للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حوار

مع فضيلة: د. عمر الأشقر

حول مسائل علمية ودعوية وفكرية ملحّة

تحرص مجلة البيان على استضافة العلماء والدعاة والمفكرين المسلمين على

صفحاتها للتعريف بهم، والاستفادة من علمهم، وليُبدوا آراءهم في كثير من القضايا

الشرعية والفكرية والعملية التي عادة ما تكون محل اهتمام كثير من القراء الكرام.

ولقد سعدنا بموافقة فضيلة الدكتور عمر الأشقر (حفظه الله) ، على الحوار مع

البيان بالرغم من مشاغله العلمية التي تأخذ حيزاً كبيراً من وقته، وكذلك ظروفه

الصحية مؤخراً عافاه الله ومتعه بالصحة والعافية.

وهو (وفقه الله) معروف على الساحة الإسلامية عالماً فقيهاً وداعية موفقاً له

جهود علمية متميزة في التأصيل الدعوي الشرعي وبخاصة في العقيدة.

ويسرنا أن يشاركنا القراء الكرام الجلوس مع فضيلته والاستئناس بعلمه،

والاستفادة من توجيهاته.

ولما كان الحوار طويلاً لشموله كثيراً من المسائل المتنوعة فقد اضطررنا

لنشره على حلقتين، هذه أولاهما.

-البيان-

س١: يعاني العالم الإسلامي من ضمور في الوعي، وفي الوقت نفسه:

تُخرج المطابع سيلاً من المطبوعات التي لا يستطيع المسلم المعاصر ملاحقتها: فما

تفسيركم لهذه الظاهرة؟ وما الواجب على المسلم حيال هذا الكم من المطبوعات،

إذا أخذنا في الاعتبار ضغوط الحياة اليومية؟

ج١: ضمور الوعي الذي يوصَفُ به العالم الإسلامي الآن ظاهرة بارزة،

ولكنه ليس وصفاً كلياً عاماً؛ ودليل صدق ذلك: وجود قطاع كبير من أهل العلم

وأصحاب التوجه السوي يمتاز بالوعي المستنير، والرأي الحصيف، والعمق في

التعلم والتعليم، وليس ذلك قصراً على الذين درسوا في مدارس العلم الشرعي، بل

رأينا كثيراً من أصحاب التخصصات العلمية نبغوا في العلوم الشرعية، ووعوا

أحوال أمتهم، وعرفوا داءَها وأدواءَها، ولكن هذا الصنف قليل بالنسبة لعموم

المثقفين في العالم الإسلامي، فبعض المثقفين رضعوا ثقافة الغرب وفكره، ووقفوا

في الصف المعادي للإسلام، وآخرون وقفوا بعيداً عن مجال الصراع كأن الأمر لا

يعنيهم، وبعض الذين وقفوا في الصف الموالي للإسلام لم يستوعبوا الإسلام فقهاً

وأهدافاً، ولم يعوا مقاصده وقواعده؛ ولذا: فإن السفين تضطرب بهم، ولا يقرّ لهم

قرار على حال.

إن إغراق كثير من المثقفين من الذين يُحسبون على الإسلام وأهله في

تحصيل متع الدنيا، وانشغال آخرين بالتافه من الأمور، وقضاءهم أوقاتاً طويلة

أمام التلفاز يضيع كثيراً من الأوقات؛ وبذا لا تجد المؤلفات النافعة التي تدفع بها

المطابع كل يوم طريقاً إلى أبواب هؤلاء، وإن وجدت الطريق إلى بيوتهم، فيكون

مصير كثير منها الرفوف، لتكون زينة تحلى بها البيوت.

وبعض الذين لهم نَهَمٌ بالعلم قد لا يحسنون الاختيار لما ينبغي أن يقرأ ويفقه،

فتجدهم يقضون أوقاتاً طويلة في قراءة كتب أقل ما فيها أنها تضيع الوقت، لا أعني

بذلك الغثاء من القصص والمسرحيات الهابطة، ولا الكتب التي كتبها أعداء الإسلام، بل أعني تلك الكتب التي تحسب على الإسلام، ولكنها تمثل انحرافاً فكرياً أو

عقدياً، وقد يكون كاتبها صاحب مقاصد خبيثة يدس السم في العسل.

لقد أدرك المنحرفون عن سواء الصراط أن بضاعتهم التي أضلوا بها أمتنا

دهراً طويلاً قد بارت؛ ولذلك دفعوا ببعض منهم إلى لُبْس ملابس أهل العلم

ومزاحمتهم في الندوات والمحاضرات والتأليف من وجهة النظر الإسلامية؛ ولكنهم

على الحقيقة لم يدخلوا في الصف الإسلامي، لأنهم ما زالوا واقعياً في زمرة أهل

النفاق الذين يمكرون بالإسلام، ولبعض هؤلاء المنافقين ألسنة طويلة، وأقلام ندية

طرية طراوة جلود الأفاعي، وقد زاحم هؤلاء أصحابَ الفكر السوي والمنهج

الأصيل، وأخرجوا سيولاً من المؤلفات، عملت عملها في حرف المسار السوي،

وأخذت تدمر العقول والنفوس، وبدأ بعض البسطاء يُخْدعون بطرح هؤلاء.

وبعض المثقفين الذين تسأل عنهم لم يحسنوا الاختيار؛ فتراهم يقرؤون ما لا

يحتاجون إليه، ويتركون النافع من العلوم التي يحتاجونها، وتحتاج إليها أسرهم

وأمتهم؛ ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يلاحق اليوم ما تدفع به المطابع من

الصحف والمجلات والمؤلفات في تخصصه الدقيق، فضلاً عن أن يلاحق قطاعاً

واسعاً كالعلوم الإسلامية أو الأدبية؛ ولذا فإن على المسلم أن يحسن الاختيار، وأن

يحدد المسار الذي يحتاج إليه، وأهم ذلك ما يفقه به دينه، وبخاصة علوم الإيمان

التي تقر العقيدة في النفوس، وتهدي القلوب، وتبعث على العمل الصالح،

والسلوك القويم، وتقيم الموازين والقيم وفق تعاليم الإسلام العظيم، ويأتي بعد ذلك

العلوم التي تعرّف المسلم بأمته وأحوالها، وما جرى عليها من خطوب، وما تعانيه

من أدواء، فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.

وأحب أن أبيّن أن قمة العلوم التي تأتي في المرتبة الأولى هي علوم القرآن

والسنة النبوية؛ فإنها تمثل الوحي الإلهي الذي جاءنا بالهدى والنور والحياة، وبهذا

الوحي أحيا الله نفوسنا وأمتنا، وأنقذنا من الظلمات إلى النور، والعلوم الخيرة هي

التي تدور في فلك القرآن والحديث.

س٢: المهتدي إلى طريق الله قد يصعب عليه أن يجد المؤسسة الدعوية التي

تتعهده بالتزكية والتعليم المطلوبين، وإن وجدها فهو يتحير في تعددها وتحزبها ...

فما الذي عليه حتى ينجو بدينه؟

ج٢: هذه القضية ليست قضية المهتدي، بل هي قضية أصحاب الخط

الأصيل؛ فالمهتدي سيتلقف أول من يدعوه إلى الإسلام، وسيظن أن الذي يُعرَض

عليه هو الإسلام، فإن كان الذي تلقفه صاحب كتاب وسنة وُفّق هذا المهتدي أيما

توفيق، وإلا فإن هدايته ناقصة؛ وهذا يوجب على أصحاب المنهج من أتباع أهل

السنة والجماعة الذين فقهوا هذا الدين على نهج الصحابة ومن تبعهم بإحسان أن

يكثفوا جهودهم للدعوة إلى الله، وإقامة مراكز الهداية والتوجيه في شتى بقاع

الأرض، وأن يتلقفوا الذين بدت عليهم علائم الاهتداء إلى طريق الله، وأن يربوهم

على الإيمان، ويقودوهم بالإسلام، ويزكّوا نفوسهم بمنهج الله، ويخلصوهم من

شوائب الشرك والذنوب والمعاصي، ويقيموهم على نهج العبودية الحقة لله رب

العالمين، وعليهم أن يربطوهم بالرباط الوثيق الذي يجعل الدينونة لله رب العالمين، لا أن يُربطوا بالأشخاص والتجمعات، حتى إذا انهارت هذه التجمعات

والأشخاص انهار البناء كله في نفوس هؤلاء. إن الارتباط ينبغي أن يكون بالله

الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا يحول ولا يزول ولا يموت، قبل أن يكون

بالأفراد الذين يزولون ويحولون ويموتون ويتغيرون.

فإذا كان هذا المهتدي في حيرة من أمره، وجاء شاكياً مما هو فيه من الحيرة

وتشابك الطرق، فعند ذلك يُعرض عليه الإسلام الحق، وبخاصة عقيدة الإسلام،

والأهداف الكبرى للإسلام التي تحدد له الوجهة والطريق، قبل أن تُعرض عليه

المشكلات الصغيرة. إن الهدف الكبير الذي يقصده الإسلام هو تكوين الإنسان

الصالح بتحقيق منهج العبودية الحقة لله رب العالمين، وبذلك يحقق الإنسان الغاية

من وجوده فوق ظهر هذه الأرض، [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ]

[الذاريات: ٥٦] .

إن الواجب على الدعاة في كل مكان ربط المهتدين بهذا الحق؛ فهو الذي

يحيي النفوس والقلوب، ويؤتي ثماره بغرس الطمأنينة بالحق الذي انتقل إليه

المهتدون، وحذار حذار من أن يكون الهمّ هو تكثير الأتباع، بدعوة المهتدين إلى

الانضواء تحت الرايات المرفوعة المختلفة؛ فيتمزق المهتدون ويتفرقون، وقد

يرتدّون على أعقابهم فيتحمل الدعاة المتنازعون وزر ردتهم، والله المستعان.

س٣: التمسك بالكتاب والسنة والسير وفق ما يدلان عليه: دعوى عريضة

يدعيها كل فصيل من أبناء الحركة الإسلامية، ثم تختلف بعد ذلك المشارب والأفهام

والتطبيقات.. فهل هناك أسس مشتركة ينبغي أن تجتمع عليها فصائل العمل

الإسلامي بحيث لا تتنافر في عملها الدعوي؟

ج٣: لا شك أنه يوجد تجمعات كثيرة تدعي الانضواء تحت راية الكتاب

والسنة، وعند التحقيق يتبين أن فئات كثيرة منها بعيدة عن هذه الدعوى، كما أن

أقواماً يدّعون أنهم مسلمون، والإسلام منهم براء.

إن القبول بالدين المنزل على عبد الله ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-

والعمل به يفرق أهل الإسلام عن أهل الكفر والشرك، فالذي يؤمن بالله وملائكته

وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى، ويقبل بالشريعة

المنزلة على عبد الله ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويتبرأ من الشرك

وأهله، هذا مسلم، فإن ادعى الإسلام والإيمانَ من لم يؤمن بأصول الإيمان، ولم

يتابع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويلتزم بشريعته فهو مدّعٍ للإيمان والإسلام؛

وإيمانُه مردود؛ كما يدعي ذلك بعض اليهود والنصارى وغيرهم ممن بقي على

عقيدته ودينه.

فمن قَبِلَ بالإيمان والإسلام، وعرف حدود الإسلام والإيمان، وتابع الصحابة

ومن اتبعهم بإحسان على طريقتهم، وكان الكتاب والسنة هو الحاكم عليه دون

غيرهما: فهذا هو السائر على الدرب القويم والصراط المستقيم.

وقد خالف أصحابَ هذا المنهج أقوامٌ أصّلوا أصولاً وقعّدوا قواعد مخالفة لما

كان عليه الصحابة، فهؤلاء وإن كان اسم الإسلام يجمعنا بهم، إلا أنهم انحرفوا في

مسارهم، وهذه هي الفرق الضالة من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم. وقد

أصّلت كل فرقة من هذه الفرق أصولاً خالفت بها ما كان عليه الصحابة ومن سار

على دربهم من بعدهم، الذين هم أهل السنة والجماعة، وقد وضع أهل السنة

والجماعة أصولاً عاصمة من الزيغ إلى طرق أهل الضلالة من هذه الفرق المنحرفة، وقد اجتهد أهل السنة في تحديد هذه الأصول وتفقيه طلبة العلم بها، حتى لا

ينحرف بهم المسار، وهذه الأصول منها العلمي في مجال العقيدة، ومنها العملي،

ومنها قواعد ضابطة للعلم والعمل، وقد حاول دعاة الفرق الضالة اختراق الحواجز

التي أقامها العلماء بدعوتهم إلى توحيد الأمة الإسلامية بعيداً عن الأصول الضابطة

التي وضعها علماء أهل السنة والجماعة، فأرادونا أن نتفق على الاسم العام الذي

يجمعنا بهم من غير أن يغيّروا ضلالهم، وتمادى بعض هؤلاء بادعاء أنهم سائرون

وفق منهج الصحابة، وأنهم سائرون على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-،

وإذا حققتَ في دعوتهم رأيت أن همهم هو تحطيم الحواجز التي أقامها أهل السنة

كي يبث هؤلاء دعوتهم وفكرهم؛ فهم يمكرون بأهل السنة بدعوات التقارب بينهم

وبين أهل السنة.

وعندما يأتي دعاة أهل السنة إلى مجامع الحوار يُمنَعون من الدعوة الواضحة

الصريحة التي تُظهِر الحق، وتكشف ظلمة الباطل؛ بحجة أن الصراحة تفرق ولا

تجمع، إذن: لماذا الاجتماع؟ وعلامَ يكون التقارب إن مُنِعْنا من إظهار الباطل

الذي تلبّس به هؤلاء؟ إن هذه الدعوات مدخولة مزيفة، وليس مثلها إلا تلك

الدعوات التي تدعو إلى التقارب بين الأديان.

أما الذين ليس لهم إلا صفة واحدة تجمعهم وهي استقامتهم على منهج الكتاب

والسنة وفق الأصول التي جاء بها هذا الدين، وفَقِهَها الرعيلُ الأول، فهؤلاء هم

أهل السنة والجماعة، ولا يزال هؤلاء هم السواد الأعظم في الأمة الإسلامية،

وهؤلاء فيهم العلماء والعوام، وعلماؤهم وعوامهم فيهم المستقيم والمنحرف،

والمنحرف قد يكون انحرافه بدعياً جزئياً أو عملياً بالذنوب والمعاصي كما قال تعالى: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ

وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخََيْرَاتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ] [فاطر: ٣٢] .

وقد يوجد في العلماء الذين ينضمون إلى هذا الصف من تلبّس بشيء من

باطل الفرق الأخرى؛ فالباطل قد يَرُوجُ شيء منه على كبار أهل العلم؛ ولكن

هؤلاء على الرغم من ذلك لا يرضون أن يكونوا على منهج مخالف لأهل السنة

والجماعة؛ فهؤلاء من أهل السنة، والباطل الذي تلبسوا به مردود عليهم، فلا

يخرجون من إطار أهل السنة بخطأ اجتهدوا فيه، ولا يُقَرّون على هذا الباطل الذي

راج عليهم.

والحركات التي تُنسب إلى الإسلام وتوصف بأنها حركات إسلامية منها ما هو

داخل في إطار أهل السنة والجماعة، ومنها ما هو في إطار الفرق المخالفة لأهل

السنة والجماعة؛ فالحركات التي في إطار أهل السنة والجماعة، هي التي نشأت

في ديارهم، وتدعو بدعوتهم، وليس لها إلا الكتاب والسنة، فلا تدعو إلى غيرهما، وتنادي بالعودة إلى الإسلام؛ فهذه من أهل السنة والجماعة، على تفاوت بينها في

فقه أصول أهل السنة والجماعة، وعلى تفاوت بينها في الفقه في كتاب الله (تعالى) ، وعلى تفاوت بينها في فقه الأصل الأصيل الذي قام عليه الدين وهو فقه الإيمان،

وتحقيق العبودية لله رب العالمين.

لقد أخطأ فريق عدّ هذه الجماعات فِرَقاً أراد من المسلمين أن يصارعوها

ويقاتلوها ويدمروها، وأحدثَ مثل هذا الموقف شرخاً كبيراً في حياة الأمة الإسلامية

في عصرنا الراهن، فزادنا هؤلاء غفر الله لهم خلافاً ونزاعاً وجدالاً، ولا يمنع هذا

الفهم للحركات الإسلامية المعاصرة في إطار أهل السنة من مناصحة القائمين عليها

وأتباعها، وبيان ما وجد عندها من قصور وخطأ؛ فالدين النصيحة.

وأمراض هذه الجماعات منها ما هو قديم وجد في عصور سابقة، ومنها ما

هو جديد؛ لأنه يتعلق بالدعوة إلى استئناف الحياة الإسلامية في ظل أوضاع بعيدة

عن الإسلام في كثير من ديار الإسلام، والحركة بالإسلام في ظل هذه الأوضاع

التي يعيشها العالم الإسلامي تحتاج إلى فقه للإسلام؛ فكثير من أوضاع المسلمين

اليوم تدخل في إطار النوازل المستجدة التي تحتاج إلى أن تُفْقَهَ في ظل نصوص

الشريعة وقواعدها ومقاصدها؛ والعلماءُ يختلفون في هذا المجال أيما اختلاف،

والاختلافُ في النوازل المستجدة يختلف فيه المجتهدون، ومثل هذا الاختلاف لا

يقطع ما بين العلماء من ود.

إن الذين جعلوا التجمعات الإسلامية فِرَقاً كالخوارج والمعتزلة لم يفقهوا المسألة

حق الفقه، ولم يتبين لهم الصواب في هذه المسألة، وإن كان كثير من أهل العلم

أصاب الحقيقة، وتبين له وجه الحق فيها، والله المستعان.

أما الحركات الإسلامية التي نشأت في رحم الفرق المخالفة لأهل السنة

والجماعة، فإنها تعد من تلك الفرق الضالة، كالجماعات التي نشأت في البلاد

الشيعية، ملتزمة بالأصول التي يقوم عليها مبدأ تلك الفرق من ضلال وانحراف.

وبناء على ما تقدم يظهر لك أن الاتفاق بين الجماعات التي تنسب إلى أهل

السنة والجماعة كبير والخلاف بينها قليل، بل إن الخلاف بينها سببه نشوء كل منها

في ديار بعينها، وعندما يلتقي قادة هذه الجماعات أو أتباعها فإنهم لا يجدون بينهم

اختلافاً كثيراً، بل إن كثيراً من اختلافهم اختلاف شكلي؛ ذلك أن كثيراً من هذه

التجمعات إنما قامت لتكون قوة تأخذ بيد الأمة الإسلامية وتنهض بها، ولم تتوجه

إلى بناء منهج عقدي أو فقهي، وأكثرها إنما يعرض منهجاً لإعادة مجد الإسلام

وتوحيد الأمة وإعادة الشريعة الإسلامية حاكمة للأمة الإسلامية.

وفي ظني أن أصحاب هذه التجمعات التي تدعى بالحركات الإسلامية قد

قصروا في حق أنفسهم؛ فالواجب عليهم أن يتوحدوا فيما بينهم، خاصة وأن

الأصول التي يقومون عليها أصول واحدة، فدعوتهم واحدة، وعقيدتهم واحدة،

ودينهم واحد، ورسولهم واحد، وكتابهم واحد، وكثير من الاختلاف الذي بينهم

شكلي، بل إن كثيراً منه قائم على سوء فهم، أو سوء ظن، أو أنه مفتعل.

وعلى فرض أن اجتماعهم في كيان واحد غير ممكن، فالواجب أن يكون

هناك منتديات ومنابر للحوار تجمع هؤلاء، يطرح فيها القضايا الأصول التي تثير

الخلاف، ومتى أدام القائمون على هذه الحركات الاجتماع والتباحث في ظلال

الأدب الإسلامي الذي يلتزم قول الحق بأدب الإسلام من غير تعصب ولا تحامل،

فإن عصراً جديداً سيفتح أمام دعاة الإسلام وأهل العلم، قد يثمر ثماراً طيبة،

ويحطم كثيراً من الظنون والأوهام الخاطئة التي يحملها بعض الدعاة تجاه الآخرين.

إن إحسان الظن بالآخرين وتلمس العذر لهم، ومحاجّتهم بالتي هي أحسن،

وتبصيرهم بالحق من منطلق الود والحب والإخاء والنصح والحكمة يقرّب بين دعاة

الإسلام والعاملين به والمتحركين به، وأنا أقول هذا من خلال تجربة شخصية، فأنا

حبي للإسلام، ودعوتي إلى الحق، وكل من بذل من نفسه وماله للإسلام ونصرته

فهو محل تقديري واحترامي، وله في نفسي إعزاز وإكرام، ولا يمنع ذلك كله من

النصح له من منطلق الحرص عليه، والإحسان له، من غير استعلاء ولا استكبار

ولا صلف، بل هي أخوة الإسلام ومودته، يجادل بالتي هي أحسن، ما دمنا نتفق

في المنهج والأصول، وتجمعنا دعوة أهل السنة والجماعة، وقد حمدت هذا

المسار، ورأيت ما فيه من خير، ولا يمنع ذلك من أن ينالك الأذى من الآخرين إن

كنت كما وصفت، ومع الأذى الصبر، وفق ما أرشد الله إليه في قوله: [وَالْعَصْرِ

(١) إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ

وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] [العصر: ١-٣] ومع الصبر والأذى يكون الغفران وعدم تتبع

سقطات الآخرين؛ فلقد كان الأسوة القدوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغفر

للذين أساؤوا إليه حتى من أهل النفاق والشقاق، وحسبك أنه (عليه الصلاة السلام)

صلى على رأس النفاق ابن أُبَيّ، وألبسه ثوبه، حتى نهاه الله عن الصلاة على مثله

والقيام على قبره.

س٤: ولكن قد ينظر كل فصيل إلى الآخر على أنه معوق لعمله، وأنه كي

يحدث التآلف يجب على الآخر الانضواء تحت لوائه!

ج٤: جواب هذا السؤال قد عُلِمَ أكثره من جواب السؤال السابق، فالجماعات

القائمة على أساس من منهج واحد: منهج أهل السنة والجماعة، التي ليس لها

أصول غير الكتاب والسنة، ينبغي أن تكون جماعة واحدة، فإن عسر عليها ذلك

فينبغي أن تتعاون فيما بينها، وأن تحكّم كل جماعة الإسلام في علاقاتها بالجماعات

الأخرى، فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ولا يغتابه، ولا يدل على

عوراته، وينصح له، ويدعو له بظهر الغيب، تسره أفراحه وتحزنه أتراحه،

الأفراد في ذلك والجماعات سواء، فإذا نظرت كل جماعة إلى الأخرى على أنها

معوقة لعملها، مضادة لها، فإن ذلك يحدث النزاع والشقاق من الجماعات، فتسعى

كل جماعة للمكر بالأخرى، والبحث عن عيوبها وأخطائها، فتوجه الجهود إلى غير

الهدف الذي يفرضه عليها دينها، وعند ذلك يكون الفشل [وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا

وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] [الأنفال: ٤٦] .

س٥: بعض المهتمين بشؤون الصحوة يعزو التفرق الحادث بين أفراد هذه

الصحوة إلى أنه ناتج عن أزمة أخلاق وليس عن أزمة فكر، فما مدى موافقتكم على

هذا الرأي؟

ليس هذا القول صحيحاً على إطلاقه؛ فأسباب التفرق والنزاع مختلفة متعددة، وواحد من هذه الأسباب مرده إلى عدم تمسك الفرقاء المتنازعين بأخلاق الإسلام،

وعدم أخذهم بما ألزمهم الله به تجاه إخوانهم في الإسلام؛ ومنهم الجماعات الإسلامية

الدائرة في فلك أهل السنة والجماعة كما سبق بيانه، وأزيد هنا: أن بعض قادة هذه

الجماعات قد يكون همه تأصيل الخلاف، حتى تمتاز جماعته عن غيرها بأصول

خاصة بها، ومحاولة إثارة الخلاف، كي يحافظ على أتباعه، ومن سار مساره،

وقد يدخل على بعضهم حب الرئاسة والهوى، بحيث يكيف النزاع على أنه نزاع

منهجي إسلامي، وهو في الواقع نزاع على المناصب والرئاسات، وبعضهم في

سبيل تكثيره الأتباع والأنصار يطيل في تزكية نفسه وجماعته وذم الآخرين من غير

بينة ولا استبصار، فيدعي في تزكية نفسه وجماعته ما ليس فيهم، ويرمي الآخرين

بما ليس فيهم؛ وكل ذلك داخل في الجانب الأخلاقي والأزمة الأخلاقية. ولكن

الخلاف والنزاع ليس قصراً على ما يقوله هؤلاء؛ فإن الجهل بشيء من الحق الذي

جاء به الإسلام قد يؤدي إلى ظلم الآخرين، وقد تناول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه

الله تعالى في حديثه عن صفة العبادات الظاهرة التي حصل فيها نزاع بين الأمة في

الرواية والرأي تناول أنواع الفساد الذي حصل بسبب ذلك، وهذه الأنواع تصلح

لأن تكون أسباباً للنزاع والخلاف الثائر بين الجماعات في هذه الأيام.

وفي ذلك يعدد رحمه الله تلك الأسباب قائلاً:

الأول: جهل كثير من الناس أو أكثرهم بالأمر المشروع المسنون الذي يحبه

الله ورسوله، والذي سنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته، والذي أمرهم

باتباعه.

الثاني: ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم لبعض، ونعيهم عليهم تارة

بنهيهم عما لم ينه الله عنه، وبغضهم على ما لم يبغضهم الله عليه، وتارة بترك ما

أوجب الله من حقوقهم وصلتهم لعدم موافقتهم لهم على الوجه الذي يؤثرونه حتى إنهم

يقدمون الموالاة والمحبة وإعطاء الأموال والولايات من يكون مؤخراً عند الله

ورسوله، ويتركون من يكون مقدماً عند الله ورسوله لذلك.

الثالث: اتباع الظن وما تهوى الأنفس حتى يصير كثير منهم متديناً باتباع

الأهواء في هذه الأمور المشروعة، وحتى يصير في كثير من المتفقهة والمتعبدة من

الأهواء من جنس ما في أهل الأهواء الخارجين عن السنة والجماعة كالخوارج

والروافض والمعتزلة، ونحوهم.

الرابع: التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف حتى يصير بعضهم

يبغض بعضاً ويعاديه، ويحب بعضاً ويواليه على غير ذات الله، وحتى يفضي

الأمر ببعضهم إلى الطعن واللعن والهمز واللمز، وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي

والسلاح، وببعضهم إلى الهجران والمقاطعة، حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض!

وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله.

والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله، قال (تعالى) : [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً

فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَاناً] [آل عمران: ١٠٣] وقال: [إنَّ الَذِينَ

فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ] [الأنعام: ١٥٩] .

النوع الخامس: ... شك كثير من الناس وطعنهم في كثير مما أهل السنة

والجماعة عليه متفقون، بل وفي بعضها ما عليه أهل الإسلام، بل وبعض ما عليه

سائر الملل متفقون، وذلك من جهة نقلهم وروايتهم تارة، ومن جهة تنازعهم ورأيهم

أخرى.

هذا الذي ذكره شيخ الإسلام ونقلته عنه بشيء من الاختصار يصلح لأن يكون

أسباباً لفرقة الجماعات فيما بينها على تفاوت بينها فيما تلبّست به.

وللحوار مع فضيلة الشيخ عمر بقية في العدد القادم إن شاء الله