للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الربا.. صوره - أقسام الناس فيه

... ... ... ... ... ... ... بقلم فضيلة الشيخ / محمد بن صالح العثيمين

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور

أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له،

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى

الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم

تسليماً، وبعد..

فإن الله تعالى إنما خلق الجن والإنس وأودع فيهم العقول والإدراك وبعث فيهم

الرسل وبث فيهم النذر ليقوموا بعبادته والتذلل له بالطاعة مقدمين أمره وأمر رسله

على ما تهواه أنفسهم، فإن ذلك هو حقيقة العبادة ومقتضى الإيمان، كما قال الله

تعالى: [ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ

الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً] [الأحزاب: ٣٦] .

فلا خيار للمؤمن -إن كان مؤمناً حقاً - في أمر قضاه الله ورسوله، وليس

أمامه إلا الرضا به، والتسليم التام سواء وافق هواه أم خالفه، وإلا فليس بمؤمن،

كما قالي الله تعالى: [فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا

يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: ٦٥] .

وقد أخبر الله تعالى أن العدول عن حكمه وعن اتباع رسوله أنه أضل الضلال

فقال تعالى: [فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ

هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] [القصص: ٥٠] .

إذا تبين هذا فاعلم أن أوامر الله تعالى تنقسم إلى قسمين: قسم فيما يختص

بمعاملته سبحانه؛ كالطهارة والصلاة والصيام والحج، وهذه لا يستريب أحد في

التعبد لله تعالى بها. وقسم فيما يختص بمعاملة الخلق وهي المعاملات الجارية بينهم

من بيع وشراء وإجارة ورهن وهبة ووصية ووقف وغيرها، وكما أن تنفيذ أوامر

الله تعالى والتزام شريعته في القسم الثاني أمر واجب، إذ الكل من حكم الله تعالى

على عباده، فعلى المؤمن تنفيذ حكم الله والتزام شريعته في هذا وذاك.

ولقد شرع الله تعالى لعباده في معاملاتهم نظماً كاملة مبنية على العدل لا

تساويها أي نظم أخرى، بل كلما ابتعدت النظم أو ابتعد الناس عن العمل بنظم

الشريعة كان ذلك أكثر الظلم، وأوغل في الشر والفساد والفوضى.

وإن من الظلم في المعاملات واجتناب العدل والاستقامة فيها أن تكون مشتملة

على الربا الذي حذر الله تعالى منه في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه

وسلم - وأجمع المسلمون على تحريمه.

قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم

مُّؤْمِنِينَ * فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ

لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ * وإن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وأَن تصدقُوا خَيْرٌ

لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * واتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ

وهُمْ لا يُظْلَمُونَ] [البقرة: ٢٧٨-٢٨١] .

وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً واتَّقُوا اللَّهَ

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * واتَّقُوا النَّارَ الَتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وأَطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ

تُرْحَمُونَ] [آل عمران: ١٣٠-١٣٢] .

وقال تعالى: [الَذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَذِي يَتَخَبَّطُهُ

الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبَا

فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ ومَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ

أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ويُرْبِي الصَّدَقَاتِ واللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ

كُفَّارٍ أَثِيمٍ] [البقرة: ٢٧٥-٢٧٦] ، يعنى لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما

يقوم المُخَبَّل المجنون الذي يصرعه الشيطان. هكذا قال ابن عباس رضى الله

عنهما وغيره. وفى صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء. واللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى.

وفى صحيح البخاري من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي -

صلى الله عليه وسلم - رأى في منامه نهراً من دم، فيه رجل قائم، وعلى شط

النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج، رماه

الرجل الذي على شط النهر بحجر في فمه فرده حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج

رماه الذي على شط النهر بحجر فيرجع كما كان، فسأل النبي - صلى الله عليه

وسلم - عن هذا الرجل الذي في نهر الدم فقيل آكل الربا.

ولقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته أين يكون الربا، وكيف

يكون، بياناً شافياً واضحاً، فقال - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب،

والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر - بالتمر، الملح بالملح.

مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطى فيه سواء.

رواه مسلم. وفي لفظ: فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد.

فهذه الأصناف الستة هي محل الربا بالنص [١] : الذهب والفضة والبر

والشعير والتمر والملح وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - كيفية الربا فيها

فأوضح أن التبايع فيها يكون على وجهين:

الوجه الأول:

أن يباع منها بجنسه مثل أن يباع ذهب بذهب، فيشترط فيه شرطان اثنان:

أحدهما: أن يتساويا في الوزن.

والثاني: أن يكون يداً بيد بحيث يتقابض الطرفان قبل أن يتفرقا. فلو باع

ذهباً بذهب يزيد عليه في الوزن ولو زيادة يسيرة فهو ربا حرام، والبيع باطل ولو

باع ذهباً بذهب يساويه في الوزن وتفرقا قبل القبض فهر ربا حرام، والبيع باطل،

سواء تأخر القبض من الطرفين أو من طرف واحد.

الوجه الثاني:

أن يباع واحد من هذه الأصناف بغير جنسه، مثل أن يباع ذهب بفضة

فيشترط فيه شرط واحد، وهو أن يكون يداً بيد بحيث يتقايض الطرفان قبل أن

يتفرقا، فلو باع ذهباً بفضة وتفرقا قبل القبض فهو ربا حرام، والبيع باطل، سواء

تأخر القبض من الطرفين أو من طرف واحد.

ولقد كان الذهب والفضة منذ أزمنة بعيدة محل التعامل بين الناس قيماً للأعيان

والمنافع، فأصبح التعامل بالأوراق النقدية بدلاً عنها والبدل له حكم المبدل، فإذا

بيعت ورقة من النقود بورقة أخرى فلابد من التقايض قبل التفرق، سواء كانت من

جنسها أم من غير جنسها، وسواء كانت هذه الأوراق بدلاً عن ذهب أم بدلا عن

فضة فلو صرفت ورقة نقدية سعودية من ذوات المائة بورقتين من ذوات الخمسين

فلابد من التقابض من الطرفين قبل التفرق. ولو صرف دولاراً بأوراق نقد سعودية

فلابد في التقابض من الطرفين قبل التفرق أيضاً. ولو اشترى حلي ذهب أو فضة

بأوراق نقدية فلابد من التقابض من الطرفين قبل التفرق لأنه كبيع الذهب بالفضة

الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا

كيف شئتم إذا كان يداً بيد.

ولقد انقسم الناس في المعاملات الربوية إلى ثلاثة أقسام:

قسم: هداهم الله تعالى ونور بصائرهم ووقاهم شح أنفسهم وعرفوا حقيقة

المال، بل حقيقة الدنيا أنها عارية مسلوبة، وفيء زائل، وأن كمال العقل والدين

أن يجعل الرجل المال وسيلة لا غاية، وأن يجعله خادماً لا مخدوماً فتمشوا في

اكتساب أموالهم وصرفها على ما شرعه لهم خالقهم الذي هو أعلم

بما يصلحهم وأرحم بهم من أنفسهم، فأخذوا بما أحل الله واجتنبوا ما حرم الله، وهؤلاء هم الناجون المفلحون. قال الله تعالى: [ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ

المُفْلِحُونَ] [الحشر: ٩] .

القسم الثاني: من تعاملوا بالربا على وجه صريح، إما جهلاً منهم أو تجاهلاً

أو عناداً ومكابرة، وهؤلاء مستحقون لما تقتضيه حالهم من الوعيد على أكل الربا،

على ما جاء في نصوص الكتاب والسنة.

القسم الثالث: من تعاملوا بالربا من وجه الحيلة والمكر والخداع، وهؤلاء شر

من القسم الثاني، لأنهم وقعوا في مفسدتين: الربا، ومفسدة الخداع، ولهذا قال

بعض السلف في أهل الحيل: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أنهم أتوا

الأمر على وجهه لكان أهون.

ونحن نذكر من فعل هذين القسمين ما كان شائعا بين الناس. فالشائع من فعل

القسم الأول ربا البنوك وهو على وجهين:

أحدهما: أن يأخذ البنك دراهم من شخص بربح نسبة مئوية يدفعها البنك كل

شهر أو كل سنة، أو عند انتهاء مدة الأجل إن كان مؤجلاً.

الثاني: أن يعطي البنك دراهم لشخص بربح نسبة مئوية يأخذها البنك كل

شهر أو كل سنة أو عند انتهاء مدة الأجل، إن كان مؤجلاً.

فأما إذا أخذ البنك الدراهم من شخص بدون ربح فله وجهان:

أحدهما: أن يأخذ هذه الدراهم على وجه الوديعة بأن يحفظ الدراهم بأعيانها

لصاحبها، ولا يدخلها في صندوق البنك، ولا يتصرف فيها، بل يبقيها في مكان

إيداعها حتى يأتي صاحبها فيأخذها، فهذا جائز، وهذا الوجه ليس للبنك فيه فائدة

اللهم إلا أن يكون بين القائمين عليه وبين صاحب صحبة. فيحسنوا إليه بحفظ

دراهمه في حرز البنك. ولذلك لو طلب البنك أجرة على حفظها لكل شهر أجرة

معلومة لكان ذلك جائزاً.

الوجه الثاني: أن يأخذ البنك هذه الدراهم على وجه القرض، بحيث يدخلها

في صندوق البنك، ويتصرف فيها كما يتصرف في ماله، فهذه قرض وليست

بإيداع وإن سماها الناس إيداعاً، فالعبرة بالحقائق لا بالألفاظ، وإذا كانت قرضاً

للبنك فهي إرفاق به ومساعدة وتنمية لربحه، فإذا كان البنك لا يتعامل إلا بالربا فلا

ريب أن إعطاءه الدراهم على هذا الوجه حرام لأنه عونٌ ظاهر على الربا، وإذا

كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن كاتب الربا وشاهديه فكيف بمن يضم ماله

إلى مال المرابي فيزداد ربحه ومراباته.

أما إذا كان البنك له موارد أخرى غير ربوية مثل أن يكون له مساهمات في

شركات طيبة المكسب، وله مبايعات وتصرفات أخرى حلال فإن إعطاءه الدراهم

على هذا الوجه ليس بحرام، لأنه لا يتحقق صرفها في الوجه الربوي من تصرفات

البنك، لكن البعد عن ذلك أولى لأنه موضع شبهة، إلا أن يحتاج الإنسان إلى ذلك، فإن الحاجة تبيح المشتبه لقوة المقتضى وضعف المانع. هذا هو الشائع من فعل

القسم الأول من المتعاملين بالربا.

أما الشائع من فعل القسم الثاني من المتعاملين بالربا فهو أن يأتي الرجل

لشخص فيقول: إني أريد من الدراهم كذا وكذا فهل لك أن تدينني العشر أحد عشر

أو ثلاثة عشر أو أقل أو أكثر حسب ما يتفقان عليه، ثم يذهب الطرفان إلى صاحب

دكان عنده بضائع مرصوصة قد يكون لها عدة سنوات إما خام أو سكر أو رز أو

هيل أو غيره مما يتفق عند صاحب الدكان، أظن أن لو وجدوا أكياس سماد يقضيان

بها غرضهما لحصل الاتفاق عليها فيشتريها الدائن من صاحب الدكان شراءً صورياً

غير حقيقي، نقول إنه صوري لا حقيقي لأنه لم يقصد السلعة بعينها بل لو وجد أي

سلعة يقض بها غرضه لاشتراها ولأنه لا يقلب السلعة ولا يمحصها ولا يماكس

(يكاسر) في الثمن وربما كانت السلعة معيبة من طول الزمن أو تسلط الحشرات

عليها، ثم بعد هذا الشراء الصوري يتصدى لقبضها ذلك القبض الصوري أيضاً،

فيعدها وهو بعيد عنها، وربما أدرج يده عليها تحقيقاً للقبض كما يزعمون،

والقبض في مدلوله اللغوي أن يكون الشتيء في قبضتك، وبعد هذا القبض

الصوري يبيعها على المستدين بالربح الذي اتفقا عليه من قبل، ولا ندري هل

يتصدى هو أيضاً لقبضها القبض الصوري كما قبضها الدائن أو يبيعها على صاحب

الدكان بدون ذلك، فإذا اشتراها صاحب الدكان سلم للمدين الدراهم وخرج بها. قال

شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه (إبطال التحليل ص ١٠٩) : بلغني

أن من الباعة من أعد بزاً لتحليل الربا فإذا جاء الرجل إلى من يريد أن يأخذ منه ألفا

بألف ومائتين ذهباً إلى ذلك المحلل فاشترى المعطى منه ذلك البز ثم يعيده الآخذ إلى

صاحبه، وقد عرف الرجل بذلك بحيث إن البز الذي يحلل به الربا لا يكاد يبيعه

البيع البتات اهـ.

وقال في الفتاوى ٢٩/ ٤٣٠، جمع ابن قاسم: إذا اشترى له بضاعة وباعها

له فاشتراها منه أو باعها للثالث صاحبها الذي اشتراها المقرض منه فهذا ربا. وفي

ص ٤٣٦ - ٤٣٧ من المجلد المذكور: فهذان المتعاملان إن كان قصدهما أخذ

دراهم بدراهم إلى أجل فبأي طريق توصل إلى ذلك كان حراماً وفى ص٤٣٨ منه:

فهذه المعاملة وأمثالها من المعاملات التي يقصد بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل

هي معاملة فاسدة ربوية، قال: وعلى ولى الأمر المنع من هذه المعاملات الربوية

وعقوبة من يفعلها، وفي ص ٤٤١ منه: وكذلك إذا اتفقا على المعاملة الربوية، ثم

أتيا إلى صاحب حانوت يطلبان منه متاعاً بقدر المال فاشتراه المعطى ثم باعه على

الآخذ إلى أجل، ثم أعاده إلى صاحب الحانوت بأقل من ذلك فيكون صاحب

الحانوت واسطة بينهما بجُعل؟ فهذا أيضاً من الربا الذي لاريب فيه. وفي ص

٤٤٧ منه: وأصل هذا الباب أن الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فإن

كان قد نوى ما أحله الله فلا بأس، وإن نوى ما حرم الله وتوصل إليه بحيلة فإن له

ما نوى. وقال في أبطال التحليل ص ١٠٨: فيا سبحان الله العظيم، أيعود الربا

الذي قد عظم الله شأنه في القرآن، وأوجب محاربة مستحله، ولعن أهل الكتاب

بأخذه، ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه، وجاء فيه من الوعيد ما لم يجئ في

غيره إلى أن يستحل جميعه بأدنى سعي من غير كلفة أصلاً إلا بصورة عقد هي

عبث ولعب يضحك منها ويستهزأ بها أم يستحسن مؤمن أن ينسب نبياً من الأنبياء

فضلاً عن سيد المرسلين بل أن ينسب رب العالمين إلى أن يحرم هذه المحارم

العظيمة ثم يبيحها بضرب من العبث والهزل الذي لم يقصد ولم يكن له حقيقة وليس

فيه مقصود المتعاقدين قط؟ ! .

وقال ابن القيم وهو أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الذي لم نر

مثله في بابه: (إعلام الموقعين ٣/١٤٨) تحقيق عبد الرحمن الوكيل: وهكذا الحيل

الربوية، فإن الربا لم يكن حراماً لصورته ولفظه، وإنما كان حراماً لحقيقته التي

امتاز بها عن حقيقة البيع، فتلك الحقيقة حيث وجدت وجد التحريم في أي صورة

ركبت، وبأي لفظ عبر عنها، فليس الشأن في الأسماء وصور العقود، وإنما الشأن

في حقائقها ومقاصدها وما عقدت له. اهـ.

وهذه المعاملة الشائعة بين الناس في التحايل على الربا تتضمن محاذير منها:

أنها خداع ومكر وتحيل على محارم الله تعالى. والحيلة لا تحلل الحرام، ولا تسقط

الواجب، بل تزيد القبيح قبحاً إلى قبحه، حيث تحصل بها مفسدته مع مفسدة

الخداع والمكر، ولهذا قال بعض السلف في المتحايلين: يخادعون الله كما يخادعون

الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون. ومنها: أنها توجب التمادي في

الباطل، فإن المتحيّل يرى أن عمله صحيح فيتمادى فيه، ولا يشعر نفسه بأنه

مذنب، فلا يؤنبها على ذلك، ولا يحاول الإقلاع عنه، أما من أتى الباطل على

وجه صريح فإنه يشعر أنه وقع في هلكة فيخجل ويستحي من ربه ويحاول أن ينزع

من ذنبه ويتوب إلى الله تعالى.

ومنها: أن السلعة تباع في محلها بدون قبض صحيح ولا نقل، وهذا معصية

لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي- صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع - أي في المكان الذي

اشتريت فيه - حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. رواه أبو داود، ويشهد له حديث

عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما قال: كان الناس يتبايعون الطعام

جزافاً بأعلى السوق، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوه حتى ينقلوه. رواه البخاري.. وقد يتعلل بعض الناس فيقول: إن عد هذه الأكياس قبض لها

فنقول: القبض مدلول لفظي وهو أن يكون الشيء في قبضتك وهذا لا يتحقق

بمجرد العدّ، ثم لو قدرنا أن العد قبض، فهل حصل النقل والحيازة؛ والنبي -

صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى

رحالهم.

وقد يتعلل بعض الناس بأن هذه المعاملة من التورق، فنقول: ليست هذه من

التورق الذي اختلف في جوازه فإن التورق أن يشتري المحاج سلعة بثمن مؤجل

زائد عن ثمنها الحاضر من أجل أن يبيعها وينتفع بثمنها، فهو يشتري سلعة بعينها

مقصودة مملوكة للبائع، أما المعاملة الشائعة هذه فليست كذلك فان البائع والمشتري

يتفقان على الربح، وهى ليست في ملكه، ثم إن السلعة ليست معلومة لهما ولا

معلومة الثمن ولا مقصودة، ولذلك يأخذان أي سلعة تتفق عند صاحب الدكان بأي

ثمن كان، حتى إن بعضهم إذا لم يجد سلعة عند صاحب الدكان تكفي قيمتها للدراهم

التي يحتاجها المتدين رفع قيمتها حتى تبلغ الدراهم المطلوبة، وربما اشتراها الدائن

فباعها على المتدين ثم باعها المتدين على صاحب الدكان ثم عاد صاحب الدكان

فباعها على الدائن مرة ثانية ثم باعها الدائن على المتدين، وهكذا يكررون العقد

مرات حتى تبلغ الدراهم المطلوبة فأين هذه المعاملة من التورق الذي هو موضع

خلاف بين العلماء [٢] ، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رواية أبي داود

على أنها -أي مسألة التورق- من العينة ذكره ابن القيم في تهذيب السنن ٥/١٠٨،

وذكر في الإنصاف عن الإمام أحمد فيها ثلاث روايات: الإباحة والكراهة والتحريم، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية تحريم التورق وكان يراجع فيها كثيراً فيأبى إلا

تحريمها. وقد شاع في هذه المعاملة المتحيل بها على الربا. أن الناس يقولون فيها: (العشر أحد عشر) ، وهذا مكروه في البيع الذي ليس حيلة على الربا. وعن

الإمام أحمد -رحمه الله- أنه الربا، وقال أيضاً: كأنه دراهم بدراهم لا يصح.

وقد تدرج كثير من الناس بهذه المعاملة إلى الوقوع في الربا الصريح، ربا

الجاهلية الذي يأكلونه أضعافاً مضاعفة، فإذا حل الأجل ولم يوف المدين إما لعجزه

أو مماطلته قال له الدائن. خله يبقى بمعاشرته فيربى عليه كل سنة ذلك الربح الذي

اتفقا عليه وسمياه معاشرة، نسأل الله تعالى السلامة.

المخرج المشروع:

والموفق يستطيع التخلص من هذا الفخ الذي أوقعه فيه الشيطان والشح،

فيصرف تعامله إلى البيع والشراء على الوجه السليم، ويقضي حاجة المحتاج إما

بإقراضه، وإما بالسلم بأن يعطيه دراهم بعوض يسلمه له بعد سنة أو أكثر حسبما

يتفقان عليه، مثل أن يقول: هذه عشرة آلاف ريال اشتريت بها منك، مائة كيس

سكر تحل بعد سنة، وقيمة الكيس بدون أجل مائة وعشرة ريالات، فهنا حصل

للبائع الذي هو المستدين انتفاع بالدراهم، وحصل للمشتري الذي هو الدائن انتفاع

بربح عشرة ريالات في كل كيس، وربما يرتفع سعره عند الوفاء فيربح أكثر،

وربما ينزل فلا يحصل له إلا دراهمه أو أقل وبهذا يخرج عن الربا ويكون كالبيع

المعتاد الذي يربح فيه أحد المتعاقدين أو يخسر حسب اختلاف السعر. وهذه

المعاملة كانت شائعة بين الناس إلى عهد قريب وتسمى في لغة العامة (المكتب أو

الكتب) ينطقون الكاف بين السين والكاف ? فهاتان طريقتان لقضاء حاجة المحتاجين: القرض والمكتب. فإن لم يشأ المتعاقدان ذلك فثم طريقة ثالثة إذا كانت حاجة

المدين بشيء معين مثل أن يكون محتاجا لسيارة أو ماكينة وقيمتها كذا وكذا، فيبيعها

الدائن عليه بأكثر إلى أجل يتفقان عليه، لأن قصد المدين هنا نفس تلك العين لا

دراهم بدراهم.

[ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ] ... [الطلاق: ٢-٣] ، [ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً] [الطلاق: ٤] ، هكذا قال الله تعالى. وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ويُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] [الأنفال: ٢٩] .

وقال تعالى: [وأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى

فَلَهُ مَا سَلَفَ وأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ ومَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ... [البقرة: ٢٧٥] .

فالتوبة إلى الله تعالى إذا كانت نصوحاً تمحو ما قبلها، وإذا كانت هذه

المعاملات المحرمة فعلها العبد تقليداً لمن يحسن الظن به أو تأويلاً اشتبه عليه به

وجه الصواب ثم رجع إليه بعد علمه به فإنه لا يؤاخذ به، فإنما المؤاخذة فيمن علم

الخطأ وتمادى فيه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.


(١) وألحق جمهور العلماء بها ما يساويها في العلة والحكمة على خلاف بينهم في تحقيق العلة، وليس هذا محل بسطها.
(٢) ولذا يحكى ابن تيمية الخلاف في التورق، ولكن يقول في هذه المعاملة: هو من الربا الذي لا ريب فيه.