للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البيان الأدبي

حكاية (النص) وما وراءها

بقلم: د.محمد يحيى

شاع في الكتابات العلمانية في السنوات الأخيرة إطلاق وصف (النص) على

القرآن، فأصبحنا نسمع عبارة (النص القرآني) تتردد كثيراً لدى من يتناولون

الأمور الدينية الإسلامية من ذوي المنحى العلماني.

وقد يبدو لأول وهلة أن هذا المصطلح أو الوصف يستمد أصله من السياق

الإسلامي المعروف حول مفهوم (النص) ، والذي يدور حول صفات الوضوح

والبيان أو القطعية في الدلالة أو الثبوت.. ولكن القراءة المتأنية في مضامين

وإيحاءات استخدام هذا الوصف والمصطلح في الكتابات العلمانية تكشف عن أن

مفهوم كلمة (النص) عندها يختلف اختلافاً جليّاً عن مفهوم الدراسات الإسلامية للكلمة ... ويتصل عضويّاً بالمفهوم الغربي الأصيل لهذه الكلمة والفكرة كما تطور منذ عصر

النهضة الأوروبية وحتى أقرب المدارس الفكرية في الغرب، كالنفعية، والتأويلية،

والحداثة، وما بعد الحداثة، والتفكيكية، والتاريخية، وليس هذا الأسلوب بغريب

على أصحاب المذهب (اللاديني) ، فقد تعودوا في أطاريحهم المختلفة على أساليب

مما يمكن أن تسمى بالتدليس الفكري، ومنها: التلاعب في استخدام مصطلحات

معينة ذات أصل في تراث الفكر الإسلامي، يوهمون أنهم يستعملونها بمعانيها

الإسلامية، بينما هم في الواقع يملؤونها بالمضامين والإيحاءات التي اكتسبتها أو

أضفيت على مصطلحات مشابهة لها في الغرب وضمن السياق الفكري هناك.

ومصطلح (النص) الذي يقرن بالقرآن هو أحد هذه الكلمات الداخلة في إطار

تلك العملية من التدليس الفكري، فالذين يستخدمونه في كتاباتهم من العلمانيين قد

يوحون في الظاهر بأنهم إنما يلجؤون إلى مصطلح له جذور في التراث الإسلامي

والعربي، بينما الحقيقة كما يشي بذلك مضمون اللفظ، كما يتجلى عندهم هي على

العكس من ذلك تماماً.. فما هي أبعاد المصطلح الأوروبي الأصل ومضامينه

وإيحاءاته التي يكرسونها؟ .

إن أبرز ما يميز مفهوم (النص) في الفكر الغربي الحديث هو: نزع القداسة،

والتسوية العمياء بين جميع النصوص.. وهذا هو جوهر المدارس التي عرفت في

مجملها باسم ما بعد الحداثة والتفكيكية في مركزها، لكن (نزع القداسة) موجود في

التراث الفكري الغربي منذ قرون عديدة، وبالتحديد: منذ أن نشطت حركات تأويل

وتفاسير الإنجيل والتوراة عندهم والكتابات التحليلية التاريخية التي استعملت

المناهج النقدية لتقويض أسس مصداقية هذه النصوص كما تلقاها الغربيون من

أسلافهم، صحيح أن الفكر الغربي عرف التفرقة بين النص (المقدس) والنص

(الدنيوي) ، ولكن بعد أن تطرق الشك إلى أن هذه النصوص (المقدسة) وحي صادر

عن السماء أو عن الإله، وساد الاعتقاد بأنها وضع بشري أو على أحسن الأحوال:

جمع وصياغة بشرية عن أصول زعم أنها من الوحي الإلهي، حدثت حالة من

التسوية بين كل النصوص بمعنى كل الكتابات أو الأعمال المكتوبة، ولم تعد التفرقة

بين (المقدس) و (الدنيوي) تستخدم إلا بمعنى اصطلاحي؛ ليدل على بعض من

النصوص التي يعتقد بعضهم من (المؤمنين) أنها وحي سماوي.

مصطلح (النص) إذن في السياق الفكري والغربي وحتى قبل أن تعمل فيه

معاول مدارس ما بعد الحداثة والتفكيكية عملها الهدام كان بالفعل محملاً بمضمون

نزع القداسة أو إنكار أن هناك وحياً إلهيّاً أو (سماويّاً) قد نزل، فكل الكتابات

(نصوص) لا تختلف عن بعضها إلا في الأسلوب اللغوي، أو المقصد والغرض

العملي منها، أو الأثر الذي تتركه في نفوس قارئيها وعقولهم.

وإذا كان مصطلح (النص) محملاّ في جذوره وأصوله التاريخية الغربية بنزع

القداسة، وإنكار الأصل الإلهي لبعض النصوص، وتأكيد التسوية بين كل

النصوص أو الكتابات على أنها وضع بشري.. فإن مدارس ما بعد الحداثة

والتفكيكية قد أتت في العقدين الأخيرين لتكمل على ما تبقى من آثار للقداسة أو

التميز لبعض النصوص التي (زُعِم) أنها وحي؛ وذلك لأن جوهر هذه المدارس كان

القول بتحطيم أي مضمون ثابت تحتويه نصوص اللغة وتفكيكه وإلغائه، وإدخال

النسبية المطلقة على معاني النصوص كلها، وطرح مجموعة من العمليات اللغوية

الشكلية البحتة يقال إنها هي التي تنتج المعنى وهي التي تغيره في الآن نفسه، ومن

هنا: تعمقت التسوية بين النصوص ونزع القداسة عنها، وهذا النزع مما كان

موجوداً أصلاً في استخدامات مفهوم (النص) منذ القرن الماضي.

فقد أصبحت كل النصوص في ظل هذه المدارس الحديثة وسواء أكانت أدبية، أم (علمية) ، أم دينية مجرد كميات لغوية، لا تحتوي على مضامين ثابتة، ولا

تشير إلى حقائق خالدة، بل فقط (تنتج المعنى) بكميات معينة، تؤدي إلى أن يكون

هذا المعنى نسبيّاً ومتغيراً وغير محدد القوام، وبالطبع كانت النصوص (المقدسة)

هي الأكثر تأثراً بهذا الاتجاه؛ لأنها هي أكثر النصوص التي كانت تزعم لنفسها أنها

تحتوي على حقائق خالدة ومضامين ثابتة وأفكار مطلقة.. وتخرج هذه النصوص

من مطحنة التحليل التفكيكي وما بعد الحداثي وقد تحولت إلى ركام من المعاني

المتضاربة التي لا تشير إلى أي شيء أبعد من تهومات ذهنية أو معانٍ أخرى..

فالكل في النهاية: (لعبة اللغة) .

إن المحصلة النهائية لمفهوم (النص) كما تبلور في الغرب على يد المدارس

الفكرية هناك تشير كما أسلفنا إلى عملية متصاعدة من نزع القداسة عن النصوص

والكتابات الدينية، ثم إعمال التسوية بين كل أنواع النصوص، وإخضاعها في

نهاية المطاف إلى هيمنة بعض العمليات اللغوية الشكلية الآلية، التي تلغي حتى

وجود المعنى العلماني نفسه فيها، وتحل محله الإبهام والتميع والغموض و (عدم

التحدد) ، ومن هنا: فإن استخدام مفهوم (النص) في الكتابات ذات التوجه العلماني

التي تتحدث عن الإسلام وعن القرآن بالتحديد لا يأتي بريئاً من التحيز، ولا يأتي

في سياق الفكر والمصطلح الإسلامي كما قد يتصور بعض الطيبين لدى النظرة

الأولى، بل يأتي محملاً بكل هذه المضامين والإيحاءات الغربية.

ومن هنا: فإن الحديث عن (النص القرآني) في سياق هذه الكتابات العلمانية

يلف ويدور حول قضايا بعينها، أصبحت مشهورة الآن من كثرة ترديدها واللغط

حولها، وهذه هي قضايا ما يسمى بتاريخية النص القرآني، أي: تشكله عبر فترة

تاريخية، أو خضوعه في المعنى والتفسير لاعتبارات التاريخ والعهد الذي (كتب)

فيه هذا (النص) كما عبر أحد الكتاب في هذا السياق، ويرتبط بهذه القضية: ما

يطرح حول نسبية المعنى القرآني وتغيره بتغير العصور والمفسرين، كما يرتبط

بها: الحديث حول (بشرية) النص القرآني، بالقول بأن القرآن قد (كتب) بلهجة

عربية معينة، وفي عصر معين، وأنه موجه للبشر؛ ولذلك فإن الطابع البشري

يغلب عليه (!) .

وبصرف النظر عن التلاعب اللفظي المتضمن في هذا الرأي (وقد يكون هذا

موضوعاً لمقال آخر) ، فإنه نابع في الأساس من ذلك المفهوم عن النص الذي جُلب

من الفكر الأوروبي بسياقاته المختلفة عن السياق الإسلامي.

وفي الخلاصة: فإن مفهوم (النص) الذي يشيع في كتابات العلمانيين الآن في

بلادنا الإسلامية مطبقاً على القرآن يتضمن كثيراً من الأفكار التي تهدم أسس الدرس

القرآني، ويحول كتاب الله إلى مجرد (كلام بشر) تجوز عليه شتى العمليات الشكلية

التي تطبق لتفسير الأعمال الأدبية وتحليلها، وربما جاز التعليق بأن هذا الكلام ليس

جديداً عليهم، وإن كان الآن مصاغاً بمصطلحات تزعم الجدة والطابع الفلسفي؛ فقد

سبق للمستشرقين وأشياعهم منذ أوائل هذا القرن أن وصفوا القرآن بأنه كالعمل

الأدبي الذي يجب أن تطبق عليه أساليب الأدب حتى يفهم، ولا يعني ذلك سوى أن

القرآن تأليف بشر، وهي دعوى كفار قريش القديمة نفسها، تعود الآن في ثوب

عصري معقد، بينما كانت تطرح في الماضي ببساطة ساذجة.