للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

متابعات

حمّى التأليف والنشر.. نظرات في معجم جديد

بقلم: صالح درباش الخزمري

إن من نعم الله على عباده المؤمنين هذه العودة والأوْبة إلى الله (الصحوة

المباركة) التي نلمس آثارها في مجالات عديدة متنوعة، ومن أبرزها ما نراه من

حركة علمية واسعة الانتشار، في مجال التعلم والتعليم، والتحقيق ونشر التراث،

والتأليف والطباعة، وما إلى ذلك؛ حيث ظهرت كتب كثيرة من كتب الأسلاف

العظام محققة مضبوطة، كما ظهرت مؤلفات أخرى عليها طابع الجدّة والابتكار

والأصالة، فنفع الله بها من شاء من عباده.

ولكن ظهر في ثنايا تلك الحركة الدؤوب الجليلة، وتسلل إلى صفوفها بعض

المكدّرات وشيء من العبث والتلاعب باسم التحقيق تارة، وباسم التأليف المبتكر

تارة أخرى؛ وهذه الأفعال جديرة بأن تسمى عبثاً ولعباً ومسخاً.

ولقد نبه بعض الغيورين محذرين من هذا العبث والتعالم، من أمثال الشيخ

العلامة (بكر أبو زيد) وفقه الله الذي له جهود مباركة في هذا المجال ككتابه:

(التعالم وأثره على الفكر والكتاب) ، وكتابه: (حلية طالب العلم) و (الرقابة على

التراث) ... وغيرها.

وألف الأخ الفاضل (محمد آل شاكر) ، كتابه: (أوقفوا هذا العبث بالتراث) ،

بعد أن كان مقالات على صفحات (البيان) .

وألف الأخ الفاضل (أحمد الصويان) كتابه: (الكتاب الإسلامي المعاصر..

نظرات نقدية) ، وغير هؤلاء من الغيورين على تراث الأمة وحياتها العلمية فجزى

الله الجميع خير الجزاء.

ومع هذه التحذيرات الصارخة: فلا يزال العبث مستمراً وفي ازدياد ممن

تصدروا للتأليف والتحقيق قبل أن يتأهلوا لذلك، متشبعين بما لم يُعْطَوْا ضاربين

بهذه الصرخات عرض الحائط:

لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي

وفي الآونة الأخيرة طالعتنا إحدى المكتبات بالرياض بنشر كتاب يحمل عنوان

(معجم ألفاظ العقيدة) ، ويقع الكتاب في أكثر من ٤٨٠ صفحة في مجلد أنيق.

والعنوان كما ترى مهم للغاية وضخم، يستحق أن يتعاون على تأليفه مجموعة

من المتخصصين وحالما طالعته وجدت مؤلفه يقول في مقدمته: إن علم العقيدة

يحوي مصطلحات يغيب معناها عن كثير من طلبة العلم فضلاً عن عامة الناس،

وإنه لم يُسبق إلى هذا العمل، فشمّر عن ساعد الجد وحاول حصر المستطاع من

ألفاظ العقيدة لإفادة الناس، بل طلاب العلم..! !

وإذا نظرنا في هذا الكتاب نَجِدُهُ خِلْواً من التحقيق والتدقيق والتمحيص

المطلوب في المعاجم، بل في كل تأليف، وأما تحرير المصطلحات ونسبة الأقوال

إلى أهلها والتعامل مع المراجع كما ينبغي، فلا تسأل عن شيء من ذلك في هذا

الكتاب؛ كما سنرى أخي القارئ.

ولو تتبعنا الملحوظات عليه لوجدناها كثيرة جداً، لكنني أكتفي بما يؤدي

الغرض ويفي بالمقصود إن شاء الله (تعالى) .

ففي مجال التعريف بالمصطلحات وشرحها الذي هو أساس الكتاب نجد الآتي:

في كثير من الأحيان لا يعرِّف بالمصطلح، وإنما يسترسل في أمور أخرى

لا علاقة لها بالتعريف: كالحكم على هذا المصطلح من حيث الجواز وعدمه، أو

بيان رواية حديث أو غير ذلك من الأمور؛ انظر مثلاً لفظ: الأوعال، البركة،

التعليل، التصوير ... ، وغيرها ككثير من الأسماء والصفات التي يكتفي بإثباتها

دون شرحها وبيان معناها.

وكثير من التعريفات غير تامة، بل هي قاصرة جداً مثل:

١- تعريفه للبراهمة بأنهم (الذين يزعمون أن العقل يغني عن الوحي) وهذا لا

يكفي في تعريفهم.

٢- تعريفه لأصحاب الهياكل حيث استرسل في شرح معنى هذا اللفظ ولم

يبين أنهم من الصابئة.

٣- الجارودية: عرّفها وشرح حالها ولم يذكر أنها إحدى فرق الزيدية.

٤- حدوث العالم حيث نقل عن بعض الكتب المعاصرة: أن ذلك قول معظم

مفكري الإسلام، ونقول: بل هو عقيدة المسلمين جميعاً، وسائرُ أهل الديانات كلهم

يؤمنون بحدوث العالم ووجوده وخلقه بعد أن كان معدوماً وليس خاصاً بفئة من

المفكرين.

والسبب الذي يوقعه في هذه المآخذ نقله من المراجع التي اعتمد عليها دون

تمحيص، وأحياناً يعرّف تعريفات بعيدة عن الصواب، بل هي خطأ مثل:

١- تعريف الإرجاء: فقد تحدّثَ عنه بأنه ظهر في عصر الصحابة، ثم أخذ

يسترسل في بيان أصناف المرجئة وفرقهم دون تحديد لمعنى الإرجاء، والإرجاءُ

الذي يعنيه في عصر الصحابة ليس هو الإرجاء بوصفه فكرةً ومعتقداً وهو الذي

يدخل ضمن معجمه! !

٢- الكلام النفسي لم يوضحه، وإنما نسبه إلى المعتزلة والفلاسفة. ومن

المعلوم عند طلاب العقيدة الذين يؤلف لهم هذا الشيخ معجمه، أن الكلام النفسي أول

من قال به ابن كلاب، ثم تبعه عليه الأشاعرة والماتريدية.

٣- تعريفه للاثني عشرية قال: هي التي تدعي عصمة اثني عشر إماماً (ثم

عدّهم أحد عشر إماماً..! !) وعد منهم (أحمد الباقر! !) ، وصحة اسمه: (محمد

الباقر) ، كما عد منهم فاطمة (رضي الله عنها) و (فاطمة) ليست منهم.

وهو غير موفق في كثير من تعريفاته:

١- ففي تعريفه للمهدية وصفها بأنها سلفية، وهذا وهْمٌ فهي طريقة صوفية.

٢- وفي تعريفه للسنوسية وصفها أيضاً بأنها سلفية.. وهذا الكلام غير سليم؛

والسبب: أنه نقل من مرجع معاصر لكاتب ليس على منهجية صحيحة في نظراته

وأطاريحه.

٣- وفي تعريفه للزيدية وصف (زيد بن علي) بأنه صاغ نظرية شيعية

متميزة.. (هكذا قال) .

وهو في هذا مجرد ناقل عن غيره دون تمحيص وإلا ف (زيدٌ) (رحمه الله) لم

يكن شيعياً قط، ولم يؤمن بنظريات الشيعة، واقرأ إن شئت كتاب: (الإمام زيد بن

علي المفترى عليه) لشريف الخطيب.

وأحياناً كثيرة يترك مصطلحات السلف لا يعرّفها مع أنه زعم في المقدمة

الحصر ما استطاع، فلم يعرّف مثلاً: الجنة، الحفظة، الكوثر، القرين، المحدّث، الملهم، الإلهام، الرؤيا وغيرها؛ وحتى لفظ العقيدة الذي هو عنوان معجمه

الشامل..! ! فإنه أهمل تعريفه؛ واهتم بتعريف مصطلحات لا أهمية لها كأسماء

بعض الفرق المندثرة كالعلبائية، والبزيغية، والبيهسية، والزروانية والكيومرثية

والرقيونية.. وغيرها مما لا تهم القارئ، وترك التعريف بفرق حية معاصرة مع

أهمية ذلك كالتعريف ببعض طرق الصوفية كالرفاعية، والختمية، وغيرها،

وبعض المذاهب الفكرية المعاصرة: كالرأسمالية والديمقراطية، والحداثة، وغيرها.

وبعض التعريفات ينسبها إلى غير أهلها، كتعريف الكبيرة نَسَبَهُ لابن تيمية،

وهو في الحقيقة لعلماء سابقين عليه من عهد الصحابة فمن بعدهم؛ ولو رجع إلى

كتب التفسير عند قوله (تعالى) : [إن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ

سَيِّئَاتِكُمْ ... ] [النساء: ٣١] ، ورجع إلى (فتح الباري، ١٢/١٨٣) وكتاب

(الزواجر) للهيتمي لكان أوثق له وأصدق.

وأحياناً يذكر المصطلح ناقلاً له عن غيره دون عزو أو توثيق؛ فيظن القارئ

أنه من مبتكراته، كتعريف الشيعة، إذ نقل تعريف الشهرستاني في الملل والنحل

ولم يعزه إليه. وانظر كذلك ألفاظ: (المعتزلة، الإرجاء، الصوفية ... وغيرها مما

لم يعزُه إلى أحد ... ! !) .

وأما مصادره المعتمدة في هذا المعجم فجلّها حديثة معاصرة مع وجود الأصول

التي أخذ منها هؤلاء المعاصرون:

١- ففي تعريف الماتريدية اعتمد على رسالة صغيرة لأحد الدكاترة مع وجود

مراجع معتمدة غيرها.

٢- وعرف البراهمة معتمداً على كتاب (الرسل والرسالات للشيخ عمر

الأشقر) ، مع أن الأشقر لم يعرّف البراهمة أساساً.

٣- وعرف الرافضة من فتاوى فضيلة الشيخ (محمد العثيمين) مع وجود كتب

الفرق المعتمدة التي عرّفت بهذه الفرقة.

٤- ووثق قصة ابن صياد من كتاب (القيامة الصغرى) للشيخ الأشقر مع

وجود القصة في صحيح مسلم وغيره.

٥- وعرّف بالإنجيل نقلاً عن كتاب الملل والنحل للشهرستاني، وزعم أن

إنجيل (برنابا) اختفى ذكره، ونقول: إنه موجود مترجم، نقله إلى العربية خليل

سعادة وطبعه محمد رشيد رضا، وأعيد طبعه في بيروت مرات.

٦- وعرّف برسائل إخوان الصفا من كتاب (كشف الظنون) مع وجود هذه

الرسائل مطبوعة.

٧- ويحيل أحياناً في بيان المصطلحات السلفية إلى غير كتب السلف،

كإحالته للتوسع في الإيمان وأقوال الفرق فيه إلى كتاب تبصرة الأدلة للنسفي

الماتريدي، مع وجود كتب السنة وتوفرها في توضيح ذلك.

٨- نقل تعريف القرامطة من تسجيل صوتي لأحد المشايخ المعاصرين! !

وهذا قصور ظاهر منه مع وجوده في مصادر قديمة وحديثة متوفرة.

وخلاصة القول في مراجعه: أن جلها من المؤلفات الحديثة التي يغلب عليها

النقل إلا ما ندر، ومؤلف هذا المعجم أفرغ ما ألف من هذه الكتب المعاصرة في

تأليفه:

- فهو قد أفرغ كتاب شرح أسماء الله الحسنى للشيخ سعيد بن وهف القحطاني

في معجمه مع أنه كان بالإمكان الرجوع إلى كتب التفسير عند تفسير الأسماء

الحسنى الواردة في القرآن، وكذلك شروح الحديث، وأيضاً الكتب التي اهتمت

بشرح الأسماء الحسنى عند القدامى.

- وكذلك كتاب الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة د (ناصر القفاري) ،

د (ناصر العقل) ومؤلفاه قد ذكرا: أن كتابهما ألف لأغراضٍ دراسية فقط، فقام

بإفراغه في معجمه على أنه مرجع أساس مع توفره وغيره.

- والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة الصادرة عن الندوة

العالمية للشباب الإسلامي بالرياض وهي التي أوقعته في خطأ تعريف الزيدية [*] .

٤- فتاوى الشيخ (محمد بن عثيمين) (حفظه الله) ، فإنه لا يكاد يخرج عنها

مع وجود فتاوى غيره من أهل العلم من السابقين واللاحقين ممن هم على منهاج

السلف، كفتاوى شيخ الإسلام (ابن تيمية) وغيره من العلماء القدماء والمحدثين.

٥- وأما في الفرق والأديان فمع ما سبق في رقم (٢، ٣) فقد يرجع إلى الملل

والنحل للشهرستاني في أحيان قليلة، ونادراً ما يرجع إلى غيره من كتب الفرق

المتقدمة المعتمدة.

وختاماً نقول: إن تأليف معجم ليس من السهولة بحيث يؤلف بهذا الأسلوب

نقلاً من الكتيبات والرسائل الصغيرة التي طابعها نشر الوعي أكثر من التحرير

والتأصيل، وإصدار معجم بهذه الأهمية يستغرق وقتاً طويلاً من الجمع والتحقيق

والتدقيق والتمحيص والتوثيق والترجيح بين الآراء والأقوال، فلا يأتي إلا بعد

سنوات طوال من الجهد المضني، وقد تأهل مؤلفه ونبغ في العلم ورسخ فيه وعلا

كعبه، وإن أردتم أمثلة على ما أقول فانظروا إلى أيِّ معجم معتمد كيف بلغ مؤلفه

به شأواً عظيماً؛ ودونكم معجم المناهي اللفظية للعلامة (بكر أبو زيد) ، كيف حرره

وأبدع فيه.

أخي القارئ: هذه إشارات عاجلة سريعة على سبيل التمثيل لا الحصر، والله

نسأل للجميع التوفيق والسداد.


(*) انظر مجلة البيان، ع/٢٣،مقال عن ملحوظات على هذه الموسوعةلعبد العزيز آل عبد اللطيف.