للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات أدبية

معالم على طريق الأدب الإسلامي

(٣ من٣)

الروح الإسلامية في العمل الأدبي

بقلم: طاهر العتباني

فصّل الكاتب في الحلقة الأولى المعايير والأسس التي بنى عليها مَن تبنّى

مصطلح (الأدب الإسلامي) مقومات قبوله ووجوده، ثم تحدث في الحلقة الثانية عن

مضامين الأدب، حيث يحمل كل أدب سمات الفكر الذي ينتمي إليه ونسيجه، ثم

تحدث عن دور الأديب المسلم ومعالم تبعاته ووجوب استلهامه صور القرآن والسنة

ودلالالتهما وتعبيراتهما أصلاً ينطلق منه، ويواصل الكاتب في حلقته الأخيرة بقية

الموضوع.

- البيان -

قد يتصور بعضنا أن الأدب الإسلامي شعراً أو قصةً، روايةً أو مسرحية

يجب أن تكون موضوعاته ما ورد في المنهج الإسلامي من مفاهيم وعقائد وعبادات

وشرائع ونماذج إسلامية تاريخية كشخصيات الصحابة والتابعين، وما يتبع ذلك من

أحداث إسلامية أو مناسبات كذكرى الهجرة والإسراء، والغزوات التي خاضها ... النبي - صلى الله عليه وسلم- وصحابته ... وما إلى ذلك من مفاهيم إسلامية مجردة ومعانٍ دينيةٍ خالصة دون أن يتطرق ذلك الأدب إلى الحديث عن الهموم الاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية والإنسانية بشكل عام، وبدون أن يصوّر الشر الذي وقعت فيه مجتمعات العالم اليوم إسلامية كانت أو غير إسلامية.

والحق كما نراه في نظرية الأدب الإسلامي أن هذا الذي ذُكر، وإن كان جانباً

من جوانب الموضوعات التي يمكن للأديب المسلم أن يطرحها، فليس ذلك هو ما

نريده فقط للأدب الإسلامي.

إن الأدب الإسلامي يجب أن ينغرس في هموم الواقع الذي يحياه المسلمون

على المستوى الفردي والجماعي والعالمي، ويمكن أن يكون موضوعه أي موضوع

في أي جانب من جوانب الحياة البشرية، وكذلك الكون كله بسمائه وأرضه وآفاقه،

وبعالميه: الغيب والشهادة.. كل ذلك مما يجب على الأدب الإسلامي أن يتناوله

ويضرب فيه بسهم.

إنه كما يكون تصويراً للخير والفضيلة وتحبيبها إلى النفوس، فكذلك يكون

تصويراً للرذيلة والتنفير منها وإظهارها في صورتها القبيحة التي ترفضها الفطر

السوية وتأباها النفوس المستقيمة.

إن إسلامية الأدب لا تعني محاصرة الأديب فيما يكتب، وتقييد ما يختاره من

موضوعات، ولكن إسلامية الأدب تعني هيمنة روح الإسلام على العمل الأدبي في

جملته وتفصيلاته، بحيث يترك في النهاية الأثر الإسلامي المطلوب في نفس

القارئ، ولقد تُطالعنا كثير من الصحف والمجلات الإسلامية بقصائد عن الإسلام

تحت مسمّى الشعر الإسلامي، تتناول حادث هجرته، أو حادث الإسراء والمعراج، أو ذكرى بدر.. أو غيرها من هذه الموضوعات، ويعالجها كتابها معالجةً تاريخيةً

بحتة، تشعر وأنت تقرؤها أن كاتبها لا يعيش في هذا العصر الذي نحياه بقضاياه

وتطوراته ومتغيراته وأحداثه ومشاكله التي يهمنا كمسلمين من جوانبها الشيء ... الكثير. ...

لماذا لا يكون الحديث عن الإسراء مدخلاً إلى الحديث عن القدس والمشكلة

الفلسطينية كإحدى مشاكل المسلمين وقضاياهم الراهنة مثلاً؟

إن المرجوّ ممن يعالج مثل هذه الموضوعات الإسلامية من الأدباء أن ينتقل

بها من مفاهيمها الإسلامية المجردة ليسلط الضوء على الواقع الإسلامي المتدهور

المتخلف الذي يَرِين على العالم الإسلامي اليوم، عرضاً ومعالجة.

إنه لا يذكرنا بهذه الأحداث في صورة شعرية، وصور أدبية فقط، ولكنه يجب

أن ينقلنا إلى معايشة واقعنا اليوم من خلالها في الصغيرة والكبيرة من أمور حياتنا،

إن الأدب الإسلامي مطالب أن ينقل لنا الروح الإسلامية في كل ما يطرحه من

موضوعات، وليخترْ بعد ذلك من الموضوعات ما يشاء، وليكن علاج هذه القضايا

المطروحة من خلال المنظور الإسلامي والتصور الإسلامي الصحيح.

فإذا كانت روح العمل الإسلامي الأدبي روحاً إسلامية يمكن استشعارها من

خلال الاقتراب من النص الأدبي والإحساس بها في كل تفاصيله وجزئياته: فإن

الكون كله بمجاله الواسع، والحياة الاجتماعية بكل تفصيلاتها وبما فيها من خيرٍ

وشرٍّ.. كل ذلك يمكن أن يكون موضوعاً للأدب الإسلامي.

ولندلل على ذلك [١] :

في وصف الجبل لابن خفاجة الأندلسي روح إسلامية تطالعك في موضوع

وصفيّ بحتّ، ولكنه ينتقل بهذا الغرض إلى رحاب التصور الإسلامي الفسيح،

ويتخذ من ذلك فرصةً عظيمة للتأمل والتفكر في الكون الفسيح والحياة والموت

والزمن وتجاربه المختلفة.

يقول ابن خفاجة الأندلسيّ في هذه القصيدة:

أصخت إليهِ وَهْو أخرسُ صامتٌ ... فحدّثني ليل السّرى بالعجائبِ

وقال ألا كم كنت ملجأ قاتلٍ ... وموطنَ أواهٍ تبتّلَ تائبِ

وكم مرّ بي من مُدْلجٍ ومؤوّبٍ ... وقال بظلي من مطىٍّ وراكبِ

ولاطمَ من نكبِ الرياح معاطفي ... وزاهم من خضر البحارِ غواربي

فما كان إلا أن طوتهم يد الردى ... وطارت بهم ريح النوى والنوائبِ

وفي سينية شوقي نموذج رائعٌ للتأمل في التاريخ ودورته والمجد الإسلامي

الذي ظل قروناً في الأندلس، وفيها يقول شوقي وهو يعارض سينية البحتري

الشهيرة:

وعظ البحتريّ إيوان كسرى ... وشفتني القصور من عبد شمس

ويقول في مطلعها:

اختلاف النهارِ والليل يُنسي ... اذكرا لي الصبا وأيام أنسي

يا ابنة اليمِّ ما أبوكِ بخيلٌ ... ما له مولعاً بمنعٍ وحَبْسِ ...

أحرامٌ على بلابله الدوحُ ... ... حلالٌ للطير من كل جنس

والقصيدة رغم أن فيها حديثاً عن منفى شوقي إلى الأندلس، إلا أن التأمل في

تاريخ الأندلس وقصورها وحضارتها، وما أبقته يد المسلمين فيها من روائع

حضارية يعطيها سمةً إسلامية واضحة وتشعر بالروح الإسلامية تتغلغل في كل بيتٍ

من أبياتها فتحسها في الألفاظ والصور التعبيرية والمعاني التي يطرحها، مما

يشعرك أنك أمام نموذج رائع للأدب الإسلامي.

وشعر أبي فراس الحمداني، حين أُسر في أيدي الروم نموذج جيد للروح

الإسلامية والمشاعر المرهفة لأسير مسلم في يد أعدائه، ومن ذلك قوله:

أُسِرْتُ وما صَحْبي بعزلٍ لدى الوغى ... ولا فرسي مُهرٌ ولا رَبُّهُ غَمْرُ

ولكن إذا جُمَّ القضاءُ على امرئٍ ... فليس له بَرُّ يقيهِ ولا بحرُ

وقال أصيحابي: الفرارُ أو الرَّدى ... فقلتُ: هما أمران أحلاهما مُرُّ

ولكنني أمضي لما لا يعيبني ... وحسبك من أمرين خيرهما الأسْرُ

يقولون لي بعتَ السلامة بالردى ... فقلت: أما والله ما نالني خسْرُ

وهل بتجافى عنِّي الموتُ ساعةً ... إذا ما تجافي عَنِّيَ الأسْرُ والضرّ

وهكذا الأديب المسلم شاعراً كان أو روائيّاً أو مسرحيّاً: تطل روح الإسلام

من كل موضوع من الموضوعات التي يتناولها وكل قضية من القضايا التي يطرحها.

وفي المسرح الإسلامي: كان (علي أحمد باكثير) نموذجاً رائعاً في مسرحياته

التي تناول فيها الموضوعات غير الإسلامية، نراه لم يتنازل عن تصوره الإسلامي

وروحه الإسلامية في كل ما كتب، يقول الدكتور نجيب الكيلاني:

(وإذا ما نظرنا إلى مسرح (باكثير) وجدنا منه: التاريخي، والأسطوري،

والسياسي، والاجتماعي، وهذا لا يخل بوجهة النظر القائلة بأنه رائد المسرح

الإسلامي؛ فالمسرحيات الأسطورية مثل (مأساة أوديب) نراه يغير فيها الأحداث

وينفي الصراع مع الآلهة، ويضع الصراع بين أوديب والكاهن، وينظر إلى القدر

والجبر والاختيار نظرةً خاصة يستوحيها من المنهج الإسلامي، وهو أمرٌ أكده النقاد

الذين كتبوا عن مسرح باكثير وأخضعوه للتحليل والتفسير، من هنا: فإن (باكثير)

ظل متمثلاً لعقيدته يعيش بها ولها، وينثرها في مسرحياته القصيرة والطويلة،

ويثبتها في قصصه وشعره، وقد حدا هذا بأحد النقاد أن يعلن أن (باكثير) هو

الكاتب الوحيد الذي التزم بخطٍّ معين طوال حياته الأدبية، لا يحيد عنه ولا يفرط

فيه) [٢] .

مجمل القول: إن الأدب الإسلامي وهو بإزاء موضوعاته المتنوعة وقضاياه

المتعددة لا يغيب عن مبدعه أنه يحمل هم الإسلام وروحه في كل أعماله، لا على

سبيل الإلزام الخارجي، بل إن ذلك يكون طبيعيّاً غير مفتعلٍ عندما تتشكل الرؤيا

الفكرية والتصويرية للكون والحياة والإنسان على أساس التصور الإسلامي، وينشأ

جيلٌ من أبناء الإسلام المبدعين في كل مجالات الإبداع الأدبي، يكونون قد تربوا

على مائدة الفكر الإسلامي الصحيح، والروح الإسلامية التي تنبثق انبثاقاً من

تسرّب تصورات القرآن والسنة، وتمتزج بالواقع وتلتحم به لتُخرج مذاقاتٍ مختلفاً

ألوانها، ولكنها جميعاً تحيا في إطار التصور الإسلامي الصحيح.

إن كل هذا لا يتحقق إلا مع التربية الوجدانية والأدبية التي يرسمها الإسلام،

فتكون أداةً لتشكيل الوجدان المسلم، وهذا ما قد نفرد له حديثاً آخر في فرصة قادمة

إن شاء الله.


(١) أبيات الشعراء الثلاثة موجودة في دواوينهم، وقد اعتمدنا في استرجاعها على الذاكرة.
(٢) انظر: حول المسرح الإسلامي، لنجيب الكيلاني، ص ٧٤، ٧٥.