للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

افتتاحية العدد

[بعد سنوات عجاف.. الإنقاذ من جديد]

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى

يوم الدين، أما بعد:

فلقد خرج أخيراً الشيخ عباسي مدني ومن قبله الشيخ عبد القادر حشاني،

وتبع ذلك العديد من التحليلات السياسية التي تحاول تفسير الموقف الحكومي من

جهة، وموقف جبهة الإنقاذ من جهة أخرى، وموقف الشارع الجزائري والمغاربي

بوجه عام. وبغض النظر عن دقة تلك التحليلات أو عدم دقتها، فإننا نرى أنّه من

المناسب الإشارة إلى المسائل التالية:

المسألة الأولى:

لا شك أن الأحداث المتتابعة، وفترة السجن الطويلة التي قضاها شيوخ الإنقاذ، أعطتهم فرصة كبيرة للنظر والتأمل، ودراسة المواقف السياسية المختلفة التي

تمخضت عنها الأحداث المتلاحقة. ولقد اتضحت طبيعة النظام الجزائري،

ومواقف الأحزاب بمختلف اتجاهاتها السياسية، وتكشفت مواقف الأنظمة الغربية.

وهذا يستوجب إعادة النظر بطبيعة الخطط والشعارات التي تبنتها جبهة الإنقاذ،

وكيفية إدارتها للمواقف العملية.

وإذا أضيف إلى ذلك الرصيد الخصب للتجربة الإسلامية التي اكتسبها الشيخ

عباسي مدني وأصحابه؛ فإنه سيساعدهم بالتأكيد إن شاء الله تعالى على تقويم

الموقف برمته تقويماً شاملاً يدرس كافة الإيجابيات التي تم اكتسابها، وكافة الأخطاء

التي تم الوقوع فيها لأي سبب من الأسباب. ولعل ذلك يعدّ من أولى أولويات

المرحلة القادمة التي ينبغي أن تدرج ضمن خطة جبهة الإنقاذ ليتم الانطلاق منها بعد

ذلك إلى رسم الخطط المستقبلية القريبة والبعيدة.

المسألة الثانية:

بعد الاعتقالات الشاملة التي واجهت جبهة الإنقاذ، والتي أدت إلى غياب أكثر

القيادات الشرعية والسياسية، حدثت شروخ فكرية ومنهجية في جسم الحركة

الإسلامية بعامة، وظهرت بعض الأطروحات العلمية والعملية التي قد ينقصها

العمق الشرعي والأصالة المنهجية، كما تصدعت بعض الصفوف وانفرطت وحدتها، وتعددت البراعم التنظيمية هنا وهناك. وهذا كله يتطلب استنفاراً كبيراً في طاقات

الشيوخ الفضلاء لترميم البناء من الداخل، وإعادة تأطيره، ومعالجة الانحرافات

المنهجية علاجاً شرعياً مؤصلاً.

ونحسب أن شيوخ الإنقاذ بحمد الله تعالى يملكون الأصالة العلمية، والقدرة

الإدارية والفنية، لوضع أيديهم بحكمة على مواضع النقص والخلل، لمعالجتها

بعمق شرعي وبنفس طويل وصدر واسع، مع مراعاة كافة الاعتبارات التي تمر

بها المرحلة الحالية من داخل الجبهة وخارجها.

المسألة الثالثة:

لا شك أن رجالات جبهة الإنقاذ أثبتوا ولله الحمد والمنة بسالة وشجاعة في

تحمل أعباء السجن والملاحقة والتضييق، وضرب الشيوخ أروع الأمثلة في ثباتهم

وصدقهم واستعصائهم على الترويض، فكانوا قدوة ومثلاً يحتذى. نسأل الله تعالى

أن يعظم للجميع الأجر والمثوبة، وأن يرفع درجاتهم، ويعلي منازلهم في الدنيا

والآخرة.

إنّ الطريق لإعلاء كلمة الحق واضح المعالم، بيّن السمات، ولن يقوم به إلا

الخُلّص الأبرار الذين باعوا نفوسهم لله تعالى، وآثروا الباقية على الفانية، ولم

يضرهم من خذلهم أو خالفهم، بل اعتصموا بحبل اله المتين، واقتدوا بهدي سيد

المرسلين، وهانت في أعينهم مختلف المشاق والمصاعب.

وها هنا ينبغي التأكيد على أهمية البناء التربوي الراسخ في الصفوف؛

فتزكية النفس وتهذيبها وبناؤها من أولى أسس التغيير الشامل الذي يتطلع إليه

المخلصون. ولن يبلغ البنيان تمامه إلا بجهد كبير في رعاية المحاضن التربوية.

ولم يكن هذا البعد التربوي غائباً عن صفوف الجبهة في المرحلة السابقة،

ولن نظن بحول الله تعالى أنه سيغيب في المراحل القادمة؛ ولكننا نرجو أن يولى

عناية أكبر، وأهمية أعظم. والجماهير العريضة المتعطشة للحل الإسلامي، والتي

تلتف حول العلماء والمصلحين والدعاة الصادقين تحتاج إلى رعاية تربوية ومنهجية

أصيلة.

فالخطاب الوعظي المجرد مهما كان بليغاً لا يبني رجالاً راسخين، كما أن

العاطفة المتوهجة التي لم تتجذر في أعماق الأرض مهما كانت صادقة قد لا تثبت

أمام الأعاصير والأمواج العاتية! ! ولهذا كان بناء الرجال وإعداد النفوس هو

الطريق الصحيح للتغيير، وما لم تتضافر الجهود لذلك فسوف نظل نعرج ونتعثر! !

المسألة الرابعة:

كشفت أحداث الجزائر السابقة، ومثلها التجارب السابقة للحركات الإسلامية

المختلفة الأهمية الكبرى لوحدة الصف الإسلامي، فذلك هو السبيل الأمثل لمواجهة

جموع الأحزاب العلمانية والأنظمة النفعية التي أجلبت بخيلها ورجلها لوأد الصحوة

الإسلامية بعامة.

ولقد آن الأوان أن يدرك العقلاء والمخلصون في الحركة الإسلامية الجزائرية

بمختلف فصائلها: أن التهارش والتدابر والتقاطع والاشتغال بالأعراض يُعد أفضل

خدمة نقدمها للعلمانيين.

آن الأوان بأن ندرك: أن انكسار فصيل من الفصائل الإسلامية إنما هو

خسارة للعمل الإسلامي بعامة.

آن الأوان أن ندرك: أن القوة الحقيقية لنا إنما هي باتحادنا وتعاوننا على البر

والتقوى، والواجب علينا أن نتعالى على حظوظ النفوس وشهواتها، ونسمو فوق

الهموم الصغيرة والولاءات الحزبية الضعيفة.. وصدق المولى الحق: [وَلا

تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] [الأنفال: ٤٦] .

لقد علق المخلصون في أقطار الأرض آمالاً عريضة على الحركة الإسلامية

في الجزائر، ولا زالوا يتطلعون إلى آفاق رحبة، خاصة أن المعطيات والبيئة

الاجتماعية في الجزائر لا زالت خصبة واعدة بالمزيد من الخيرات، إن شاء الله

تعالى، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعين إخواننا للنهوض من كبوتهم ويسدد

خطاهم. وأن يحفظ الجزائر وأهلها الصالحين بالإسلام وأن يرد عنها كيد الأعداء

المتربصين.

وصلى الله على محمد وآله وسلم،،