للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تأملات دعوية

[بين المصالح الشخصية والمصالح الدعوية]

بقلم: محمد بن عبد الله الدويش

لاشك أن مراعاة المصالح الشرعية أمر جاء به الدين، بل (إن الله بعث

الرسل لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها) [١] ، وحيث إن

الدعوة تتعامل مع قضايا المجتمع: فهي لا تنفك عن ارتباطها بالمصالح والمفاسد.

فأحياناً تصبح الدعوة إلى أمر من الأمور خلافاً للمصلحة، وقد يكون من

المصلحة ألا تقال هذه الكلمة، وألا يقف الدعاة هذا الموقف، فقد ترك النبي -صلى

الله عليه وسلم- هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم؛ مراعاة للمصلحة،

فعن عائشة (رضي الله عنها) زوج النبي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال

لها: (ألم تري أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟) فقلت:

يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت، فقال عبد الله (رضي الله عنه) : لئن كانت عائشة (رضي الله عنها) سمعت هذا

من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما أرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد ... إبراهيم [٢] .

إلا أنه قد تدخل عوامل شخصية ذاتية، ويخلط بعض الناس بين مصالح

الدعوة ومصالحه الشخصية.

فقد يشعر الداعية أن قيامه بهذا الأمر لا يحقق المصلحة، أو أنه يفوت بعض

المكاسب، لكنه ينسى في غمرة الأحداث، وسيطرة مطالب النفس ورغباتها أن هذه

المصالح لا تعدو أن تكون شخصية، أو أن ما فات لا يعدو أن يكون مكاسب دنيوية.

إن من سنة الله (تبارك وتعالى) في الدعوات أن تحتاج لتضحيات، وأن

تترتب عليها تبعات، وأن يضحي صاحبها وتفوته مكاسب كان يؤمل فيها، فهل

هذا من المصالح التي يجب أن يراعيها الداعية؟ أم إنها من المصالح الشخصية؟

إن من يقرأ كتاب الله يرى ما واجه الأنبياء والمصلحين من أقوامهم، ويرى

ما بذلوه من جهد وما قدموه من تضحيات، فيدرك أنها سنة قائمة لمن سار على هذا

الطريق، وأننا حين نريد طريقاً نحافظ فيه على مكتسباتنا ومصالحنا الشخصية

ونضن بها، فنحن نريد غير طريقهم.

وفرق بين أن يسوغ للإنسان ترك الأمر والنهي في موقف معين مع أن ذلك لا

يجب عليه، بل ربما كان الأفضل وأن يكون هذا هو المصلحة الشخصية.

وقل مثل ذلك في المكاسب الشخصية، فقد يجيِّر الداعية مكاسبه الشخصية

ومصالحه للدعوة، فيرى أن حصوله على شهادة، أو توليه لوظيفة مرموقة، أو

تحسن أوضاعه الاقتصادية.. مصلحة دعوية لا يسوغ التفريط فيها، ويرى أن

الدعاة يجب أن يتميزوا في مستوى تعليمهم، ومظاهرهم، ووظائفهم.

نعم: إن ذلك مطلوب، لكن حين ترى ذاك النموذج من الناس الذي يستميت

وراء تحقيق هذه المكاسب الشخصية، ويسعى إليها، ويبذل الجهد والوقت من أجلها، وهو لا يبذل لدعوته معشار ما يبذله لتحقيق هذه المكاسب الشخصية.. تدرك أنه

حين يحصل على هذه المكاسب فليس بالضرورة انتظار تقديمه المفيد لدعوته، وكم

هم الناس الذين دخلوا في ميادين التجارة وطلب المال بحجة أن الداعية يجب أن

يستقل في مصدر رزقه، وألا يعتمد على غيره، وأخيراً، حين انفتحت له أبواب

الدنيا، استقال من الدعوة، وولاها ظهره، وأقبل على دنياه.

ولله در الإمام (الشاطبي) حين قال: (المصالح المجتلبة شرعاً والمفاسد

المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء

النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية) [٣] .

وقال أيضاً: (ومع ذلك: فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم، وهو جهة

المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا، لا من حيث أهواء النفوس) [٤] .

إن استحضار التقوى والتجرد لله (تبارك وتعالى) وسؤاله التوفيق ...

والإخلاص، والتوقف ومراجعة النفس عند كل خطوة، إضافة إلى التجرد من ... حب الدنيا والتعلق بها.. كل ذلك مما يعين المرء على تجاوز تلك المهالك.


(١) مجموع الفتاوى، ١٣/٩٦.
(٢) رواه البخاري، ح/١٥٨٣، ومسلم، ح/١٣٣٣.
(٣) الموافقات، ٢/٢٩.
(٤) الموافقات، ٢/٣٠.