للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

افتتاحية العدد

هذا موقف العلمانية من الإسلام وهذا موقفنا منها

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء، والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الصراع بين الحق والباطل حقيقة أزلية معروفة عبر التاريخ، وهو سنة

يعرفها كل متدبر وتالٍ لآيات الذكر الحكيم، ويجدها في المواجهة بين الأنبياء

وأعدائهم من الكافرين برسالتهم، ويتكرر بصور مماثلة عبر العصور بين الدعاة

والمصلحين ومناوئيهم حينما يقفون بكل تبجح أمام الحق وأهله، رافضين جملة

وتفصيلاً ما يدعو الدعاة إليه من حق وما يطالبون به من تحكيم لشريعة الله،

فالعلمانية بخيلها ورجلها تقف بكل صلف ضد أي توجه إسلامي يقوم في أي بلد

مسلم مثيرة الشبهات ضده والإساءات المتوالية لكل منتمٍ له، بدعاوى أن أولئك

رجعيون ومتطرفون وإرهابيون؛ لهدم هذه الاتجاهات أمام الشعوب، وتخويفها منها

بالكذب والتزوير.

لقد وصف الله المنافقين أوصافاً دقيقة، تنبئ عن حقيقة ما يضمرونه من سوء

في الوقت الذي يتظاهرون فيه بالإسلام، وكأنه وصف لجوقة العلمانيين في عالمنا

الإسلامي اليوم، يقول (جل وعلا) : [وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأََرْضِ قَالُوا إنَّمَا

نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أََلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ] [البقرة: ١١، ١٢] .

إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع، بل يضيفون إليهما السفه والادعاء..، والذين يفسدون أشنع الفساد ويقولون: إنهم مصلحون، كثيرون جدّاً في كل زمان، يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم، فيتعذر على أولئك أن يشعروا بفساد

أعمالهم؛ لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء

الذاتية، ولا يستند إلى أسس شرعية.

إن ظهور الإسلام هو بداية غيظ ورعب لأعداء هذا الدين وخصوم المنتمين

له في كل حين، فهو يؤذيهم ويخيفهم؛ لأنه من القوة والمتانة بحيث يخشاه كل

مبطل، ويرهبه كل باغٍ، ويكرهه كل مفسد.. لما فيه من حق أبلج ومنهج قويم،

فهو مضاد للباطل والبغي والفساد؛ ومن ثم: لا يطيقه المبطلون والبغاة والمفسدون، لذلك يرصدون لأهله، ليفتنوهم عنه.

علمانيو تركيا نموذجاً: وصورة هذا العداء السافر لم تتبين بشكل واضح جلي

كما تتضح اليوم في الحرب الشعواء التي يشنها العلمانيون على أهل الإسلام ودعاته

في كثير من ديار الإسلام، وبشكل أخص فيما يقوم به تلاميذ الرجل الصنم

(أتاتورك) من دعاة الطورانية الملحدة سواء من الأحزاب العلمانية التركية أو عن

طريق الجيش التركي الذي يعتبر نفسه حامي الدستور العلماني هناك، وهذا الولاء

الذي يدينون به له والذي جعل (أتاتورك) يحكمهم به من قبره لم يأت من فراغ،

فهو نتيجة بناء أسسه المذكور المشبوه بانتمائه للدونمة ذوي الأصول والاتجاهات

اليهودية، ومواقفه من الإسلام تؤكد ذلك، والعساكر الممسكون بأَزِمّة الأمور اليوم

هم خريجو المؤسسة العسكرية التابعة للجيش الذي تحول إلى مفرخ للقادة والضباط

المؤمنين بالمبادئ الطورانية، وجل ضباط الجيش التركي هم من ذلك الصنف؛ فلا

عجب أن نراهم حماة لتلك المبادئ العلمانية المتطرفة التي لا تطيق للإسلام صوتاً،

فضلاً عن أن يحكم أو يعمل في الهواء الطلق، ولذلك: كان لهذا الجيش موقفه

الصارم من التدخل المباشر في تعديل أي مسار ضد أي تجاوز للمبادئ العلمانية منذ

عام ١٩٦٠م، حينما تدخل لإيقاف حكومة (عدنان مندريس) الذي أعلن في برنامج

حزبه الذي نال به الأغلبية وترأس الحكومة آنذاك منادياً بفتح مدارس تحفيظ القرآن، وإعادة الأذان بالعربية! .. فما كان من قادة الجيش ذوي الاتجاهات نفسها إلا أن

أسقطوا الحكومة، وأعدموا رئيسها وبعض وزرائه؛ بدعوى الخروج عن (المبادئ

الكمالية) ! ثم حصل التدخل عام ١٩٧٠م مرة أخرى، ثم في عام ١٩٨١م..

فموقفهم من الإسلام موقف حياة أو موت كما ذكروا، ولولا الخوف من العواقب

الوخيمة للانقلاب العسكري الآن لأوقفوا (أربكان) الذي استطاع بكل دبلوماسية أن

يقف في وجوههم وأن يفتح العيون أمام الجميع على تدخلاتهم التسلطية في أعمال

الحكومة المنتخبة عن طريق ما يسمى بـ (مجلس الأمن القومي التركي) بشكل لا

يمكن أن يحدث في أي بلد متحضر.

والأخذ والرد الحاصل من التدخل العسكري ضد حكومة (أربكان) ومحاولة

إسقاطها بالتعاون مع الأحزاب العلمانية الهزيلة يكشف إلى أي مدى وصل العداء

القائم بين الإسلام والعلمانية، ويكشف أيضاً هلعهم من أي مظاهر إسلامية مهما

كانت محدوديتها، وهذا الخوف من عودة الإسلام مرجعه إلى الخوف على أنفسهم؛

لكثرة ما طغوا وبغوا في البلاد، فكم أذلوا الناس واستباحوا كرامتهم؟ ، وكم أساؤوا

إلى دينهم وعقيدتهم بدعوى الحفاظ على المبادئ الأتاتوركية؟ ، ولا ندري لحساب

من يجري هذا الإرهاب العلماني على الأمة والرفض المطلق للعودة لما تدين به

الأمة وتعتز؟ ولماذا الصمت المريب من المجتمع الدولي على خروقات

الديمقراطية! التي يهمهم أمرها؟ .

إن العلمانية ليست كما يشاع مجرد فصل الدين عن الدولة، بل هي في نهاية

الأمر وحقيقته: فصل الدين عن الحياة، ليتصرف الحاكمون بأمرهم على إشاعة

الباطل وتدجين الأمة على قبول الهوان والتبعية للأعداء بتقنين الباطل وحكم

الطاغوت.

ومن العجب أن يتحدث نفر من المنسوبين للإسلام بكل سذاجة وبورع بارد

حينما يدعوننا ألا نتحدث عن خطر العلمانية، وألا نفضح العلمانيين، وألا نتهمهم

بالخروج والضلال المبين.

كيف لا نتهمهم بكل ذلك وأهدافهم أصبحت مكشوفة للجميع؟ وكيف لا

نفضحهم وأفكارهم الرافضة للدين بانت لكل ذي عينين؟ وكيف لا نحذر الناس

من شرورهم وتلك هي مواقفهم واضحة من الإسلام وعلمائه ودعاته والمنتسبين

إليه؟ أين الحرية الشخصية التي تضمنتها دساتيرهم إياها ذرّاً للرماد في العيون؟ ...

أين حقوق الشعوب في تعلم ما تدين به؟ بل أين مظاهر الإسلام حتى الشكلية ...

منها؟ ! ...

لقد أكد كثير من علماء الإسلام أن حقيقة العلمانية هي رفض للدين أن يكون

حاكماً، بتنحية الإسلام عن الحياة في كل الأمور؛ والآن تقاتل العلمانية لمنع تحكيم

الإسلام وعودته من جديد حتى بالوسائل الديمقراطية التي يتشدقون بها ليل نهار.

فما هو موقف علماء المسلمين منها؟ .

يقول سماحة الشيخ (عبد العزيز بن عبد الله بن باز) أحد العلماء الأعلام في

هذا العصر في إحدى فتاويه: ( ... وقد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم

غير الله أحسن من حكم الله، أو أن هدي غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

أحسن من هدي الرسول، فهو كافر، كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحد

من الناس الخروج عن شريعة محمد، أو تحكيم غيرها، فهو كافر ضال) .

ويضيف سماحته في فتوى أخرى: ( ... فالذين يتحاكمون إلى شريعة غير

شريعة الله، ويرون أن ذلك جائز لهم، أو أن ذلك أولى من التحاكم إلى شريعة الله، لا شك أنهم يخرجون بذلك عن دائرة الإسلام، ويكونون بذلك كفاراً ظالمين

فاسقين) [١] .

هذه هي العلمانية أيها الناس وهذا هو حكمها، فهي تلك التصورات القاصرة

والمشبوهة عن الإسلام، وأحكامه، وأصوله، وهذا ما يدين به رموز العلمانية في

كل بلد مهما تظاهروا زوراً بخلاف ذلك.

فاعرفوا العلمانية حق المعرفة واكفروا بها؛ لمصادمتها لدينكم، ولمعارضتها

لأصول عقيدتكم، والواقع أكبر دليل على ذلك.. فإلى متى نتجاهل ذلك، ونؤول

الحقائق؟ ، ثم حتى متى يتمسك بعض السذج بذلك الورع البارد الذي ينم عن مدى

الجهل بالإسلام نفسه؟ ! .

إننا نذكر الجميع بأن تلك هي مواقف العلمانية والعلمانيين من الإسلام، وذلك

هو حكم الإسلام فيهم:

[فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ

حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: ٦٥] .


(١) مجموع فتاوى سماحته، ج١، ص ٢٧٤، ص ٢٧٥، وانظر له أيضاً: العقيدة الصحيحة، ونواقض الإسلام.