للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

افتتاحية العدد

الحج بين الواجب والواقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين،

وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:

فما زالت قوافل الموحدين ولله الحمد تواصل المسير إلى الديار المقدسة لأداء

فريضة الحج، اقتداءً بأبي الأنبياء وإمام الموحدين إبراهيم (عليه السلام) منذ أن

صدح بالنداء الخالد مطيعاً لأمر الله الذي سجله القرآن الكريم: [وَأَذِّن فِي النَّاسِ

بِالْحَجِّ يَاًتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاًتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ

لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ... ] [الحج: ٢٧-٢٨] ، واتباعاً لسنة

المصطفى (عليه الصلاة والسلام) القائل في حجة الوداع: (خذوا عني ... مناسككم) [١] .

فما أن تأتي أشهر الحج إلا وحادي الحب لله (تعالى) ، واتباع سنة المصطفى، يحدو كل مسلم للرحيل إلى الرحاب المقدسة استجابة لله (تعالى) .

لكن هل استطاع المسلمون الذين يتجاوزون اليوم مليار نفس أن يعيشوا هذه

الفريضة، ويشهدوا المنافع المشار إليها في الآية الكريمة [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ] في

العاجلة والآجلة.

إن زاد العبادات في مجتمع المسلمين يفترض أن يصبغ حركة المجتمع كله

بدينونتهم لله (تعالى) في علاقاتهم، ليظهر في سلوكيات الأفراد فهل بدا واقع

المسلمين بارزاً فيه صدى زاد الحج، تلك العبادة التي تمزج بين قلوب المسلمين

وترسخ فيها وحدة الشعور ثمرة لوحدة الشعيرة، هل بدا كذلك؟ ، وهل تزود

المسلمون من زاد الحج وعاشوا حكمه وهم يطبقون أحكامه على وجه مشروع

ومسنون؟

هل تحرك ذلك الموكب من ذوي الرداء الأبيض الناصع بين المشاعر شامة

تزين الأرض، يباهي بها الرحمن ملائكته، حجيجاً مترابطي القلوب، مسلمين

على منهج الله؟ ، هل بدت حِكمُ الحج العظيمة وآثاره الجليلة متحركة مع ذلك

الموكب، تنطق بها جوارح الحجيج وتبدو شاخصة في مناسكهم؟ هل ذابت

الفوارق النفسية بين الغني والفقير، والقوي والضعيف، وذهبت مع ثياب الحِل،

وبدت النفوس صافية حانية متآلفة لا يقل صفاؤها عن صفاء ثياب الإحرام؟

الحقيقة: إن اجتماع ذلك الكم الهائل من المسلمين على ذلك الصعيد الطاهر،

وإن بدت زيادة عدده ملمحاً إيجابيّاً من ملامح الصحوة وزادت فيه مساحات الالتزام

الصحيح أثراً من آثارها، إلا إن مساحات كبيرة منه تجيب سلباً عما سلف من

تساؤلات، وذلك لأسباب، منها:

-أن كثيراً من المسلمين بعيدون عن الأسس العقدية الصحيحة، وهذا

انحراف جلي عن صراط الله المستقيم ومخالفة للهدي النبوي القويم الذي حذر من

الشرك الخفي والأصغر، فضلاً عن الأكبر، مما يلزم معه أهمية التوعية بالتوحيد

لله وإخلاص العبودية له (جل وعلا) .

ومما يؤسف له، التقصير الملموس لدى بعض العلماء وسكوتهم المريب عن

تلك المظاهر الشركية، وهم المؤتمنون على رسالة البلاغ المبين، فإلى الله

المشتكى! .

-أن تلك العبادة أصبحت لدى كثير من المسلمين مجرد رحلات سياحية،

تكاد تكون خالية من روحها الإيمانية، بل صارت مجالاً للتفاخر والمباهاة، وكأن

الهدف أن يحلي أحدهم اسمه بالحاج فلان، وإذا لم يذكر اعتبر ذلك إهانة له.

-وبسبب الجهل السائد لدى كثير من الحجاج بآداب وأخلاقيات تلك الشعيرة

ولا سيما في التطبيق العملي للحج من الطواف والسعي، وعند التنقل بين المشاعر

انتشر ما يحصل بين الحجاج من سلوكيات غير حميدة، وإيذاء لا مبرر له، مع أن

ذلك منهي عنه؛ لقوله (تعالى) : [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا

رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجِ] [البقرة: ١٩٧] .

ومن باب التناصح: فإننا نذكِّر ببعض المسائل المهمة في الموضوع، ومن

الله نستمد العون والتوفيق:

إن فريضة الحج يجب أن تؤدى وفقاً لما صح من السنة وكما روي عنه،

مستحضرين ما فيها من تذكر لمواقف الأنبياء والمرسلين ولا سيما مواقف نبي الله

إبراهيم (عليه السلام) من توديع طفله وزوجه هذا البيت في تلك الصحراء اللاهبة

بقلب مفعم بالإيمان وهو يقول: [رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ

عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ

الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] [ابراهيم: ٣٧] ، وكذلك موقف نبينا وقدوتنا محمد (عليه

الصلاة والسلام) وهو يحج حجته الأخيرة ومعه الألوف من المسلمين ويلقي عليهم

خطبة حجة الوداع، التي وضح فيها معالم الإسلام ومبادئه البارزة، وحسبنا مما

قاله (عليه الصلاة والسلام) في تلك الخطبة: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام،

كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية

تحت قدميّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة.. وربا الجاهلية موضوع.. ... اتقوا الله في النساء.. وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله..) [٢] .

وتزامن مع هذه الحجة الأخيرة للرسول نزول قوله (تعالى) : [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ

لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً] [المائدة: ٣] ، مما يؤكد

على اكتمال الإسلام ديناً مهيمناً على حياة المسلم كلها، وأن أي محاولات لتحجيم

هذا الدين بدعاوى المبطلين مردودة عليهم، فالتلاعب بدين الله مرفوض تماماً.

إن تلك المشاهد والذكريات والمواقف الحبيبة إلى النفوس التي يتذكرها الحاج

وهو يؤدي المناسك تعلمنا الإيمان الحق بالله وحسن التوكل عليه، ومن توكل على

الله حق التوكل إيماناً ويقيناً بما عند الله آتاه مقاصده [وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ

حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً] [الطلاق: ٣] .

ولمن وفق لأداء هذه الشعيرة فرصة سانحة لتجديد العهد مع الله (تعالى) ، لما

في ذلك من الجزاء الأوفر، يقول الرسول: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما،

والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) [رواه مسلم] .

ثم إن الحج مظهر من مظاهر وحدة المسلمين، وفيه تذكير بالحشر يوم المعاد، مع ما فيه من التمرين على الصبر والمصابرة وجهاد النفس والجهاد لمواجهة

الأعداء، بل هو من أفضل الأعمال، يقول الرسول عندما سئل عن أي العمل

أفضل؟ : (إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ ، قال: ثم الجهاد في سبيل الله..

قيل: ثم ماذا؟ ، قال: حج مبرور) [أخرجه السبعة عدا أبي داود] ، وحينما سألته

عائشة (رضي الله عنها) قالت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نرى الجهاد

أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟ ، قال: (لا، ولكن أفضل الجهاد: حج مبرور)

[رواه البخاري] .

وأخيراً: ننبه إلى نقطة مهمة في الموضوع: فقد جرت على ألسنة كثير من

الكتاب والمفكرين دعوى أن الحج مؤتمر إسلامي، وهم بلا شك يقصدون المعاني

الطيبة التي تنبثق من اجتماع المسلمين وتدارس أحوالهم، والعمل على حل ما

يعتورهم من مشكلات، لكن ذلك مع أهميته ليس هو الهدف الحقيقي من الحج،

فالحج لايقصر على النخبة من الناس كما في المؤتمرات، التي لا تقتصر على

مكان أو أمكنة بعينها، لكن الحج عبادة وشد وارتحال للبيت العتيق، وهو عامّ لكل

من تحقق فيه شروطه من المسلمين.

وبالتالي: فالحج شعيرة لها أركانها وواجباتها وشروطها، ما أحوجنا إلى تفهم

حكمتها ومعرفة حدودها والاستفادة القصوى منها، وحسبنا الوعد الإلهي لمن أحسنها

وأتقنها بأن جزاءه الجنة.

والله نسأل أن يتقبل حج المسلمين وأن يجعل حجهم مبروراً وسعيهم مشكوراً.


(١) رواه مسلم بلفظ (لتأخذوا مناسككم) ، انظر: إرواء الغليل، ج٤، ص ٢٧١.
(٢) أخرجه الخمسة عدا النسائي، واللفظ لأبي داود، وصححه الألباني، انظر صحيح سنن أبي داود، ح/١٦٧٦.