للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

بعد الدستور.. الجزائر إلى أين؟ !

بقلم: عبد العزيز كامل

التجربة الجزائرية تجربة متميزة، لا تهم الجزائريين وحدهم.. ولكن ينبغي

أن يتوجه إليها الاهتمام العام؛ لما فيها من حقائق عميقة، فلا تزال تلك التجربة

أنموذجاً صارخاً وواضحاً في دلالاته وإيحاءاته ودروسه وعبره، فلا أبالغ إن قلت:

إن هذا الأنموذج يختصر تجارب أجيال في العمل الإسلامي، رغم القصر الظاهر

في عمر هذه التجربة، التي كانت ولا تزال تقذف بالرسائل في كل اتجاه فيه

عاملون للإسلام: أن افهموا كذا ... وتنبهوا إلى كذا ... واحذروا من كذا.. فما

حدث هناك قابل لأن يتكرر في أنحاء عديدة من عالمنا الإسلامي، إذ تتكرر الوقائع

وتتشابه الظروف.

لا أبالغ أيضاً إن قلت: إن كل أشكال العمل الإسلامي وأنواعه المعهودة

والموجودة في عصرنا قد أكملت تجاربها في ذلك العمر القصير نسبيّاً للحركة

الإسلامية هناك، وفي الوقت ذاته: فقد أسفرت كل الاتجاهات المعادية للدين هناك

عن أقصى ما يمكن أن تفعله من وسائل المواجهة والكيد والصيد في الماء العكر.

ليست قضية الشعب الجزائري الآن قضية شعب قد تسلط عليه (الإرهاب) كما

يصور الإعلام الغربي وتَابِعُهُ العربي، بل إنها قضية أمة قد سُلط بعضها على

بعض عبر وسطاء لا يقل وصفهم عن (شياطين الإنس) .

لهذا فلا بد من وقفات مع المستجدات، وتأملات في الرسالات التي لا تزال

تنبعث من الجزائر بدروس عميقة:

أولاً: وقفة مع (اللعبة الديمقراطية والألعوبة الدستورية) :

الديمقراطية تعني عند أصحابها باختصار: حكم الشعب بالشعب للشعب، وإذا

كان مخترعو الديمقراطية في الغرب يعبرون عنها بـ (اللعبة) ، فإن الشعار

المذكور للديمقراطية، قد مكن كثيراً من الحكام في عالمنا الإسلامي أن يلعبوا

بالشعب لعباً ما بعده لعب؛ نظراً لأن ما أُخذ من ديمقراطية الغرب هو فقط: الاسم، أو الشكل، أو الشعار المفرغ من المضمون الجاد للديمقراطية الغربية، رغم

تحفظاتنا وعدم تسليمنا بأنها الأنموذج الأمثل للحكم.

إن الثوب الديمقراطي الذي يتسع لكل لابس ما عدا الإسلاميين، يحلو

لأصحابه دوماً أن يطرزوه بمطرزات دستورية، تفصّل حسب مقاس كل نظام،

وتحاك على هوى كل عهد.

وفي الجزائر كما في كثير غيرها شاء كل حاكم أن يكون له دستوره الخاص،

فالرئيس (بن بيلا) كان له دستوره، ثم كان لـ (بومدين) دستوره، ثم كان لـ

(الشاذلي بن جديد) دستوره، وكان لكل واحد منهم هدفه في تعديل الدستور، وها

هو العهد الجديد يأتي بدستور جديد لأهداف جديدة، على رأسها: إبعاد الإسلاميين،

أو بالأحرى إبعاد الإسلام من بسط نظامه على بلد الجهاد والفداء والبطولة.

إنه وبعد مضي خمس سنوات على إيقاف السلطة العسكرية لعملية الانتخابات

التشريعية للحيلولة دون حصول الإسلاميين على الأغلبية في البرلمان، رأت تلك

السلطة في صورتها الجديدة: أنه قد آن الأوان لإغلاق ملف (جبهة الإنقاذ) ، وذلك

بإلغاء دستور ١٩٨٩م الذي أنهى حكم الحزب الواحد، وسمح بقيام جبهة الإنقاذ،

وبالتالي: فقد نُظر إليه على أنه مصدر الأزمة؛ لاحتوائه على (ثغرات) لا تمنع

قيام أحزاب أو جمعيات على أساس ديني.

لقد عودتنا السلطات في بلاد العالم الثالث على أن تلجأ إلى (لعبة الدستور)

لإعطاء خياراتها شرعية إضافية، أو تلجأ إليه تجنباً لتحمل مسؤولية قرارات

(تاريخية) ، أو تلجأ إليه للالتفاف على المؤسسات الدستورية والأحزاب السياسية

والضغوط القانونية والبرلمانية ... إن كان لها وجود.

إن اللعب بالدستور على طريقة الاستفتاءات التلفزيونية، وهو الأمر الذي يعد

جزءاً من اللعبة الديمقراطية في عالمنا، يعد سوءة من سوءات ذلك النظام الوضعي

البشري القاصر، الذي لو صلح لقوم فلا يصلح لآخرين، إذ إنه على الأقل في

البلاد النامية يختزل قضايا معقدة ومركبة ومصيرية في صيغة سؤال يكون الجواب

عليه بـ (نعم) أو (لا) ، دون السؤال عن (كيف) و (لماذا) ! ! .

وتكون تلك الإجابات ربما في غالبيتها من أقوام أو أرقام لا تعرف المعنى

المراد بالدستور أو الهدف المقصود من تعديله أو تغييره أو تفسيره! .

وما دام الأمر لعباً في لعب، فقد أكد مشروع تعديل الدستور: أنه لا يمس

الجوهر ولا (الثوابت) ، وإنما يركز على المتغيرات! ومعلوم أن أكبر المتغيرات

في الواقع الجزائري الراهن هو ما يتعلق بالنشاط السياسي الإسلامي، ولهذا فقد

عُدِّل الدستور كله بدءاً من الديباجة وانتهاءً بالأحكام الأخرى شكلاً، باستثناء مادة

واحدة كان التغيير فيها جوهريّاً.

المادة التي عُدِّل من أجلها دستور (١٩٨٩م) تنص على: أن (إنشاء الجميعات

ذات الطابع السياسي حق معترف به) ، وعلى الرغم من أنها لم تنص صراحة على

الإذن بالجمعيات الدينية مثل جبهة الإنقاذ إلا إنها لم تمنع أيضاً من ذلك صراحة،

وهذا ما مكن الإنقاذيين من تأسيس الجبهة.

وقد تحولت المادة بعد التعديل إلى النص التالي، من المادة (٤٢) : (حق

إنشاء الأحزاب السياسية معترف به) ، ثم أضافت: (ولا يجوز تأسيس الأحزاب

السياسية على أساس ديني أو لغوي أو عرقي ... ) إلخ.

وبالطبع، فهذه المادة قد قَنّنَتْ على أعلى مستوًى إعدام شرعية الجبهة

الإسلامية، وأيضاً: أي حزب إسلامي قائم أو سيقوم، إلا إذا أثبت أنه (لا ديني)

أو قرر ألا يستمد شرعيته من الدستور.

لقد تحولت الديمقراطية في الجزائر من لعبة في يد السياسيين إلى لعنة في يد

العسكريين، يفرضون بها من خلال الدستور العلمانية فرضاً على شعب كامل من

المسلمين.

ثانياً: أي سلطة للشعب:

لقد دفع الشعب الجزائري ثمناً باهظاً لكي تصل رسالة العلمانيين للناس: لا

سلطة للشعب إذا اختار نظام الإسلام، فقد مُنع شعب الجزائر من اختيار ممثليه،

مع أن نجاح الحزب الذي اختاره كان في إطار دستوري، أما بعد أن قال

الجزائريون كلمتهم، فقد سُلبوا ثمرة تلك الكلمة الحرة، واعتُبر الشعب قاصراً، لم

يبلغ سن الرشد، فكان لا بد من فرض (وصاية) مسلحة عليه، حتى يعود إلى

الرشد القديم، أيام كان يصفق لكل ناعق! .

من العجيب: أن السلطة التي قهرت إرادة الشعب في اختياره الإسلام،

واعتبرته لذلك قاصراً؛ تحتكم الآن إلى هذا الشعب، ولا تستحي من النص في

الدستور مرة ثانية على أن (الشعب مصدر كل سلطة) وأن (السيادة الوطنية ملك

للشعب وحده) ! ! فما أتعس الشعوب في بلادنا، حيث تُتجاهل حيناً، وتُستغل حيناً، وتُنتهك حرمة دمائها وأموالها أحياناً، ومع هذا يتم اللجوء إليها دائماً ليكون قهر

الشعوب وفق إرادة شعبية، واستفتاء شعبي!

ثالثاً: الدين والسياسة:

النص على أن دين الدولة (الرسمي) هو الإسلام، هو نص متكرر في معظم

الدساتير الوضعية اللادينية، التي وضعت أصلاً مناقضة للدين ومناهضة لسلطانه

القويم، والسلطة الجزائرية رغم كل ما حدث ويحدث تنص في الدستور الجديد على

أن دين الدولة هو الإسلام، ولا ندري ... ما الإسلام الذي تريد؟ . أهو إسلام

الوجه لله، أم إسلامه لأعداء الله في باريس وواشنطن ولندن؟ !

ومن الطريف: أن الأحزاب الأخرى المعارضة والمتطرفة في علمانيتها،

تعارض هذا النص، وتتهم الدولة بأنها ستفسح المجال من جديد لقدوم (الأصولية) ! ! وهي تجهل أو تتجاهل أن هذا النص ليس أكثر من (وصولية) تستغل الدين

أبشع استغلال في الأغراض السياسية، فطالما استغل اللادينيون الدين في السياسة،

على الرغم من أنهم أعلى الناس صوتاً في التحذير من استغلال الدين في السياسة،

ولكن يبدو أن العلمانية فقط من حقها استغلال كل شيء: الشعب، والدستور،

والجيش.. والدين نفسه!

رابعاً: وحدة الشعب تحت ظل الرايات العلمانية:

العلمانيون دمروا وحدة العالم الإسلامي بالقوميات، ثم فجروا وحدة العرب

بالوطنيات، وها هم حتى على المستوى الوطني يمزقون وحدة الشعوب بالتحزبات

والتناقضات.

ووحدة الشعوب حق مقدس عند العلمانيين، إذا ما انتظمت تلك الشعوب خلف

قيادتهم وانساقت خلف طروحاتهم، أما إذا لاحت في الأفق بوادر خروج شرائح من

تلك الشعوب عن تلك البرامج التسلطية، فلا مناص أمام العلمانيين من ضرب

قطاعات تلك الشعوب بعضها ببعض وإشعال نيران الفتنة في صفوفها.

إن التقليد الذي تعودت عليه الحركات القومية في مطلع مدها (الثوري) والقائل

بأن الشعوب تدار وتساق من فوق بغية التخلص من المستعمر الخارجي، ما تزال

تهيمن على تصرفات وسلوكيات النخب السياسية، مع فارق وحيد هو: أنهم حولوا

المعركة إلى اتجاه آخر ضد من يرون فيه أنه (مستعمر داخلي) ، فتحول الصراع

من تحرير (الوطن) إلى تحرير (المواطن) ، ولن تعدم أي سلطة الحيلة في أن

تحول زخم التحدي ضد الطامع الخارجي، إلى تحدٍّ وتجمع ضد الطامح الداخلي.

والشواهد حولنا تشير إلى استنفار أكثر الشعوب إلى معارك داخلية بعضها

ضد بعض ... فلا بد للثوريين من ثورة أيّاً كانت، ولو كانت ثورة ضد الشعب.

خامساً: مَنْ هم الإرهابيون حقاً؟ !

أصبح من المألوف أن نسمع الآن مصطلحات كثيرة تدل على استمرار ثوران

الثوار داخليّاً بعد أن بطل مفعول ثورانهم الخارجي، فالثورة الآن، ضد (الأصولية) ، ضد (الإرهاب) ، ضد (التطرف) .. حتى سمعنا ممن ينسب نفسه للعلم والدين،

من ينادى بإعلان (الجهاد) ضد التطرف الإسلامي بعد إعلان السلام مع التطرف

اليهودي!

لا ننكر أن هناك عنفاً غير مقبول ولا مشروع، تزهق تحت وطأته أرواح

الأبرياء، وتنتهك وتسفك بسببه الأعراض والدماء ... ولكن نسأل: من الذي فجر

ينبوع الصراع في الجزائر وفي غيرها؟ ! أهم الذين ذهبوا مسالمين يحملون

مشاريع وبرامج سلمية عبر قنوات (شرعية) للتغيير من خلال كسب التأييد

المشروع من الشعب للطريقة التي يختارها في الحكم؟ ! ونسأل: من الذي أنزل

الجزائريين العسكريين في الشوارع ضد الجزائريين المدنيين لتصادر بالقوة نتائج

انتخابات حرة؟ ، ونسأل: من الذي رفع صوت المدفع والبندقية فوق صوت

الناخب في المعركة الانتخابية؟ ، ونسأل: من الذين فتحوا أبواب الفتنة بإغلاق

باب الرأي أمام شعب له إرادة نبيلة يحلم بتحقيقها؟

كل منصف يعترف بأن ما يحدث في الجزائر الآن أصبح (فتنة) لا يعرف

القاتل فيها لِمَ قَتَل، ولا يعرف المقتول فيها لِمَ قُتل ... !

فالعسكريون ورجال الشرطة يتخفون في ملابس مدنية ليقتلوا مدنيين في

ملابس عسكرية! ، والسلطة تضرب من خرج على سلطتها وترى ذلك واجباً!

والأمة تخرج على من خرج على دينها وترى ذلك جائزاً! !

ومن الظلم والجور أن يستغل الطرف الذي بيده دولاب أجهزة الإعلام الهائلة

التأثير، في قصر الاتهام على طرف واحدٍ فقط بأنه سبب الفتنة والفوضى والقتل

والدمار، فالإعلام يعلن عن سابق إصرار وترصد: أن ما يحدث في الجزائر هو

من صنع الجماعات الإسلامية! ! .

فإذا كان القتل وإزهاق الأرواح غريزة متأصلة لدى الإسلاميين في الجزائر أو

غيرها ... فما الذي منعهم قبل ذلك من القتل ومن سفك الدماء ... ثم، لماذا يصادَر

حق الإنسان في الدفاع عن نفسه أمام عداء مستحكم يستهدف روحه قبل عرضه

وماله..

إن مسألة الثأر والثأر المضاد هي إحدى التفسيرات التي تفرض نفسها لتفسير

ما يحدث في الجزائر وما حدث قبل ذلك في مصر وغيرها ... لكن يظل السؤال:

على من يقع إثم القتل الأول؟ ! ، إنه على القاتل الأول.

وحالة الطوارئ المفروضة على (٢٨) مليون إنسان منذ عام ١٩٩٢م.. الكل

يعرف من فرضها ولماذا فرضها، إنها ليست بسبب غزو خارجي، ولا عدوان

أجنبي، إنها ليست أكثر من حالة شعور بالكارثة والنازلة الفاجعة لدى السلطة أن

استيقظت أمة واختارت الإسلام على العلمانية ... وما أكثر تلك النوازل والطوارئ

اليوم في بلدان المسلمين.

سادساً: حقوق الإنسان وخرس الشيطان:

في خضم الصراع والفتنة تكاد الحقيقة تضيع، مَنْ الجاني، ومَنْ المجني

عليه؟ ، ولكن يأبى الله إلا أن تظهر أجزاء من الحقيقة في الدنيا، حيث لن تظهر

الحقيقة كاملة إلا يوم يقوم الأشهاد.

الحكومة الجزائرية نفسها اعترفت عن طريق وزارة الداخلية في نهاية عام

١٩٩٤م أنه تم قتل عشرين ألفاً من (الإرهابيين) خلال عامين سابقين، بينما ذكر

تقرير صدر في مطلع عام ١٩٩٦م عن (المرصد الوطني لحقوق الإنسان) هناك:

أن (٥٠٠٢٩) خمسين ألفاً وتسعة وعشرين وصفوا بأنهم إرهابيون قد لقوا مصرعهم

على أيدي قوات الأمن، بينما تقول تلك المصادر: إنه تم قتل نحو ألف وأربعمئة

من المدنيين على أيدي جماعات المعارضة المسلحة.

ومما يدل على أن السلطة تستغل مجرد القوة في تنفيذ أعمال القتل دون رقيب

أو حسيب من البشر: ما تواتر ذكره عن مقتل نحو (٩٦) سجيناً من العزل في

سجن (سركابي) إثر ما ادّعي عن وجود تمرد في السجن! .

ويشاء الله أن يفضح ممارسات السلطة الحاكمة هناك على لسان (منظمة العفو

الدولية) التي أصدرت تقريراً عن حقوق الإنسان، حيث جاء فيه: (أصبحت

عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء، وعمليات القتل العمد، وحوادث الإخفاء

والتعذيب، وعمليات الاختطاف، والتهديد بالقتل.. وغير ذلك من الانتهاكات:

جزءاً لا يتجزأ من الواقع اليومي في الجزائر ... ) ، وتحت هذه الكلام الخالي من

التفاصيل تتناثر المعلومات دون إحصاء دقيق في التقرير الذي صدر في نهاية

نوفمبر ١٩٩٦م، ويقع في (٤٠) صفحة وعنوانه: (الخوف والصمت الأزمة

المستترة لحقوق الإنسان في الجزائر) ، وقد أبرز التقرير عمليات التمويه والإخفاء

المقصودة لما يحدث بالتفصيل في الجزائر، فيقول: (.. أما الجرائم التي ارتكبتها

قوات الأمن من قبيل القتل خارج نطاق القضاء، والتعذيب، والإخفاء.. وغير

ذلك من الانتهاكات التي تنفذها قوات الجيش والأمن في القرى والأماكن النائية: فقد

حجبت خلف جدار من الصمت والتلعثم..) ! !

ويقول التقرير: (فضلاً عن ذلك: فقد تزايدت القيود المفروضة على وسائل

الإعلام الأجنبية حيث مُنِعَ الصحافيون الأجانب من مباشرة عملهم أو أُبعدوا ...

بينما حيل بين آخرين وبين دخول البلاد) ، وقال التقرير أيضاً: (لقد دأبت

السلطات الجزائرية مراراً على نفي الأنباء التي ذكرتها منظمة العفو الدولية وغيرها

من المنظمات عن وقوع انتهاكات لحقوق الإنسان) .

ولكن يبقى السؤال: ماذا فعل العالم تجاه هذا الانتهاك الصارخ لحقوق ... الإنسان؟ ! إن الدولة الجزائرية لم تُعَدْ من الدول الراعية للإرهاب رغم كل هذا ... والسبب واضح، إنها لم تصدر الإرهاب، ولكنها تستورده، أو عندها منه اكتفاء ذاتي!

سابعاً: الصراع غير المتكافئ والعدالة الضائعة:

عندما تُجيش الجيوش ضد جموع من العزل، فلا بد لهؤلاء العزل يوماً من

البحث عن سلاح، دفاعاً عن الحياة فضلاً عن الدين، وقبل أن يكون لجبهة الإنقاذ

جيش إنقاذ، وقبل أن تتشكل الميلشيات العسكرية من الجماعات الأخرى، نزل

الجيش إلى الشوارع للإرهاب والتهديد والوعيد لمن أعطوا أصواتهم للإسلام، فلم

يكن هناك يومها جيش للإنقاذ، ولا جيش للجماعات الإسلامية الأخرى.

إن إقحام الجيوش في مثل تلك الصراعات الظالمة، هو إهانة من الأمة لنفسها، فهذا العسكري أو الدركي: على من يطلق النار؟ ، أليس على مسلم مثله قد يكون

قريباً أو نسيباً أو جاراً؟ ! ، ومع هذا: فما أكثر ما حُولت مهام الجيش إلى غير

أغراضها الأصيلة على يد القيادات العلمانية الطائشة، إذ من المفترض أن للجيش

في الجزائر مهمات وصلاحيات خاصة، تتمثل حسب نص المادة (٢٥) من الدستور

في (تنظيم الطاقة الدفاعية للأمة ودعمها وتطويرها) ولكن الواضح الآن: أنه قد

طرأ فهم خاص لهذه المادة، ويبدو أنه سيطرأ تطوير أكثر في المستقبل، فالدفاع

عن (السيادة) يمكن أن يفسر عمليّاً بأنواع من السيادات، مثل: (سيادة القانون) ،

و (سيادة الرئيس) ، و (سيادة الجنرال) .. إلخ.

ولا يوجد الآن من يوضع هدفاً للدفاع عن السيادة، إلا الإسلاميون الساعون

إلى التغيير، والشواهد كلها تدل عن أن الجيش قد نزل بثقله في المعركة، وكان

نزوله سبباً في تكبيرها وتوسيع أبعادها.

آلاف مؤلفة من الجزائريين تُجيّش ضد جزائريين آخرين.. لمصلحة من؟ ! .

القوات شبه العسكرية تضم (٢٤) ألف فرد، وهي تحارب ضد الإسلاميين! والحرس الجمهوري يضم (١٢) ألف فرد، وهو غير بعيد عن المعركة مع

الإسلاميين، وقوات (أمن الوطن) تتألف من (١٦) ألف فرد، وهي على استعداد

للدفاع عن (الوطن) ضد الإسلاميين، (والحرس الأهلي) (١٦) ألف فرد، وهو

مؤهل لقتال الأهل من الإسلاميين، والقوات المسلحة تتألف من (١٢١) ألف فرد،

وهي التي تتصدر وتتصدى الآن لحرب شاملة ضد الإسلاميين! ! ، ومؤخراً:

شكلت الحكومة ميلشيات خاصة تطلق عليها (جماعات الدفاع الذاتي) للأغراض

نفسها، وبعد هذا، يقول المغرضون المبغضون للإسلام: إن الإسلاميين مسؤولون

عن قتل (٥٠) ألف شخص في الجزائر! ! .

ثامناً: مَنْ الضحية يا ترى؟ !

هل تقرر أن يُعاقب الشعب على جرأته في قول كلمته لصالح الإسلام؟ ! ،

إن هناك حرصاً شديداً على أن يكون التغيير لصالح السلطة أولاً وقبل كل شيء،

ممثلةً بالطبع في رموز الجيش الحاكم الفعلي للبلاد، وقد كان من العناصر المؤثرة

على إحداث التغيير لصالح السلطة في الجزائر: جو الإرهاب الذي نجح في إبقاء

الناس قابعيين تحت كابوسه، فالإعلام يضخم الأمور، وقد يفتعل ويبتكر عرض

أساليب متنوعة من الرغبة في القتل والفتك بكل مواطن على يد أولئك (المغول)

الجدد: الإسلاميين! ؛ مما جعل الأسبقية في اهتمام ذلك المواطن العادي تتركز في

البقاء حيّاً، وأصبح مع الوقت لا يهتم على أي حال يحيا وتحت أي حكم يعيش،

المهم أن يعيش وينجو من القتل الذي يستهدفه، وصار لسان حال كل إنسان يقول:

إذا لم أستطع حياة الإسلام، فلا أقل من الهروب إلى أي حياة.

لقد استُغل ذلك كله في دفع أفراد الشعب إلى صناديق الاقتراع للموافقة على

اختراع الدستور الجديد، لقد دفعتهم السلطة وهي تعلم مسبقاً بأن ذلك الحجم من

التأثير على رأي الناخب لن يمنعه من قول (نعم) للدستور، حتى ولو كان ذاهلاً

عن معنى تعديل الدستور أو الهدف من هذا التعديل، أو ما هو الفارق بين الدستور

السابق واللاحق! .

الجزائريون في دولتهم البترولية الغنية، يعانون من نقص مزمن في المساكن

وارتفاع في الأسعار، ويعانون بطالة تصل نسبتها إلى (٢٨%) ، من المحتمل أن

تزيد في ظل احتمالات إلغاء مزيد من الوظائف بسبب برامج (الخصخصة) ... ومع

كل هذا يُخوف هذا الشعب من الإسلام القادم ... فماذا أعطيتموه (أيها الاشتراكيون

العساكر) باشتراكيتكم البائدة التي أفقرت الغني ولم تغن الفقير؟ ! .

تاسعاً: البعث الوطني بعد البعث القومي:

حتى لا يقع المحظور وتستيقظ في الأمة روح البعث الإسلامي المرتقب،

فالعلمانيون يحرصون على إحياء موات أي شيء وبعثه؛ لكي ينافس روح الإسلام

المتوثبة في الصعود، المد القومي مات، وقد يأس العلمانيون من إحيائه، والآن

يحاولون إنشاء بعث وطني، فكل قطر له خصوصيته وشخصيته وتفرده ... المتميز ... وإذا كان من الممكن إحلاله محل البعث الإسلامي فهذا غاية المنى، ومنتهى الرجاء، وفي الجزائر: استغلت السلطة الإعلام في محاولة هذا البعث، حيث استعملت الأناشيد الوطنية والبرامج الحماسية والتسجيلات التاريخية الوثائقية، لتثير المشاعر وتدغدغ العواطف الجياشة لدى (المواطن) نحو (الوطن) وتعبئها بمشاعر الكراهية ضد (أعداء الوطن) .

لقد استغل الإعلاميون كل شيء في محاولة إعادة صياغة الرأي العام، فحتى

المباريات الرياضية التي (انتصرت) فيها الجزائر على دول مثل فرنسا وألمانيا،

يعاد عرضها، والأغنيات التي تغنت بأمجاد الثورة في الماضي، أعيد بثها، هذا

إلى جانب إعطاء الفرصة لكل من يستطيع أن يؤثر برأيه من الشخصيات العامة

والمختصة في شتى الميادين، كل هذا ليحل الانتماء الوطني محل الانتماء الإسلامي.

عاشراً: محصلة الأوضاع:

إن منع السماح بإنشاء أحزاب ذات اتجاه إسلامي بمقتضى الدستور الجديد لن

يلغي وجود تلك الأحزاب بداهة، ولكنه حتماً سيغير من طرق وأشكال نشاطها؛

حيث سيدفع وقد دفع بالفعل الكثير من أفرادها إلى العمل تحت الأرض، فالقهر

دائماً يولد العناد، والدستور الذي يمنع العمل العلني السلمي، لن يخضع له ولن

يؤمن به الذين يُدفعون إلى العمل السري، فما الإشكال الذي حله، وما التغيير الذي

أحله تغيير الدستور؟ ! ... إن الدستور الجديد لن يزيد النظام قوة، ولا الدولة هيبة، ولا الوضع استقراراً.. لماذا؟ .. لأن أسباب التناقض وبذور الشقاق لا تزال

تنبت الفرقة والبغضاء.

لن يغير شيئاً من حقائق الأمور القول بأن التعديل المقترح قد حصل على

تأييد أكثر من (٨٥%) من الأصوات؛ لأنه لا يمكن لنا أن نصدق ادعاء أن الشعب

الذي وقف متراصّاً خلف جبهة الإنقاذ مصرّاً على العودة إلى الإسلام، هو نفسه

الذي يقف الآن مع العسكر ضد الجبهة نفسها، ليبعدها نهائيّاً عن أي حل سياسي،

ويقصيها تماماً عن المشاركة في الانتخابات التشريعية القادمة المتوقع إجراؤها خلال

العام المقبل.

للعلمانيين أن يأمنوا خلال تلك الانتخابات القادمة من مزاحمة أهل الدين لهم،

فقد خلا لهم الجو ليبِيضوا ويُصفروا.. وللعالم (الحر) أن يصفق لمذبحة الديمقراطية

وسحلها في شوارع الجزائر ... وللأنظمة الشقيقة والصديقة أن تحذو حذو السلطة

في الجزائر؛ إذ نجحت في تجربتها الدموية ... ولكن لنا نحن الإسلاميين أن نقول: لا تزال في التجربة فصول!

والله نسأل أن يصلح الأحوال وأن يعز الإسلام وأهله، وأن يذل أعداء الإسلام

وأعوانهم.. وما ذلك على الله بعزيز.