للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بأقلامهن

[كيف نتحرر من أفكارنا الخاطئة؟]

بقلم:فاطمة محمد الخراز

كلّ فرد منا له منظارٌ خاص ينظر من خلاله إلى الأشياء المحيطة به، وكلّ

منا له وجهة نظره تجاه الأحداث والمجريات، فهناك من يتعامل مع الأحداث بشيء

من الحكمة، وهناك من يرى أن من الحكمة أن يُفل الحديد بالحديد، وهناك من

ينظر من عدسة مظلمة فلا يرى سوى لونين: الأسود، والأبيض الممتزج بشيء

من الكدرة والظلام، وفي الطرف الآخر: نجد الإنسان الذي أحسن تنظيف عدسته

فأصبح يرى الأشياء على حقيقتها الأسود أسود والأبيض أبيض، وكذا: الأخضر،

والأحمر، وسائر الألوان، فأصبح يتعامل معها ويمزج بعضها ببعض فيخرج لنا

بلوحات رائعة من الرؤية الصحيحة والفهم السليم.

وقد تشاهد امرأة تجني على أطفالها بالضرب حيناً وبالتقريع الكلامي حيناً

آخر، وقد تسمع وربما تشاهد المعلم الذي يلطم طفلاً على وجهه لأنه لم يحسن فهم

مسألة ما، ولو فتشنا في خبايا العقل الباطن لكلٍّ من هذين النموذجين فربما نجد أن

الأم ربما تسلك هذا السلوك للتنفيس عن المشاعر المكبوتة لديها تجاه الأب! ، فقد

يكون الأب على خلاف معها، فهي تنتقم من الأب من خلال الأطفال دون أن تشعر.. أما بالنسبة للمعلم: فإنّه ربما يكون قد تعرض في صغره لصفعة مماثلة، فهو

يريد الانتقام، أو أنه يحمل في طيات نفسه شعوراً بالعظمة جعله يحتقر كل من لم

يفهم وكل من يتعثر.. وكل إناءٍ بالذي فيه ينضح.

كثيراً ما تتكدر الأسماع عند الإنصات لفئة من الناس جعلت أكل اللحوم

البشرية مهنتها السائغة، فهي لا تفتأ في كل مناسبة عن إثارة الزوابع الكلامية،

وتطعن في فلان وفلانة وتتفنن بالشماتة من هذا وذاك، إن سمعت خيراً تسترت

عليه، وربما ينطبق على هذه الفئة المثل العامي: (كلّ يرى الناس بعين طبعه) ..

معنى ذلك: أن المسألة مرتبطةٌ بالطبع، والطبع ناتج عن العادات، والعادات ناتجة

عن النوايا، والنوايا تعني الأفكار، إذن: الفكرة هي مصدر الهم والقول والعمل،

فإذا كانت الفكرة حسنة اتخذ صاحبها وسيلة حسنة وتوصل إلى قولٍ حسن أو فعل

حسن، وإن كانت الفكرة بخلاف ذلك امتطى صاحبها حصاناً جامحاً لم يسرج، فما

يلبث أن يجد نفسه واقعاً تحت حوافره، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

حين قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) [١] .

إن كثيراً من التخبطات التي يعيشها الأفراد والجماعات ناتجة عن سوء

التفكير، وإذا تأملنا حياة إنسانٍ وُفرت له جميع وسائل الرفاهية والراحة والسعادة

ثم لم نجده قد حظي بشيء من ذلك أو شعر به، فما علينا إلا أن ننقب في فكره،

فالترسبات الفكرية التي مرّ بها الإنسان لها دور كبير في دفع حياته للأمام أو الخلف

وإن كانت جيدة، فلا يصح أن نطلق عليها ترسبات، وإنما هي شحنات إيجابية،

أما ترسبات الماضي التائهة في محيط النفس والمدفونة في القاع فقد تأتي عليها

لحظة فتقفز إلى السطح.. فنرى الإنسان يتصرف تصرفات غير واعية ... وحينما

يلام تكون إجابته: لا أدري ما الذي جعلني أتخذ هذا الموقف أو أتفوّه بتلك الكلمة أو

أتصرف ذلك التصرف! .. ولم يدرِ أنها مخلفات الماضي التي لم يسعَ إلى طردها

من فكره.

الإنسان الذي ينظر لنفسه دائماً ويتصرف من منطلق النصرة والثأر لكرامتها

ليس إلا إنسان طغت لديه (الأنا) ، فهو أناني محبّ لذاته (لذاته فقط) وليس أحد

سواه، ولسان حاله: (أنا ومن بعدي الطوفان) ، فالمهم (هو) ، والمحور (هو) ،

وبؤرة العدسة والشعور (هو) .. والإنسان الذي ينظر إلى الناس: كيف يرونني؟ ،

وكيف أجعل الوجوه تنصرفُ إليّ؟ ، وكيف يهب الآخرون إجلالاً واحتراماً لي؟ فهذا إنسان جعل نفسه عبداً من عبيد الناس، يلهث ويلهث دون جدوى، كلما

رأى الناس تهوى أمراً فعله! ، ولم يعلم أن رضا الناس غاية لا تدرك، ولم يعلم

حقيقة معنى قوله (تعالى) : [وَإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ... اللَّهِ ... ] [الأنعام: ١١٦] .

إن الأفكار أيّاً كانت حسنة أوسيئة ما هي إلا بذرة تخرج ثمارها في سلوكنا

وتصرفاتنا، وكل فكرة تحدث في وعينا الداخلي قوة تبعثه نحو سلوك معين، وإلى

هذا يشير المثل الصيني: (كما تفكرون تكونون) ، فكل إنسان يحمل في نفسه بذور

حقد دفينة، سيأتي لها لحظة تظهر فيها شجرة الزقوم.. وكل إنسان يحمل الغرور

أو الكبر أو الحسد أو الأنانية ... ولا يُظهر تلك المشاعر، فحتماً سيأتي موقف

يخرج غيظ صدره، وسيأتي موقف تُسقى به تلك البذور بماءٍ غساق، لتخرج

شجرة طلعها كأنه رؤوس الشياطين، فوراء كل فكرة هدف يسعى الإنسان للوصول

إليه، شعر بذلك أم لم يشعر، ووجود الهدف يولد الفكرة التي تشكل النوايا تجاه هذا

الهدف، والفكرة تزرع الأقوال والأفعال، ومن تراكم الأقوال والأفعال تنبثق

العادات، ومن العادات ترسخ شجرة الطبائع فيصبح الإنسان متطبعاً بأمرٍ قد يرفضه، ثم يقول: ماذا أفعل؟ ، وهنا يأتي دور الإنسان للبحث عن مخرج ولمحاولة

التحرر وتحطيم تلك الترسبات المتمثلة في الأفكار الخاطئة المنبعثة من قلب رازح

تحت وطأتها، وبالتالي: يحرز الإنسان النصر على أقواله وأفعاله ويقوِّم ما أعوج

منها.. كل شيء في الطبيعة الإنسانية قابل للتحول والتبدل، وأكبر مثال على ذلك: صحابة رسول الله (رضي الله عنهم أجمعين) ، فقد أمضوا سنين طوالاً تحت

وطأة المعصية قبل بعثته، وحين استجابوا لنداء ربهم تمردوا على تلك الطبائع

وتحرروا من قيود المعاصي، فملكوا العالم وفتحو مشارق الأرض ومغاربها.

فإذا كنت تمتلك طبائع أقضت مضجعك لسوئها فما عليك إلا أن تبني في نفسك

عزيمة صادقة على رفض تلك النوايا وتلك الطبائع، ورفضك لها يعتبر نقطة

البداية في التغيير وفي التحرر من الأفكار الخاطئة والأقوال المبتذلة والأفعال

المتسمة بالفوضى، ليسعك أن تهنأ براحة ضميرك وطمأنينة نفسك.

ولكي يتحرر الإنسان من تلك الأفكار فعليه أن يعلن الحرب عليها متسلحاً

بسلاحين لا غنى له عنهما:

١- إرادة قوية وعزيمة صادقة على تغيير تلك الأفكار لخطورتها.

٢- إخضاع تلك الأفكار وفق ما يرضي الله.

إن العاقل من الناس يفكر دوماً باتجاه صحيح وفي مسار صحيح، متجرداً عن

كل ما من شأنه أن يعرقل مسيرة تفكيره من رواسب الماضي ومخاوف المستقبل؛

فرواسب الماضي ومخاوف المستقبل هما العنصران المحركان لكل تفكير خاطئ،

ولكل تصرف عشوائي، ولكل نظرة سوداوية، والمسلم في منجاة من ذلك كله؛

لأنه يعلم أن ما حدث له في الماضي هو بقضاء الله وقدره، وحسبه منه أن يأخذ

منه عظة وعبرة.. وحسبهُ منه أن لله حكمة فيما يحدث إن لم تبدُ له الآن فستبدو له

بعد حين، أما بالنسبة للمستقبل: فهو على يقين من قوله (تعالى) : [قُل لَّن يُصِيبَنَا

إلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ... ] [التوبة: ٥١] .

حين نزرع في أنفسنا أفكاراً سامية فلا بد أن تكون مغارس بذورها طيبة،

فالله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً، فكثير من الناس يتشدقون بالأفكار النبيلة والكلمات

اللطيفة ويبنون مدينة الفضيلة، ثم إذا نظرت في أيديهم وجدتها صفراً من تلك القيم

والأفكار والمبادئ.. أجل، لقد تعبوا في جمع شرانق دودة القز وواصلوا السهر

لنسيج الحرير، ولكن لحظة امتحان إثر موقف مثير يجعلهم يحدثون ثورة عارمة

فيتمزق الحرير الذي نسجوه وتتطاير الشرانق.. لقد كانت أفكارهم سامية، ولكن

كان ينقصها أهم عامل يبعث فيها الحياة: كان ينقصها الصدق، ولم تكن تلك

الأفكار إلا أهدافاً شخصية لواضعيها وللمتغنين بها.. فلنحذر الأفكار الزائفة؛ لأنها

ستجعل منا فريسة لمواقف تكشف سوء النوايا، قال الشاعر زهير بن أبي سلمى:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم

إذن: لتكن لنا أفكارٌ فاعلة، ولكن ليكن منبتها على أسس شرعية؛ فحين

نعلن الحرب على العادات والطبائع علينا أن نجتثها من جذورها حتى لا تخرج لنا

على لون أو شكل آخر، ولننظر في خبايا النفس لنكشف النقاب عن سرِّ تلك

العادات، ومن ثم: نتخلص منها، فالطبيب يبحث عن سبب المرض ثم يمنح

الدواء، والشفاء يكون من عند الله.

إن مواقف الاختبار التي يمرّ بها الإنسان كثيرة.. كثيرة جدّاً، وهي جديرة

أن تجعله يقف مع نفسه وقفات عدة.

حاول ألا يصدر منك ما لا ترضاه.. بل ما لا يرضاه الله من قول أو فعل أو

هم أو فكر.. احرص أن تكون الأفكار التي ترتضيها لنفسك من المعدن النفيس،

من الكتاب والسنة.. وحينما يمر بك موقف أو تصرف أو يطوف بك طائفٌ ما،

فلا تتسرع بإصدار الحكم أو التفوه بكلمة أو اتخاذ قرار معين، بل امنح نفسك

فرصة للتروي ومراجعة الحسابات: [إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ

تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ] [الأعراف: ٢٠١] ، فإذا الفجائية تأتي مباشرة بعد

التذكر [تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ] ، فالإبصار يأتي مباشرة بعد التذكر فيخنس

الشيطان ويندحر.. معنى ذلك: أن التذكر منحهم فرصة للتروي والأناة، فقد ورد

عن السلف الصالح (رضوان الله عليهم) : (إذا هممت بالنطق بالباطل فاجعل مكانه

تسبيحاً) .. إن هذا التسبيح يمنحك فرصة كبرى للتروي، وبالتالي: يدفعك للنجاح

في الموقف الذي أنت بصدده.

هذا يعني أن المسلم أكثر الناس قدرة على التفكير السليم المجرد عن الأهواء

الذاتية؛ فالمسلم حينما يرى نفسه في موقف يفقده احترامه بين الناس، أو يهزّ من

شخصيته، أو يغيظه، أو يمنح غيره تفوقاً هو أجدر الناس به.. فما عليه إلا أن

يرى الأشياء من منظار نقي لا يخطئ.. منظار: ما التصرف الذي يرضي الله

والجدير بخلق المسلم في هذا الموقف؟ .. وحينما يُخضِع المسلم آراءه وفق ما

يرضي الله فسيكون على البينة؛ لأن الإنسان، مهما بلغ من رجاحة العقل ومتانة

الفكر، فهو في طور الإنسانية المعرضة للخطأ المتكرر.. أما إذا أخضع أفكاره

وردود فعله وتصرفاته لله (سبحانه وتعالى) : فإنه سيكون بمنأى عن البوار، وهو

الرابح بإذن الله وإن كثرت في طريقه العقبات [أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن

زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ] [محمد: ١٤] .

مما لا شك فيه أن هناك فرقاً واضحاً بين حكمة الأنبياء ومن سار على دربهم

من العلماء والحكماء والعقلاء، بين تلك الحكمة وآراء الناس سواهم، وفرق شاسع

بين من يكون على بينة من ربه ومن يتبع هواه.

إن المسلم حين يعثر يُقيل عثرته القرآن، وصدق أحد السلف حين قال: (من

قرأ القرآن مُتِع بعقله وإن بلغ مئتي سنة) .

فكِّر وفق ما يرضي الله، وافعل ما يرضي الله، ستجد أنك على الجادة التي

يرضاها الله.


(١) متفق عليه.