للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات تاريخية

أتاتورك..

حقيقته، والدور الذي أدّاه

(٢ من٢)

بقلم: ياسر قارئ

في الحلقة الماضية: مهّد الكاتب لموضوعه بذكر مكانة الدولة العثمانية والأوضاع في عهد السلطان عبد الحميد، ثم استعرض بداية حياة مصطفى كمال منذ نشأته، وبروزه على مسرح الأحداث، وعلاقته بالقوى الغربية وما أحدثه من تغييرات جذرية في تركيا.. ويواصل في هذه الحلقة ذكر جوانب أخرى عنه.

... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -

أعماله وتركته:

يروي أحد المقربين من مصطفى كمال (ويدعى (مفيد كانصو) ، وقد كان

يدوّن تصريحات وخلجات الغازي!) : أنه في إحدى المرات في سنة ١٩١٩م

تحدث مصطفى عن أحلامه المستقبلية، فتطرق إلى إلغاء الخلافة وإعلان

الجمهورية، ثم فَرْض السفور، وإلغاء الحروف واللغة العربية، ومنع لبس

الطربوش، إلا أن (مفيد) لم يتحمّل ذلك، وتوقف عن الكتابة في دفتر مذكراته،

وبعد الثورة سأله مصطفى كمال عن البند الذي وصل إليه وأنجزه حسبما انتهت إليه

تسجيلاته [١] ، وبناءً على شروط معاهدة لوزان السالفة الذكر، فلا غرابة أن تكون

أول أعمال الغازي! هو إقصاء الشريعة ومؤسساتها، وتنحية القانون الإسلامي عن

الساحة، وتبنى القانون المدني، ونظام التعليم العلماني، والتقويم الجريجوري

النصراني، والحروف اللاتينية؛ ليقطع الصلة بين المسلمين الأتراك وتراثهم

الثقافي، وجعل العطلة الأسبوعية يوم الأحد، كما منع ارتداء الزي الإسلامي خارج

المسجد، وأغلق جامع (آيا صوفيا) ، وجامع السلطان محمد الفاتح، ومنع الصلاة

فيهما بعد أن حولهما إلى متحفين للآثار، وفرض تلاوة القرآن باللغة التركية! ،

وكذلك الأذان، كما ألغى قوامة الرجال على النساء، وشجع العصبية القومية [٢] ،

ولم يكتف بذلك، بل سمح بزواج الإخوة من الرضاعة، علماً بأنه محرم في

الدستور المدني السويسري الذي أخذ عنه! ! ، وقد علّق أحد زبانية أتاتورك على

ذلك بقوله: (لقد فقنا حتى المسيحيين) [٣] ، أما الكاتب الفرنسي (موريس

برنو) في كتابه (آسيا الإسلامية) فقد سخر من جهل الغازي وسذاجته، إذ قال:

(إن القانون المدني السويسري الذي تبناه أتاتورك ناشئ عن مصدرين روماني

ونصراني، وإذا لزم أهل كل زمان التجديد بسبب عدم ملائمة القوانين القديمة، فإن

على الشعوب تغيير القوانين في كل عصر بصفة مستمرة) [٤] .

من جهة أخرى: فقد أعلن الغازي على الملأ أنه عازم على قهر أولئك الفئة

المعممة الباحثين عن الديانة، وتكفل هو بتلك المهمة دون سائر رفاقه [٥] ، كما

أصدر أمراً بإلغاء تعدد الزوجات، فيما فرض صلاة الذئب الأبيض (معبود

الطورانيين القدماء) على الجيش [٦] ، ولقد كانت هذه التغيرات الجذرية في

المجتمع التركي من التأثير والتغريب بمكان، لدرجة أن ملك بريطانيا «جورج

السادس» أصابه الذهول مما شاهده في زيارته لتركيا بسبب فقدان المجتمع لمظهره

وكتابته ولغته ودينه؛ مما لم يحصل في مستعمراته هو [٧] ، وهنا نتذكر شهادة

شيخ الإسلام (مصطفى صبري) في أتاتورك، إذ يقول: (إن الرجل مَن لا

تجد إنجلترا مثله ولو جدّت في طلبه، من حيث إنه يهدم ماديات الإسلام وأدبياته

ولا سيما أدبياته في اليوم، ما لا تهدم إنجلترا نفسها في عام، فلما ثبتت كفاءته

وقدرته من هذه الجهات: استخلفته لنفسها وانسحبت من بلادنا) [٨] .

أما سلوكه الشخصي: فهو مما يندى له الجبين، لدرجة أنه فاق السلاطين

الذين زعم هو وزمرته فسقهم ومجونهم، إذ تحول قصر (جانقايا) مقر إقامته في

أنقرة إلى بؤرة للرذيلة والفساد: تزواج ما بين الشاذين جنسيّاً، واغتصاب طالبات

المدارس بعد اختطافهن، والاستمتاع بزوجات المسؤولين والتجار مقابل تلبية

طلباتهم، وتكديس القصر بالراقصات العاريات، والتحرش بأقارب السفراء، فضلاً

عن معاقرة الخمور يوميّاً، بالإضافة إلى سرقة أموال المسلمين وتبرعاتهم،

واغتصاب الأراضي الزراعية، وبيع ممتلكاته على الدولة بأضعاف ثمنها، وسلسلة

من الاغتيالات السياسية لمعارضيه، بل وبيع أذربيجان المسلمة إلى الروس [٩] ،

وقد حاول إشراك شاه إيران أثناء زيارته لأنقرة في هذا الوسط العفن، فقدم له

إحدى البغايا لتلبية احتياجاته! ، فاعتذر الشاه [١٠] ، كما أنه أغرق ملك بريطانيا

في الخمر حتى الثمالة.

وخرج ذات يوم من أحد الفنادق وهو مخمور كعادته، وصادف وقت أذان

الفجر، فتعجب من شهرة هذا الرجل (يعني النبي -صلى الله عليه وسلم-) ، إذ

جعل اسمه يتكرر في كل لحظة في العالم! ، فما كان منه إلا أن أمر بإزالة مئذنة

ذلك المسجد [١١] ، وطفق بعد ذلك في نصب تماثيل له في طول البلاد وعرضها،

على الرغم من الأزمة الاقتصادية التي كانت تعاني منها البلاد، كما استحدث مذهباً

جديداً في الإسلام يزعم فيه بأن الإسلام دين تركي، وهو علاقة خاصة وقلبية بين

العبد وربه، ومن أجل ذلك: فينبغي استخدام اللغة الأم للإنسان، بمعنى آخر:

شرّع أداء الدعاء باللغة التركية.

هذا الرجل لم يعرف الاستقرار الأسري في طفولته، وقد لازمه هذا السلوك

طيلة حياته على الرغم من أنه تزوج بامرأة ثرية ومن أسرة عريقة، إلا أنها

انفصلت عنه بعد مدة قصيرة بسبب فسقه وفجوره، وبالذات مع خالدة أديب، وهي

من أبرز الشخصيات النسائية في (الأدب) التركي، وكان أبوها من يهود الدونمة

يعمل في قصر السلطان، وهي التي رعت تمثيل أوبرا (رعاة كنعان) في مدرسة

كانت تشرف عليها في بيروت، وكالت في تلك الحفلة المديح لليهود، كما عبّرت

عن أملها في قيام دولة لهم في فلسطين [١٢] ، وقد شكلت في سنة ١٩٠٨م جمعية

(ترقية النساء) لمنح المرأة حرية الانتخاب والقوامة [١٣] ، بل قلّدها الغازي!

وزارة المعارف في فترة حكمه [١٤] ، وبالإضافة إلى هذه المحظية: فقد كان يتبنى

الفتيات بعد أن يستمتع بهن، ويبتعثهن إلى أوروبا لإتمام دراستهن، وقد غص

قصره بهن، إذ كانت الواحدة منهن لا تقضي معه أكثر من أسبوعين فقط [١٥] ،

فكم يا ترى منهن تقلدن المناصب فيما بعد؟ ، وما هي ثمار أعمالهن في المجتمع

التركي؟ .

إن الخمر التي أدمنها منذ شبابه سببت له آلاماً ما برحت تعاوده، حتى كانت

نهايته، وقد شاع عنه ذلك السلوك في سائر أنحاء البلاد، وقد كان يجاهر بذلك في

الأماكن العامة [١٦] ، ولم تكن تمر عليه وأصحابه وأحبابه يوم وليلة بلا مسكر،

على الرغم من أنه سنّ قانوناً يحرّم تعاطي المسكرات [١٧] ، وعلى الرغم من

توفر أفضل سبل الرعاية الصحية له إلا أن أحداً لم يتمكن من تشخيص علّته،

وبالتالي: علاجه، فهلك حتف أنفه يوم العاشر من أكتوبر سنة ١٩٣٨م، ومن

السخف الذي رافق حقبة مرضه: أنه أمر بتكليف مختصين من القوة البحرية

بمحاربة النمل الأبيض المهاجر من الصين الذي يسبب له الأعراض التي كان يشكو

منها، بينما هي في الواقع من جرّاء إفراطه في تعاطي الخمور [١٨] ، فالرجل

وحاشيته من حوله يرفضون الاعتراف بالأمر الواقع والناشئ عن محادّة الله ورسوله

(عليه الصلاة والسلام) !

ومما جاء في وصيته بعد تخصيص المبالغ اللازمة لبناته بالتبني: ألا يُصلى

عليه صلاة الميت، لكن أخته توسلت إلى المسؤولين بفعل ذلك على حد قول شيخ

الإسلام مصطفى صبري [١٩] ، وقد تمت الصلاة في وسط حضور محدود في

قصر (دولة بانجه) بإستانبول، حيث وافته المنية في قصور السلاطين الذين أنكر

عليهم تلك الحياة المترفة! ولقد تم تحنيط جثته ووضعت في تابوت من الرصاص

على عادة النصارى، ولا يُعلم إن كان قد غُسّل وكفن أم لا، ثم نقل الجثمان في

ظل موكب مهيب من السفن الحربية للدول الأجنبية إلى مدينة أنقرة، ووضع

التابوت أمام مجلس الأمة ليمر الناس عليه ليلاً ونهاراً، وقد أوفدت بريطانيا سَرِيّة

كاملة من جنود الحرس للمشاركة [٢٠] ، وقد صرّح خليفته وساعده الأيمن وهو

يسير خلف الجنازة بأن (حُبّه عبادة) [٢١] ، بينما علق مستشرق ألماني على

غياب أتاتورك قائلاً: (لقد توفي وشعبه في أمسّ الحاجة إليه، تاركاً لهم دولة

مصونة من الخارج ومزدهرة في الداخل) [٢٢] ، ويضيف فرنسي آخر:

(استطاعت الثورة الكمالية، وبدفع من مؤسسها الملهم، الانطلاق دون مكابدة

مؤسسات فات زمانها، وقدمت للعالم صورة لبلد قادر على لعب دور نموذجي في

مجمع الأمم المتحضرة) [٢٣] .

رفض مصطفى كمال منصب القائد العام للجيش في أول حرب بعد قرار

الاتحاديين؛ خشية إلحاق الهزيمة به شخصيّاً، ثم ما لبث أن طالب المجلس بإضفاء

لقب (غازي) عليه ومنحه مبلغ أربعة ملايين ليرة مكافأة على انتصاره [٢٤] ،

ثم إن الجمعية الوطنية خلعت عليه لقب (أتاتورك) (أي: أبو الأتراك) ، تكريماً

له سنة ١٩٣٤م بعد تصديق قانون ألقاب الأسر [٢٥] ، ووالله لا أدري ما هو موقف

هؤلاء القوم بعد أن أصبح معروفاً للناس بأن أتاتورك استدعى سفير بريطانيا لدى

بلاده وهو على فراش الموت راجياً منه تولي مقاليد البلاد عقب وفاته، كما نشرت

ذلك جريدة (الصنداي تايمز) اللندنية، ونقلتها الأهرام المصرية في عدد ١٥/٢/

١٩٦٨م [٢٦] ، ولا نعجب عندما يروي لنا القنصل المصري في إستانبول

(مصطفى السعدني) سنة ١٩٥٢م أن أتاتورك كان يفكر جديّاً في إعلان النصرانية

ديناً للبلاد لولا تحذير أعوانه [٢٧] ، ربما لم يعرف قدر الرجل من وسط هؤلاء

جميعاً بل وحقيقته سوى بابا الفاتيكان (جون بول الثاني) ، فعندما زار تركيا سنة

١٩٧٩م صرّح قائلاً: (إني أول بابا في التاريخ ينحني باحترام أمام مقبرة

أتاتورك، فتركيا بلد له أهميته القصوى دينيّاً وتاريخيّاً) [٢٨] ، أما اليهودي

(موئير كوهين) وهو تركي من الدونمة فقال عن أتاتورك: (إنه ليس أسطورة،

بل إنسان من لحم ودم، بل إنه فوق الإنسان!) [٢٩] ، والعبارة الأخيرة أما أن

تكون معبرة عن عقيدة الشعب المختار التي ينتمي إليها أتاتورك، أو السلوك

الشخصي الذي سار عليه والذي وصل به إلى حد التأليه، بينما يطلع علينا مؤرخ

مسلم يزعم بأن العلمانية التي فرضها أتاتورك لم تكن تسعى إلى مقاومة الدين

بالصورة التي يشيعها أعداؤه [٣٠] ، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

الورثة وإنفاذ الوصية:

يُؤْثَر عن (ميكافيللي) في روايته الشهيرة (الأمير) قوله: (رجحان

عقل الأمير (الحاكم) وكفايته يقاسان بصفات المحيطين به، فالأمانة والكفاية والخلق

تدل على رجحان عقله، وإلاّ عكس ذلك كان الرأي في الأمير) [٣١] ، وباعتبار

هذه المقياس، فإن أتاتورك قد أحاط نفسه بطائفة من الإمعات والنكرات الذين لم

يجرؤوا على إخباره بحقيقة مرضه وسبل الشفاء منه، ف (عصمت إينونو)

مبعوثه الخاص إلى مؤتمر لوزان ونائبه لفترة طويلة ليس له دور قيادي في ظل

وجود ولي نعمته، لكنه كان معجباً بسيده حتى الموت، على طريقة (وزير

فرعون) ، على أي حال: فقد انتخبه المجلس الوطني الكبير لرئاسة الجمهورية،

وحكم لمدة ستة عشر عاماً (١٣٥٦ ١٣٧٠هـ) ثم انتقل إلى صفوف المعارضة، حتى

هلك سنة ١٣٩٣هـ في أنقرة [٣٢] ، والحق يقال: إنه ظل مخلصاً لمبادئ سيده

المناهضة للإسلام، فاستمرت سياسة التضييق على دعاة الإسلام حتى عام ١٣٦٩

هـ، حيث حصل بعض الانفراج برئاسة رئيس الوزراء (عدنان مندريس)

فأعيد القرآن والأذان بالعربية، وأعيد فتح المدارس الدينية، إلا أنّ الكماليين

رفضوا إشراك الدين في السياسة [٣٣] ! ! ، وفي المقابل: نجد أن الولايات

المتحدة توجه الصفعات المتتالية للعلمانيين الأتراك، إذ رفض الكونجرس إقراض

تركيا خمسة ملايين دولار لـ (عصمت إينونو) وحكومته من أجل تطوير

الصناعة (لإبقائه عالة على صدقات الغرب) ، فيما عارض (دين أتشتسون)

وزير خارجية أمريكا دعم تركيا عسكريّاً في سنة ١٩٤٦م؛ لشعوره بالقلق من

احتمال انتصار تركيا (العلمانية) على الاتحاد السوفييتي (إمبراطورية الشر) [٣٤] ،

وبالفعل: فقد أفصحت أمريكا عن هدفها الحقيقي، وهو الاحتفاظ بإدارة الشؤون

الاقتصادية؛ بغية عرقلة وصول تركيا إلى التقدم الصناعي، والتأكيد على بقائها

دولة زراعية [٣٥] ، وبسبب التوجه العلماني والاعتناق الشديد للمدنية الغربية،

وفي مقابل الانفتاح الاقتصادي والسياسي: تمكنت تركيا من المشاركة في المجلس

الأوروبي سنة ١٩٤٩م، وحلف الأطلسي سنة ١٩٥٢م، ثم الانتساب إلى السوق

الأوروبية سنة ١٩٦٤م [٣٦] .

ولا تزال القضية الأخيرة موضع أخذ ورد بين الأوروبيين، ففي نظرهم:

تركيا لا تزال دولة إسلامية على الرغم من علمانيتها المعروفة، وفي هذا الجانب

كتب رئيس تحرير صحيفة (التايمز) اللندنية معلقاً على انضمام تركيا إلى المجلس

الأوروبي: (إنه من المضحك قبول تركيا فيه، حيث لم تكن هناك خصائص

الاتحاد والتي تتمثل في التقليد المشترك والدين واللغة) ، فكان رد المندوب التركي

للمجلس هو: (إن الدين يجب ألا يؤخذ بعين الاعتبار في العلاقات الدولية، ثم إن

تركيا ليست دولة دينية؛ لأنها تبنت العلمانية منذ ربع قرن، وكذلك: فإن اللغة

التركية هي من سلالة اللغات الهنغارية والفنلندية، وعليه: فإن الأتراك يعتبرون

أنفسهم جزءاً من المدنية الغربية) [٣٧] ، وقد مضى على إعلان الجمهورية أربعة

وسبعون عاماً، ولا تزال أوروبا ترفض انضمامها إلى كيانها الاقتصادي! .

الشعب يصحو:

نتج عن التحول الضئيل عن السياسة الكمالية عودة لمطالبة الشعب بالقوانين

الإسلامية، وبالفعل: تمكن أول نائب إسلامي وهو (نجم الدين أربكان) من

الوصول إلى منصب الرجل الثاني في الحكومة بتحالفه مع حزب الشعب ذاته الذي

أسسه أتاتورك ضمن حكومة ائتلافية، وكان ذلك سنة ١٩٧٧م، إلا أن الكماليين

وبالذات العسكريين منهم لم يتحملوا هذه التحولات، فقاموا بانقلاب سنة ١٤٠٠هـ

(١٩٨٠م) ، وتم حل البرلمان وإلغاء الأحزاب السياسية [٣٨] ، وقد حاكم

العسكريون (أربكان) وأعضاء حزب (السلامة) بتهمة العمل على قيام دولة

إسلامية، وتطبيق الشريعة، وافتتاح مدارس للقرآن، وإعادة فتح جامع (آيا

صوفيا) ، وتحويل العطلة إلى يوم الجمعة، وتغيير الحروف إلى العربية [٣٩] ،

ويظهر أن العسكر قد أدركوا حجم الخطأ! الذي ارتكبه الساسة سابقاً عندما قدموا

بعض التنازلات، فبادروا هم كالعادة إلى حل المسألة!

استمرت أمريكا وحلفاؤها يرفضون مجرد انضمام تركيا لمفاوضات حلف

شمال الأطلسي؛ وذلك بسبب عدم انتمائها إلى الأسرة المسيحية الأوروبية، وعقب

انضمامها سنة ١٩٥٢م قامت أمريكا ببناء مئة قاعدة عسكرية في البلاد للتنصت

على الاتحاد السوفييتي دون علم المجلس الوطني التركي، ومُنِع الأتراك من دخول

تلك القواعد بمن فيهم العسكر [٤٠] ، وفي هذا دلالة على أن الشعور بعدم الثقة لا

يزال قائماً، في الوقت الذي قامت فيه حكومة (عدنان مندريس) وتحت إشراف

خبراء أمريكيين بتشكيل لجنة تعليمية عليا للتخلص من كل ما تبقى من الكتب

القديمة والعزيزة على الأتراك، وفتح الباب أمام منظمة (فيالق السلام) لتقوم بتغيير

أفكار المجتمع بحرية مطلقة تماماً [٤١] ، فيما هدد الرئيس (جونسون) حليفه

(مندريس) بأن يتركه فريسة للروس إذا غزا جزيرة قبرص، وقد فرضت حكومة

الرئيس (نيكسون) حظراً عسكريّاً على تركيا، بعدما تجاهلت التهديد السابق،

وغزت قبرص إبان تولي (أربكان) نيابة رئاسة مجلس الوزراء عام ١٩٧٧ م،

ولم يرفع الحظر إلا في زمن إدارة الرئيس (كارتر) الذي شعر بخطر تغلغل

حزب (الإنقاذ الوطني) بقيادة (أربكان) في الريف التركي واستقطابه ... للشباب [٤٢] .

الخاتمة:

بعد هذه الرحلة الطويلة عبر الماضي مع هذه الشخصية المثيرة للجدل،

نحاول استخلاص العبر والدروس مما مر معنا؛ لأن هذه هي ثمرة العلم بالتاريخ،

فالرجل المجهول الأصل والنسب الذي أراد التضحية بالحجاز حيث قبلة المسلمين

ومسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكي يحافظ على القدس! (وربما يفسر لنا

هذا صحة ما أشيع عن رغبته في إعلان النصرانية ديناً للبلاد) ، ثم خياناته المتتالية

للمسلمين في سورية وفلسطين والبلقان وأذربيجان، وانقلابه على السلطان (وحيد)

الذي أوفده للأناضول، ثم تجاهل الإنجليز لتسلحه وتمويله، بل واصطناع

الأحداث لجعله بطلاً قوميّاً تخضع له جماهير الشعب مثلما حصل مع اليونان في

إستانبول وتراقيا، ومروراً بتعهده بإلغاء الخلافة ونفي أسرة الخليفة، ونبذ الإسلام، وانتهاءً بإشاعة الفاحشة في أوساط المسلمين الأتراك.. كل هذه الأعمال قام بها

رجل يدّعي الإسلام، فلم يواجه من المتاعب معشار ما لاقته بريطانيا في محاولاتها

المستميتة في ثني رعاياها المسلمين عن الحماس لدينهم، وإخوانهم في أرجاء

المعمورة، فكيف تسنى له ذلك؟ ! ، وهل الكفر بالله لفظاً، أو عملاً، أو كتابة..

ينبغي أن يصدر من أناس أسماؤهم أوروبية غربية أو شرقية حتى تتحرك العواطف؟ أم أن المسلمين طالما أن القانون صدر عن شخص يحمل اسماً إسلاميّاً، فهذا

يكفيهم لقبوله وتنفيذه، أو على الأقل: عدم مقاومته وفضح خطره وخطله؟ .

عندما حكم الاتحاديون البلاد عينوا الكونت (أوستورلغ) الإيطالي مستشاراً

لوزارة العدل، لأنه أفقه أهل المدينة [٤٣] ! ، إذ لا يوجد في إستانبول كلها عالم

بأصول الفقه مثله! ، بينما السلطان (محمد وحيد الدين) السادس يأمر قائد جيشه

بالتراجع أمام جيش الكماليين عن فرط حسن ظنه بالغازي [٤٤] ، في الوقت الذي

سرت مقولة عند الإنجليز بأن (السلطان وحيد الدين أراد أن يكيد الإنجليز

بمصطفى كمال، فكاد الإنجليز السلطان به) [٤٥] ، ذلك الباشا الذي يقول عنه

السلطان عبد الحميد الثاني في المرة الوحيدة التي لمحه فيها: (لم يكن يشبه

العسكريين العاديين) [٤٦] ، فهل قصد أصله العرقي أم شخصيته الماكرة؟ ، وبعد

أن أدى واجبه: عرض عليه منصب الخلافة، فجاء رده الطبيعي: (إن الإنجليز

سوف لا يرضون عن هذا) [٤٧] .

وإن المرء ليتملكه العجب؛ إذ كيف تنهزم دول الحلفاء المنتصرة في الحرب

العالمية الأولى أمام قائد عثماني سبق وأن انهزم أمام الإنجليز في فلسطين حينما

كانت إمكاناته أكثر وأكبر، لأنه كان يحقق أهداف إنجلترا وفرنسا في تقسيم البلاد

العربية، وحل المشكلة اليهودية على حساب العرب، وكبت الشعور الإسلامي في

الهند، وإلغاء السلطة الروحية للخلافة [٤٨] ، لكن عودة أصول أتاتورك إلى يهود

دونمة يذهب تلك الحيرة، فتلك الفئة استمالت الضباط، وخدعت الناس بالشعارات

الطنانة، وأقحمت الدولة في حرب خاسرة، وإن العلمانيين في العالم الإسلامي مع

الأسف يفكرون بالطريقة نفسها، ويرومون تخريب البلاد كما فعل أتاتورك [٤٩] ،

فيما يعترف أحد أساطين السياسة في زمانه وهو المستشار النمساوي (بسمارك) :

(بأن وجود السلطة العثمانية والمحافظة عليها، وإن كان فيهما كثير من المخالفة

للمدنية المسيحية، فهما خير لأوروبا) [٥٠] ، وعلى الرغم من النظرة الطبقية

والعصبية الدينية في هذه المقولة، إلا أنها تحمل في طياتها معنًى كبيراً لا يدركه

علمانيو زماننا في انتشار التطرف والإرهاب والأصولية كما يزعمون، وهم

يشتركون مع أحد المنصرين الألمان الذي أعماه الحقد عن رؤية الحق والخير،

فدعى إلى محاربة الإسلام في عقر داره، وبالذات إستانبول حيث الخلافة [٥١] .

يبدو أن مشكلة العلمانيين منذ عهد أتاتورك وإلى الآن هي في مصادر تلقيهم

للمعلومات، وكما قرّر ذلك أحد المتخصصين في التاريخ العثماني بقوله: (إن

اهتمام أوروبا بالعثمانيين بدأ منذ القرن السادس عشر الميلادي، وقد تم تدريس

تاريخهم بصورة عدائية، فلما توجه أبناء المسلمين للدراسة هناك في القرن الحالي

ورثوا عن الأوروبيين عداء العثمانيين أيضاً) [٥٢] ، وأضيف: أنهم تلقوا منهم

حتى معلوماتهم عن الإسلام وشرائعه، فضلّوا وأضلّوا، فلا بد إذن من تصحيح

مصدر التلقي عند هؤلاء، وكذلك المسلمين جميعاً؛ حتى لا نظل نوقد الشموع،

ونضطر إلى التوقف عن الحركة لمدة دقيقتين، ونصدر الصحف باللون الأسود،

حداداً على ذكرى رجال الإنجليز من العلمانيين كما يفعل الأتراك [٥٣] ، وهو ما

تفعله تركيا في ذكرى وفاة أتاتورك من كل عام حتى الآن.


(١) الرجل الصنم، ص ٣٤٦ ٣٤٩، بتصرف.
(٢) علي حسّون، تاريخ الدولة العثمانية، ص ٣٢٨.
(٣) الرجل الصنم، ص ٣٢٩.
(٤) حسّون، مصدر سابق، ص ٣٣٣.
(٥) الأسرار الخفية، د مصطفى حلمي، ص ٢٣٨.
(٦) المصدر نفسه، ص ٢٥١.
(٧) الرجل الصنم، ص ٤٤٣.
(٨) الأسرار الخفية، ص ٣٢٧.
(٩) الرجل الصنم، ص ٣٦٣ ٤٣٤، بتصرف.
(١٠) المصدر السابق، ص ٤٤١.
(١١) المصدر نفسه، ص ٤٦٥.
(١٢) العثمانيون في التاريخ والحضارة، د محمد حرب، ص ٨٧.
(١٣) مانتران، تاريخ الدولة العثمانية، ج٢، ص ٢٥٥.
(١٤) تركيا وحلف شمال الأطلسي، د أحمد النعمي، ص ٣١.
(١٥) الرجل الصنم، انظر: الفصل السابع كاملاً.
(١٦) الرجل الصنم، ص ٣٨١.
(١٧) الأسرار الخفية، ص ١٦٣.
(١٨) الرجل الصنم، ص ٥١٢.
(١٩) محمد فريد، تاريخ الدولة العلية العثمانية، ص ٧٥٢.
(٢٠) الرجل الصنم، ص ٥٢٩ ٥٣٦، بتصرف.
(٢١) الرجل الصنم، ص ٥٤٤.
(٢٢) بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ص ٧١٠.
(٢٣) مانتران، مصدر سابق، ص ٣٤٧.
(٢٤) الرجل الصنم، ص ٢٤٢.
(٢٥) بروكلمان، مصدر سابق، ص ٧٠٣.
(٢٦) الأسرار الخفية، ص ١٧.
(٢٧) المصدر نفسه، ص ١٦٤.
(٢٨) العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص ٢٠.
(٢٩) المصدر نفسه، ص ٩٥.
(٣٠) في أصول العثمانيين، أحمد مصطفى، ص ٣١٥.
(٣١) الشناوي، ص ٣١٢.
(٣٢) حسّون، ص ٣٣٤.
(٣٣) حسّون، ص ٣٣٧.
(٣٤) تركيا وحلف شمال الأطلسي، ص ٧١.
(٣٥) المصدر نفسه، ص ٨٩.
(٣٦) المصدر نفسه، ص ١١٣.
(٣٧) المصدر نفسه، ص ١١٥.
(٣٨) حسّون، ص ٣٤٥.
(٣٩) المصدر نفسه، ص ٣٥٢.
(٤٠) تركيا وحلف شمال الأطلسي، ص ١٤٧.
(٤١) المصدر نفسه، ص ١٦٢.
(٤٢) المصدر السابق، ص ٣٦٠.
(٤٣) الأسرار الخفية، ص ١٨٣.
(٤٤) الرجل الصنم، ص ٢٦١.
(٤٥) محمد فريد، ص ٧٥٠.
(٤٦) مذكرات السلطان عبد الحميد، ص ٢٦١.
(٤٧) الرجل الصنم، ص ٥٤١.
(٤٨) محمد فريد، ص ٧٦٤.
(٤٩) التعصب الأوروبي أم التعصب الإسلامي، ص ٢٥٣.
(٥٠) المصدر السابق، ص ١٥٩.
(٥١) حسّون، ص ٣٢٨.
(٥٢) العثمانيون في التاريخ والحضارة، ص٣.
(٥٣) الرجل الصنم، ص ٥٤١.