاستظلال بمظلة الديمقراطية: فشل ذلك الحل

في برمجة مشروع عملي لتفكيك تلك العلاقة الجدلية للصراع، لإعادة ترتيب

مفاصل الربط فيها وتغيير مجرى قنواتها، بل يمكن القول باطمئنان: إن

الديمقراطية كرّست إبقاء ذلك الصراع بغطاء دستوري، فُصِلت بنوده بحيث تحمي

مصالح الأغنياء، والمفارقة العجيبة في ذلك: أنه يتم بدعم من أصوات الفقراء! !

وعند التحقيق نرى بوضوح: أن الديمقراطية لم تنجح في بلورة لحمة

اجتماعية من زاوية نظر التفاوت الطبقي، وهذا لا يختص بمدرسة واحدة، بل

بجميع المدارس.

-التنوع الديني:

إن الجميع متفقون على أن كل دين يضفي على أتباعه ثوباً معيناً من العلاقات

الاجتماعية، سواء على مستوى الأفراد أو مستوى الأسر أو مستوى الوحدات

الاجتماعية (عائلات، قبائل ... ) .

وبالتالي: فإن لكل دين أحكامه وتشريعاته، سواء أكان ذلك للمسلمين أو

للنصارى أو لليهود [٢] .

إن الديمقراطية جاءت لتقول لكل هؤلاء: ألقوا ما عندكم من أحكام وتشريعات، وتعالوا نصطلح على أحكام وتشريعات جديدة يوافق عليها الجميع.

وبمعنى آخر تقول: ألغوا الصيغ الاجتماعية التي انفرزت من تلك الأحكام

والتشريعات عبر القرون، وتعالوا لنوجد صيغة اجتماعية موحدة بجرة قلم نيابي! !

وأنّى لأي نوع من الديمقراطية أن تنجح في فعل ذلك؟ !

إلا أن معنى الديمقراطية يفرض عليها أن تلج نفق تلك المفارقة الصعبة،

وهذا يعني أنه لا بد لممثلي الأديان في مجلس النواب من الاتفاق على تشريعات

توفيقية، ولا بد للشعب أن ينصاع لها.

وهذا يعني غرس بذور المواجهة بين:

١- المجلس النيابي من جهة، والمنتسبين لكل دين من جهة أخرى، والغلبة

في هذه المواجهة هي للمجلس النيابي، إذا نظرنا إليها من زاوية قدرته على إمرار

ما يريد بقوة القانون.

إن الانكسار النفسي الذي يتولد في صدور المنتسبين لتلك الأديان يغذي حالة

الاستعداد للتمرد في يوم من الأيام بسبب التشتت الاجتماعي الذي أصبح مقنناً

بواسطة المجلس النيابي.

٢- المنتسبين لكل دين بعضهم ضد بعض، فالمسلمون سيؤيدون التشريعات

التي تتوافق مع دينهم وسيعتبرون ذلك انتصاراً له، في حين يعارض ذلك اليهود

والنصارى، وهذان الأخيران سيؤيدان التشريعات التي تتوافق مع ما هم عليه،

وسيعارضهم المسلمون، وسيترتب على هذا مزيد من تعميق وتكريس التباعد

والتناقض الاجتماعيين، وهذا بدوره سيوجد لوناً إضافيّاً من الصراع، ذا قاعدة

اجتماعية وإطار تخاصمي تشريعي.

٣- المنتسبين للدين الواحد بعضهم ضد بعض، ذلك أن القوانين التشريعية

الجديدة التي يشرعها المجلس النيابي قد تلاقي توافقاً مع أهواء بعض المنتسبين لذلك

الدين، رغم أنها تتناقض مع تشريعات وأحكام دينهم. فيتقمّصونها، ويدافعون عنها، مع استعدادهم للمواجهة الفعلية مع التيار المتمسك بدينه، وهذا بدوره سيفتت

اللحمة الاجتماعية للمنتسبين للدين الواحد.

ولنتصور كيفية حدوث ذلك، أضرب مثالاً واحداً:

مثال:

-أقر المجلس النيابي فعل الشذوذ.

المسلمون والنصارى واليهود رفضوا ذلك، لكن المجلس النيابي انتصر بقوة

القانون (الحالة الأولى) .

-أقر المجلس النيابي شرب الخمر.

المسلمون رفضوا، النصارى، واليهود وافقوا، لقد كرّس هذا القانون

المواجهة بين الطرفين (الحالة الثانية) .

-أقر المجلس النيابي الإجهاض.

المتمسكون بدينهم من الأديان الثلاثة رفضوا ذلك، غير المتمسكين وافقوا

عليه؛ لأنه يوافق أهواءهم (الحالة الثالثة) .

إن الصدام الاجتماعي سيقع بين الموافقين والرافضين في الحالات الثلاث،

انتهى المثال.

وما يهمني هنا هو: الإشارة إلى أن مبدأ التنوع الديني في موقع إصدار

التشريعات وسن القوانين مرفوض إسلاميّاً، إلا أن موافقة الإسلاميين المجلسيين

على الديمقراطية والمشاركة في المجالس النيابية جعل هذا المرفوض مقبولاً عندهم

حكماً، لكنهم اختلفوا في تفسير هذا القبول، فمنهم من قال بقبوله ضرورة، ومنهم

من قال بقبوله منهجاً، إن هذا الاختلاف في التفسير له أثره البيّن في تفتيت اللحمة

الاجتماعية على مستوى القابلين بالديمقراطية.

إن سبب هذا التفتيت هو التفاوت الحاصل عند تعبيرهم العملي عن ذلك.

ومثاله: إن الذين يقولون بقبوله ضرورة يصرّون على التطبيق الفوري

للشريعة الإسلامية، وهذا يعني الارتقاء الاجتماعي الشمولي من حضيص الواقع

إلى قمة الإسلام، لكن الذين يقولون بقبوله منهجاً قد لا يطالبون بالتطبيق الكلي

للشريعة الإسلامية مراعاة لليهود والنصارى، وإذا طالبوا بها فإنهم قد [٣] لا

يطالبون بتطبيقها فوراً للسبب نفسه، إن الإفرازات الاجتماعية لهذين الطرحين

تأخذ مساري المجابهة والمواجهة في تسارع حثيث على مدرج الصدام! !

إن تلك المواجهة لن تنحصر في إطار الممثلين الإسلاميين في المجلس النيابي، بل ستتسع دائرتها لتشمل أنصار الطرفين في عموم الشعب.

المواجهة الاجتماعية الأخرى ستقع بين المؤيدين من المسلمين للمشروع

الديمقراطي والمعارضين له، ذلك أن المؤيدين للمشروع الديمقراطي ستصطبغ

حياتهم الاجتماعية بالألوان المفرزة من قبل المجلس، في حين أن المؤيدين

للمشروع الإسلامي (إن صح التعبير) [٤] سيجاهدون من أجل الحفاظ على حياتهم

الاجتماعية المتميزة بالانتماء الإسلامي أي: اللون أو الصبغة الإسلامية، [صِبْغَةَ

اللَّهِ وَمَنْ أََحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ] [البقرة: ١٣٨] .

إن التفاوت في التعبير الاجتماعي بين المؤيدين للديمقراطية والمعارضين لها

سيؤدي إلى خلل في اللحمة الاجتماعية، تحمل في طياتها بذور الصدام أيضاً! !


(١) وتشمل: ١ - التفاوت الطبقي ٢- التنوع الديني
... ٣- التعدد التكويني ٤ - التباين الثقافي
... ٥ - الاستقطاب الحزبي النوعي ٦ - نوعية الحكم السلطوي.
(٢) نحن لا نقر ما عليه النصارى واليهود من أحكام وتشريعات، ولكننا نقرر ما هو واقع حالياً بالفعل.
(٣) أرجو من القارئ أن يعير انتباهاً خاصاً لكلمة قد.
(٤) أنا لا أميل لهذا التعبير، لكني تكلمت بلغة القوم! ! .