للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مقال

تأملات في فقه الجهاد

(٢ من ٢)

بقلم: د. محمد بن عبد الله الشباني

بدأ الكاتب في الحلقة السابقة مقاله ببيان العلاقة الاضطرادية بين قوة ... المجتمع الإسلامي وعزته وتطبيق أحكام الإسلام، ثم شرع في بيان أنواع الجهاد وأشكاله، وفصل الكلام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتباره من صور الجهاد، ثم طفق يتحدث عن القتال والنزال، مبيناً المفهوم الصحيح لتلك الصورة من صور الجهاد، وانتهى به الحديث إلى أهداف القتال ومراميه، وكذلك صفات القيادة التي يجب توفرها في دعاته، ويواصل حديثه عما بقي من صور الجهاد في هذه الحلقة.

- البيان -

ثانياً: جهاد الكلمة:

النوع الثاني من أنواع الجهاد في تغيير المنكر هو جهاد الكلمة، الذي يمثل

أفضل الجهاد؛ لما للكلمة من تأثير في تغيير المجتمعات، فجميع الحركات التي

حدثت في التاريخ كان للكلمة المكانة الأوفر في إحداث تلك التغيرات، لقد وجه

الرسول (عليه الصلاة والسلام) الأمة إلى أهمية جهاد الكلمة، وأعطاها المنزلة

الرفيعة؛ حيث إن لها دوراً مؤثراً وفاعلاً في تغيير المجتمعات، وتحويلها من

مجتمعات مسلوبة الإرادة إلى مجتمعات حية متفاعلة، تأمر بالمعروف، وتنهى عن

المنكر، وتردع الظالم، وتمنع الظلم أن يكون له مرتع في كيان الأمة، من تلك

الأحاديث الموجهة لجهاد الكلمة: ما رواه أحمد والطبراني في قوله (عليه الصلاة

والسلام) : (أحب الجهاد إلى الله: كلمة حق تقال لإمام جائر) [١] ، وقوله (عليه

الصلاة والسلام) في الحديث الذي رواه الترمذي: (أفضل الجهاد: كلمة عدل عند

سلطان جائر) [٢] ، وما رواه النسائي من أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه

وسلم- وقد وضع رجله في الغَرْز: أيّ الجهاد أفضل؟ ، قال: (كلمة حق عند

سلطان جائر) [٣] ، وكذلك قوله (عليه الصلاة والسلام) : (أفضل الشهداء رجل قام

إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) ، وقوله-صلى الله عليه وسلم-: (سيد الشهداء:

حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) [٤] ، ومن

جملة هذه الأحاديث يتضح ما للكلمة من مكانة في الأمر بالمعروف والنهي عن

المنكر، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبط أشد الارتباط بالجهاد من

خلال الكلمة الصادقة الجريئة، بل إن لها دوراً أكثر تأثيراً على تغيير المجتمعات

وإصلاح أحوالها بدلاً من حمل السلاح والعمل على تغيير المنكر باليد، لهذا: نجد

كثيراً من الأحاديث تنهى عن الخروج على الحاكم الجائر ذى المنعة والقوة؛ لأن

الخروج عليه لا يحقق الهدف من إقامة المعروف وإزالة المنكر؛ حيث إن للحاكم

المقيم للمنكر والمساند له وسائل عديدة للتأثير على الناس يفوق ما تملكه الفئة التي

تسعى إلى تغيير المنكر وإقامة الحق؛ لهذا جاءت الأحاديث تنفر من هذا المسلك في

المجتمع الذي يقل فيه العلم وتمارس فيه شعائر الإسلام التعبدية، فقد روى مسلم

والنسائي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) ، قال: قال رسول الله-صلى الله عليه

وسلم-: (عليك السمع والطاعة، في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة

عليك) [٥] ، وقوله (عليه الصلاة والسلام (كما رواه مسلم والترمذي وأبو داود من

حديث أم سلمة (رضي الله عنها) أن الرسول (عليه الصلاة والسلام) قال: (ستكون

عليكم أئمة تعرفون منهم وتنكرون، فمن أنكر بلسانه فقد برئ، ومن أنكر بقلبه فقد

سلم، ولكن من رضي وتابع، فقيل: يا رسول الله، أفلا نقاتلهم؟ ، قال: لا، ما

صلوا) [٦] وحديث ابن عباس الذي رواه مسلم والبخاري أن الرسول (عليه الصلاة

والسلام) قال: (من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً

مات ميتة جاهلية) [٧] ، إن هذه الأحاديث تؤكد حقيقتين:

الأولى: أن الخروج المسلح لا يجوز إلا إذا وصل الأمر بالحاكم إلى الكفر البواح أو منع الشعائر التعبدية التي ترتبط بالحياة الفردية المباشرة، أما إذا كان الأمر يتصل بالمظالم المادية: فإنه لا يجوز ذلك، حيث أرشد الرسول (عليه الصلاة والسلام) إلى ذلك، كما رواه أبو داود عن أبي ذر (رضي الله عنه) أنه قال: قال رسول الله: (كيف أنتم وأئمة من بعدي يستأثرون بهذا الفيء، قلت: إذن والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي، ثم أضرب به حتى ألقاك، أو ألحقك، قال: ألا أدلك على خير من ذلك؟ .. تصبر حتى تلقاني) [٨] .

الثانية: ضرورة الإنكار باللسان وتبيان الحق لأولئك المخالفين؛ فإن البراءة

من المسؤولية أمام الله لا تكون إلا بقول الحق، والتاريخ الإسلامي شاهد على تأثير

الكلمة ودورها في إنكار المنكر، وتحقيق التغيير، وردع الباطل.. أكثر من

استخدام القوة، ففي عهد المأمون ومن جاء بعده من خلفاء بني العباس، حيث

ظهرت بدعة خلق القرآن وإجبار الناس على ذلك، فقد كانت هناك جبهتان

للمناهضة:

الأولى: جبهة أحمد بن نصر الخزاعي (رحمه الله) صاحب الإمام أحمد بن حنبل، وأحد العلماء المشهورين، حيث عمد إلى استخدام القوة لإزالة المنكر ومجابهته، فانتهى أمره إلى قتله وصلبه وتفرق أصحابه.

أما الثانية: فكانت بقيادة الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله) ، الذي ناهض هذه البدعة وأنكرها بلسانه، وتحمل المشقة والسجن، وانتهى الأمر بانتصاره، والرجوع إلى الحق، وحماية عقيدة الإسلام من التبديل والتشويه، وكان لصلابته وتحمله الأذى الأثر البالغ بأن تتابع المجاهدون بالجهر بقول الحق، فقتل منهم أعداد كثيرة، وسجن أعداد كثيرة، ولكن كانت النهاية هزيمة فكر المعتزلة الذي تبنته الدولة العباسية في عهد المأمون والمعتصم والواثق، وانتصار نهج السلف الصالح أخيراً.

أهمية الجهاد بالكلمة:

إن قيمة جهاد الكلمة وبلوغ ممارسها منزلة سيد الشهداء في سبيل الله كما أخبر

بذلك الرسول (عليه الصلاة والسلام) إنما تعود إلى الأمور التالية:

١- أن الكلمة الشجاعة القوية تعرض صاحبها للمخاطر والمهالك؛ لأن

المجاهد في الميدان ضد الكفار يجاهد في معركة جلية، وهو بين احتمالين: نصر

وعزة في الدنيا، أو شهادة يذوق فيها الموت مرة واحدة، أما مجاهد الكلمة: فهو

فرد أعزل أمام سلطة ذات بأس شديد، واحتمال هلاكه أكثر من سلامته.

٢- المجاهد بالكلمة الصادقة في معركة خفية مبهمة عند الناس، ولاسيما في

زمن انتشار البدع وضعف الإسلام وقلة حماته، وبالتالي: فهو يتعرض ميِّتاً وحيّاً

للتشويه والتجريم، فهو عند السلطة التي لا تحكم بالإسلام مرتكب خيانة ومجرم

سياسي خطير، فيتسنى لها إلصاق التهم به واستخدام كل الوسائل المؤثرة لديها

لتحقيق ذلك من خلال الشرطة، والإعلام، وتحريف الكلم والحقائق.. واعتبار

قول الحق انحرافاً ورجعيةً، والاحتساب بذلك في نظرها فتنة وجريمة وخروج

على السلطة الحاكمة بأمرها.

٣- إن مجاهد الكلمة معرض للفتنة أكثر من مجاهد السلاح واليد، والنجاة من

الفتنة أشق؛ لأن فتنة التعذيب والسجن قد تسبب الانهيار العصبي والكآبة، فقد

ينقلب من صف المصلحين إلى نقيضهم.

ومن هنا: ندرك مغزى ورود نصوص الجهاد والأمر بالمعروف، مثل قوله

(تعالى) : [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ

المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [آل عمران: ١٠٤] ، ومن هذه الآية يفهم أن كلمة

الحق واجب عيني على جماعة القادرين من أهل العلم والدراية، كالعلماء ورجال

الفكر والمختصين في الميادين التي يشيع فيها المنكر.

إن جهاد الكلمة لا يمكن أن يحقق هدفه في إزالة المنكر وأشاعة المعروف إلا

إذا تعاون المجتمع كله تحقيقاً لقوله (تعالى) : [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا

تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ] [المائدة: ٢] ، إن من المفاهيم الخاطئة حول جهاد

الكلمة عند بعض الناس: تحميل العلماء فقط كل مسؤولياتهم ليريحوا أنفسهم من

عناء المجاهدة، والرسول (عليه الصلاة والسلام) لم يشترط أن يكون قائل كلمة

الحق والعدل فقيهاً مجتهداً أو عالماً أو مفكراً أو طالب علم؛ لأن قول كلمة الحق

واجب عام على الخاصة والعامة، كل بحسب حاله، والشريعة لم تشترط أن يكون

المجاهد بالكلمة والآمر بالمعروف عالماً، وإنما يُشْتَرط أن يكون الآمر بالخير على

بصيرة فيما يأمر به، عالماً بالحكم الشرعي فيما يأمر به أو ينهى عنه.

إن مفهوم السلطان الجائر كما جاء في الأحاديث يشمل كل متسلط لا تتوافر

فيه العدالة والكفاية والعدل والمشاورة، فغالباً ما يكون السلطان طائفة مذهبية أو

هيئة حزبية لا يستطيع أحد معارضتها، ومن فعل ذلك: فقد يتعرض للأذى

والمطاردة، فعبارة (السلطان الجائر) تتضمن أمرين: الأول: السلطة التي يخضع

لها رغبة فيها أو رهبة منها، فكل من خافه الناس ورجوه فهو سلطان، والثاني:

الجور، وكل من حاد عن الطريق المستقيم فهو جائر، وكل جائر لا يتوقع منه

المعاملة بالعدل والإنصاف.

ثالثاً: الجهاد بالقلب:

النوع الثالث من أنواع الجهاد هو الجهاد بالقلب، وقد أشار إلى ذلك الحديثُ

الذي رواه مسلم: (ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن) [٩] ، وهذا الجهاد هو رخصة

أباحها الله للذين لا يستطيعون الجهاد باليد أو بالكلمة، ولكن لهذه الرخصة ضوابطها

وشروطها، ولها إطارها الذي ينبغي أن يفهم فيه جهاد القلب، والذي يمكن تسميته

(الجهاد الصامت) .

والجهاد بالقلب له دور فعال ومؤثر في تغيير المنكر وإقامة المعروف،

وممارسته في واقع حياتهم، واتباع أوامر الدين في خاصة أنفسهم، وعدم مناصرة

الظلمة ممن يحكمون بغير ما أنزل الله..، وإذا لم يتوفر ذلك: فإن الجهاد يصبح

فرضاً، كما في قوله (تعالى) : [انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً] [التوبة: ٤١] ؛ لأن بقاء

المنكر يعني التعرض للهلاك كما أشار إلى ذلك القرآن في قوله (تعالى) : [وَاتَّقُوا

فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً] [الأنفال: ٢٥] ، وقول الرسول (عليه

الصلاة والسلام) : (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع،

وتركتم الجهاد: سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) [١٠] .

إن من أسباب ضعف وعدم بروز الجهاد بالقلب في الحياة الإسلامية: ما أشار

إليه الحديث الذي رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود، والذي قال فيه المصطفى

(عليه الصلاة والسلام) : (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل: كان الرجل

يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتقِ الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من

الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله

قلوب بعضهم ببعض) ، ثم قال: [لُعِنَ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ

دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ] إلى قوله [فَاسِقُونَ] ، ثم قال الرسول (عليه الصلاة

والسلام) : (كلا والله، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على

يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو

ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليعلننكم كما لعنهم) [١١] ، فالحديث

أشار إلى حقيقة واضحة، وهي: أن الناهين عن المنكر من بني إسرائيل لم

يعتزلوا أولئك الممارسين له، بل مارسوا الحياة العامة معهم، فلم يشعروهم بالعداوة

من خلال اعتزالهم ومنابذتهم.

يتم تحقيق الجهاد بالقلب من خلال تطبيق التوجيهات النبوية التي أشار إليها

الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه مسلم، الذي جاء فيه:

(يهلك أمتي هذا الحيّ من قريش، قالوا: فما تأمرنا؟ ، قال: لو أن الناس

اعتزلوهم) [١٢] ، فهذا الحديث يشير إلى أسلوب الجهاد بالقلب الذي ينبغي عمله

لجميع الناس عندما يرون تفشي المنكر، وهو: تنفيذ الاعتزال كحركة جماعية،

فالرسول (عليه الصلاة والسلام) لم يقل: لو اعتزلتموهم أنتم، بل قال: لو أن

الناس اعتزلوهم.

وهذا أسلوب سلمي.. مع تجنب المجالسة والمخالطة لأولئك المعتدين

والمنحِّين لشرع الله.

هذه اجتهادات وتأملات، آمل أن أكون قد لامست فيها الحقيقة، فإن أصبت

فمن الله وحده، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان.

والله أسأل أن يهدينا إلى سواء السبيل، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.


(١) أخرجه أحمد والطبراني، وحسنه الألباني، انظر صحيح الجامع، ح/ ١٦٨.
(٢) أخرجه الترمذي، كتاب الفتن، وأبو داود، كتاب الملاحم، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، ح/٤٩١، وانظر: صحيح سنن أبي داود، ح/ ٤٣٤٤، وابن ماجة، ح/٤٠١١.
(٣) أخرجه النسائي، واللفظ له، ك/البيعة، وابن ماجة، وأحمد بن حنبل، وصححه الألباني.
(٤) أخرجه الحاكم والطبراني، وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد، ومال الألباني إلى تصحيحه، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، ح/٣٧٤.
(٥) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، ح/١٨٣٦، واللفظ له، والنسائي، وأحمد بن حنبل.
(٦) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، ح/١٨٥٤، وأبو داود، كتاب السنة، باب قتل الخوارج، واللفظ له، والترمذي، وأحمد بن حنبل.
(٧) أخرجه البخاري، كتاب الفتن، ب/٢، واللفظ له، ومسلم، ح/١٨٤٩، وأحمد في المسند، ٨/٨٧.
(٨) أخرجه الإمام أحمد، ج٥ ص١٨٠، وأبو داود، كتاب السنة، باب قتل الخوارج، ح/٤٧٥٩، وضعفه الألباني، انظر: ضعيف سنن أبي داود، ص ٤٧١.
(٩) سبق تخريجه.
(١٠) أخرجه الإمام أحمد في المسند، ٢/٨٤، وأبو داود واللفظ له، ك/ البيوع، وصححه الألباني، ح/١١ من السلسلة الصحيحة.
(١١) سبق تخريجه.
(١٢) أخرجه مسلم، كتاب الفتن، ح/٢٩١٧.