للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

ماذا وراء الاستنساخ؟ !

(٢من٢)

خالد أبو الفتوح

استهل الكاتب الحلقة الأولى من المقال بإجابات عن عدة أسئلة طرحها في

بدايته: ما الاستنساخ؟ وماذا وراء الحملة المصاحبة له؟ وما أثر ردود الأفعال

التي تلت ذلك الإعلان؟ ثم صدر كلامه بشرح مفصل عن عملية التكاثر الجنسي

في الإنسان، ثم شرع في شرح ما حدث في عملية الاستنساخ، ثم استعرض تطور

المحاولات التجريبية القريبة من عملية استنساخ (دوللي) . ويواصل الكاتب بقية

الموضوع في هذه الحلقة.

- البيان -

ولكن هناك بعض المخاوف الحقيقية والآمال الواقعية التي قد تنشأ عن تقنية

الاستنساخ، فمن تلك المخاوف:

- القضاء على التوازن الفطري بين الكائنات، وقد أثبتت التجارب خطأ

العبث بهذا التوازن حتى في بعض حالات القضاء على كائنات ضارة لحساب

كائنات أخرى.

- إيقاف التطور الطبيعي في الكائنات الحية، هذا التطور الذي يحدث عن

طريق الطفرات الوراثية عبر الاختلافات التي تتوزع وتنعزل عن طريق الإنجاب

الطبيعي، ولكن الاستنساخ سيقف عند حدٍّ معين (يحدده القائمون عليه) ولا يتعداه.

- واستنساخ نسخ متطابقة ينطوي على خطر جعل الكائنات المتماثلة عرضة

لأمراض معدية واحدة أو لطفيلات قد تقضي مرة واحدة على جميع النسخ.

- ارتفاع النعرة العنصرية القومية والنبرة الجنسية النوعية: وذلك بمحاولة

أصحاب كل عنصر قومي استنساخ المزيد منهم (في حالة الوصول إلى استنساخ

البشر) والاستغناء عمن عداهم فضلاً عن محاولة القضاء عليهم، أما النبرة الجنسية

النوعية فقد عبرت عنها (عالمة) من العلماء بقولها: إنه لم تعد هناك حاجة لدور

ملح للرجل؛ فقد تبين علميّاً أن بإمكان أي امرأة أو حتى عذراء أن تنسخ طفلة منها

على نحو تكنولوجيا النعجة دوللي.. فإذا أضفنا إلى ذلك إمكانية نجاح تجارب

تجرى في بريطانيا لتحقيق فكرة الحمل خارج الرحم الذي قد يؤدي إلى استغناء

الشواذ عن دور المرأة.. لأدركنا أن الإنسان (المتحضر) يضع النوع البشري على

حافة التدمير.. فللعاقل أن يتخيل عالماً كله رجال أو عالماً كله نساء! ، ولنا أن

نتأمل: هل من حكمة الله أن جعل التكاثر والتناسل ناتجاً عن الشهوة البهيمية وليس

راجعاً إلى اختيار عقل الظلوم الجهول؟ .

- اختلال التنظيم الاجتماعي والأخلاقي: ففي عالم البشر المنسوخ لن يكون

هناك مجال للأمومة؛ لأنه ستحل محلها المؤسسات الحاضنة، كما سيصعد بقوة

الاتجاه الناشئ في الغرب حول الأسرة أحادية الأصل (أب فقط أو أم فقط) ، كما

ستنشأ مشاكل عديدة حول علاقة الطفل المستنسخ بمن حوله، فمثلاً إذا أرادت امرأة

متزوجة أن تستنسل نسخة منها، فهل ستكون هذه النسخة ابنة لها أم امتداداً لذاتها؟

فما علاقة زوج المرأة بهذه النسخة: هل سيعتبرها عندما تكبر امتداداً لزوجته

ويعاشرها كما يعاشر زوجته، أم سيكون في حكم المحَرْم لها؟ وما علاقة هذه

النسخة بأسرة المرأة؟ وإذا كبرت هذه الطفلة النسخة وأرادت حمل نسخة من توأمها

الذي فصل عنها وهي جنين، فهل ستعتبر أمّاً لأختها؟ ! بل ماذا لو أرادت هذه

النسخة أن تحمل نسخة أخرى من المرأة الأصل، فهل ستعتبر الطفلة المستنسخة

الجديدة أمّاً لها أم ابنة؟ ! ! .. أضف إلى ذلك: الصراع النفسي الرهيب لهذا

الطفل أو الطفلة المستنسخ عندما يجد نفسه في هذا المجتمع الممزق.. وهذا بالطبع

إذا تجنبنا الحديث عن المتاجرة بمثل هذا الطفل أو استعماله في استخدامات غير

أخلاقية أو غير إنسانية.

- ومن المخاوف أيضاً: إنتاج مسوخ وأجنة مشوهة أثناء تلك التجارب، فمن

يضمن ألا يؤدي هذا العبث بالخلية إلى مخلوقات غريبة ومشوهة؟ وهذا ما قد

يحدث بالفعل حالياً، ولكن يتم كتمانه، ولا يعلن عنه، ثم يكون مصير هذه المسوخ

سلة مهملات العلماء الذين لا يعبؤون بالأرواح.

ومن الآمال الواقعية:

- هذه التقنية تتيح للعلماء فرصة فهم طريقة عمل الجينات وكيفية تطورها

وتخصصها وتميزها ونشاطها في مرحلة التكوين الجنيني المختلفة.

- كما أن الاستنساخ يساعد على الوصول إلى فهم أدق للأمراض الوراثية

والتشوهات الجنينية، فعندما تجرى التجارب والاختبارات على حيوانات متميزة

وراثيّاً عن بعضها فالنتائج قد تأتي على أساس الاختلاف الوراثي للحيوانات وليس

على أساس ردود الفعل لما يتم اختباره، أما إذا حيّدنا هذا العامل وكانت الحيوانات

التي تجرى عليها التجارب نسخاً متطابقة فستصبح النتائج أكثر دقة، وينبني على

ذلك تحديد أفضل السبل لعلاج هذه الأمراض في الإنسان، إضافة إلى إنتاج عقاقير

دوائية باستخدام هذه التقنية.

- ومن الممكن استخدام هذه التقنية في الزراعة النسيجية أو في الإكثار

الحيواني من السلالات شديدة التميز، عن طريق إنتاج كميات كبيرة من هذه

السلالات المتميزة بلحومها وحليبها وصوفها بأسعار زهيدة، وهذا بالطبع إذا ثبت

أن هذه التطبيقات لا تؤثر بالسلب على الإنسان عند استهلاك منتجاتها، فلا بد من

دراسة الآثار بعيدة المدى لهذه التطبيقات.

كما يمكن بهذه التقنية الإكثار من الفصائل النادرة المهددة بالانقراض التي

تعاني صعوبة التكاثر الجنسي وقلة النسل.

- من الممكن أن يفتح الاستنساخ الباب أمام فهم حقائق الشيخوخة واكتشاف

الهفوات والأعطاب الوراثية البسيطة التي تتراكم مع تقدم الإنسان في السن فتظهر

عليه علامات الشيخوخة، وكذا فهم أدق لأمراض خطيرة، كالسرطان.

العلم في خدمة الشيطنة:

فكثيراً ما يظهر أنه ما تزال تقرع أذن ابن آدم العبارة التي ألقاها الشيطان إلى

أبي البشر: -[هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ] [طه: ١٢٠] ، وهنا تظهر رغبة

الإنسان في ذلك الخلد من خلال محاولته إيجاد امتداد لذاته عبر محاولة استنساخ

نفسه، ومن خلال محاولته القضاء على الشيخوخة التي يعتبرها مقدمات نهايته..

وبالطبع لا ضير من محاولة تحسين صحة الإنسان، ولكن لا يظهر أن الصحة فقط

هي التي تشغل ذهنه، بل أيضاً: الهرب من الموت أو البحث عن الخلود.

وأيضاً: من الممكن النظر إلى بعض تطبيقات هذه التقنيات على أنها تطوير

لمبدأ [وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ] [النساء: ١١٩] ، فلم ترد صيغة [وَلآمُرَنُّهُمْ] في القرآن إلا في هذا الموضع وموضع آخر قبله مباشرة يتعلق أيضاً بتغيير

الخِلقة [وَلآمُرَنُّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ] [النساء: ١١٩] ، وهي صيغة تحمل من

علامات التوكيد: لام التوكيد، ونون التوكيد المشددة، إضافة إلى الفعل المضارع

(آمر) الذي هو أوكد درجات الطلب.. وكل ذلك يدل على مدى الإصرار الشيطاني

في تغيير الخِلقة.. وإذا كانت الاستجابة لهذا الأمر من بعض بني آدم بدأت بصور

بسيطة كقطع الأذن والأنف والأطراف، وكالإخصاء والوشم وتفليج الأسنان

والنمص ... فإنها تتطور اليوم وتأخذ بعداً جديداً معقداً يتناسب مع تقدم العلم! الذي

يحاول أن ينتج الآن نعجة آدمية! ! وغيرها من تجارب العبث العلمي التي تحاول

(إنتاج حيوانات لها بعض الصفات التي تنتمي إلى حيوانات أخرى، أو حتى

صفات إنسانية، ولقد تمكنا بهذه الوسيلة من إنتاج فئران معدلة وراثيّاً، كذلك

الخراف، وحيوانات أخرى) بنص كلام الدكتور (هاري جريفن) [١] .

ومن أجلّ الخدمات التي تقدمها التقنية الجديدة للشيطنة: محاولة تعويض

النقص الحادث نتيجة تدمير الأسرة وتزيين قيام (أسرة) الشواذ، فالشيطان الذي

يعمل دوماً على هدم كيان اللبنة الأساس للمجتمع الإنساني قطع أشواطاً في تحقيق

هذا الهدف في الغرب، فترنحت الأسرة الطبيعية وتفككت، وظهرت الأسرة أحادية

الأصل وأسر الشواذ (رجل ورجل أو امرأة وامرأة) .. والآن يمكِّن العلم هؤلاء من

التمتع بشطر زينة الحياة الدنيا (البنون) مع الإبقاء على شذوذهم الجنسي

والاجتماعي.

إلى أين تأخذنا الحضارة الغربية؟ :

تجنح الحضارة الغربية إلى الفردية والذاتية بمنهج أعمى، فمن الملاجئ

والمحاضن التي يلقى فيها الأطفال، إلى دور المسنين التي يلقى فيها الشيوخ الذين

تقطعت بهم سبل الحياة، وعبر الاهتمام بتحقيق أقصى درجات اللذة والمتعة الحسية

مهما كان ثمنها، وبواسطة الاستغلال السيئ للتقنيات الحديثة (الكمبيوتر

الإنترنت..) التي تستغرق هذا الفرد وتعزله داخل ذاته بدون الحاجة إلى أسرة.. نجد هذا الإنسان الذي يصفونه بأنه حيوان اجتماعي يقترب من الحيوانية بقدر ابتعاده عن الاجتماعية، وفي هذا المناخ يكون الحديث عن فرد مستنسخ يعيش منقطعاً عن المجتمع أمراً مطروحاً عندهم.

والحضارة الغربية هي التي رفعت راية التشكيك في أصل الإنسان، رفعتها

عندما لوحت تحت ستار العلم أيضاً بنظرية داروين حول نشأة الإنسان الأولى،

ويريد المغرضون الآن من خلال النعجة (دوللي) التشكيك في نشأته الثانية.

والحضارة الغربية قامت على فكرة الصراع بين الإنسان والطبيعة (وليس

الانسجام بينهما) ، وعلى توهم أنهم في تخريبهم للتوازن الفطري في الأرض إنما

يعيدون ترتيب الطبيعة لإصلاحها والاستفادة منها، بينما الشواهد تشير إلى أن ما

يحدث هو أكبر إفساد في الأرض بيد الإنسان.

والحضارة الغربية عندما فصلت الدين عن كل شيء والعلم من ذلك جعلت

الأخلاق تابعة للعلم، فأصبحت التجارب تسير بغير هدى، وفُقدت الثقة في هدف

هذه التجارب ومآلها؛ فليست المتاجرة بالآمال وتحقيق النزوات والتكسب من

الممارسات غير الأخلاقية ببعيد عن الاستنساخ، ولا توجد ضمانة واحدة لعدم

استخدام مثل هذه التجارب لتحقيق تلك الأغراض، كما لا نستطيع الثقة بالوعود

الأخلاقية لمثل هؤلاء العلماء؛ فالدكتور (ويلموت) الذي صرح لجريدة (الجارديان)

البريطانية عند سؤاله عن الفترة الزمنية المتوقعة لاستنساخ الإنسان.. بأنه يأمل ألا

يحصل ذلك أبداً، ولا يوجد سبب مقنع لذلك.. هو نفسه الذي نفى قبل عام شروعه

في أبحاث الاستنساخ؛ فقد سأله مراسل مجلة (الشبيجل) الألمانية: ولكنكم يا سيدي

أعلنتم قبل سنة من الآن أنكم أقسمتم بالأيمان المغلظة أنكم لم ولن تمضوا في رحلة

الاستنساخ التي نراها قد ولدت أمام أعيننا! ! .. فأجابه الدكتور (ويلموت) : هذا

صحيح، ولكننا أردنا بذلك صرف نظر الآخرين، حتى لا ندخل معهم في ماراثون

بيولوجي، فأنجزناه بكثير من الهدوء والدقة والنضج والنجاح، ألا ترى أننا كنا

محقين بذلك؟ ! [٢] فإلى أين تأخذنا حضارة المعامل الغربية؟ ! .

العلم الإنساني بين النسبية والتقديس:

هناك من يريدون منا التسليم لكل ما يخرج من المعامل والمختبرات والسير

خلفه على أنه (سائبة) لا ينبغي التعرض لها ولا توجيهها ولا لومها، وهذا ما يلحّ

عليه مراراً الدكتور (خالص جلبي) ، حيث يكرر على سبيل المثال النص التالي في

حلقتين متتابعتين (٢ ٣) حول الاستنساخ [٣] : (لا حدود للبحث العلمي، ولا يمكن

محاصرته؛ فطبيعته تقدمية، ولا خوف من التفكير! ، لأن أعظم ما في الإنسان

جهاز التفكير، فالتفكير قاعدة الإيمان وأداته المعرفية، لشق الطريق إلى فضاءات

معرفية لا نهائية، ولكن الخوف كل الخوف من إغلاق العقل، ومصادرة الفكر،

وممارسة الإرهاب عليه، ولا حاجة لإعلان الوصاية الأخلاقية على العلم، فهو

يمشي بقوته الأخلاقية الذاتية، فيحور ويحرر الإنسان والعالم..) .

وإرهاب الدكتور (خالص) للمخالفين له بعبارة (.. ومصادرة الفكر،

وممارسة الإرهاب عليه..) لن يمنعنا من مناقشة كلامه؛ فأي فكر يقصد الدكتور

(خالص) أن لا خوف منه، ويخاف من مصادرته؟ هل هو مطلق التفكير أم أن

لذلك حدوداً؟ أليست الوجودية والشيوعية والصهيونية فكراً؟ بل أليس للإرهاب

فكر؟ ! وما معنى (لا حدود للبحث العلمي) ؟ ! .. إن الغرب عندما فصل الدين عن

كل شيء كان مما فصله عنه: العلم، فأصبح (لا حاجة لإعلان الوصاية الأخلاقية

على العلم) ! ..

إننا بوصفنا مسلمين نؤمن أن دين الله يهمين على كل شيء في الحياة ويوجهه

[قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] [الأنعام: ١٦٢] ،

[وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] [الذاريات: ٥٦] ، ونؤمن أن الشرع

الصحيح يوافق دوماً العقل الصريح.. ولكن ما هو الموقف إذا تناقض الشرع

(الصحيح) مع ما يُظن أنه عقل صريح؟ .. إن غير المسلم لا يعبأ بما ورد في

الشرع؛ لأنه غير مؤمن به أصلاً، أما المسلم فإنه يثق في كلام الله المنزل بعلمه

ولا يمضي خلف ما يظنه الظانون علماً ولو كان خارجاً من معامل التجارب، فعندما

نعلم مثلاً من كلام الله (جل وعلا) عن أصل الإنسان: [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن

سُلالَةٍ مِّن طِينٍ] [المؤمنون: ١٢] ، [وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن

صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ] [الحجر: ٢٨] .. إلى غير ذلك من الآيات الصريحة،

ثم تأتي نظرية داروين التي يعوزها البرهان العلمي الدقيق، والتي طالما نوّه

الدكتور (خالص) بمضمونها وبصاحبها لتقول لنا إن الإنسان ناسئ عن تطور

مخلوقات أخرى وارتقائها.. فإن موقف المسلم هو إهدار تلك النظرية وتكذيبها بلا

تردد ولا وجل من وصم دعاة تقديس العلم له بالتحجر والتخلف ومصادرة الفكر،

معلناً [قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ] [يونس: ١٨]

وهذا يدعونا إلى إلقاء نظرة حول حقيقة مسيرة الإنسان العلمية التي يسعى

فيها لتحقيق ما يراه مصلحته ورفاهته؛ فالإنسان في لهثه العلمي إنما هو في سباق

لاكتشاف جهله: جهله بعالم المجهول (مجهول الزمان والمكان والكم والكيف) الذي

يطرقه فتنكشف له حقائق كانت حاضرة ولا يشاهدها..، وجهله الذي يراه عندما

يكتشف مخاطر ومضاعفات وخطأ ما ظنه سابقاً إنجازات علمية هائلة، والتي كانت

غائبة عنه حينما [ظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا] [يونس: ٢٤] ، يحاول الإنسان

اختراق هذا المجهول عن طريق التجربة الحسية، والحفريات والتوثيق، والتأمل

والتحليل، والاستقراء والإحصاء، وأحياناً عن طريق الحدس والتوهم.. والمسلم

يستفيد بما صلح من ذلك كله إضافة إلى وسيلة لا ينتفع بها غيره، ألا وهي العلم

بالغيب الذي يخبره به الرسول..

فإذا كان الأمر كذلك فإن المسلم لا يحجر على العلم الإنساني ولكنه لا ينساق

خلفه انسياقاً أعمى، بل يضعه في موضعه الصحيح: أن نسبته مهما بلغ إلى علم

الله: [وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً] [الإسراء: ٨٥] ، [وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ

عِلْمِهِ إلاَّ بِمَا شَاءَ] [البقرة: ٢٥٥] ، [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ] [البقرة: ٢٣٢] ، وأن مصدر هذا العلم في النهاية من الله: [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ] [البقرة: ٢٨٢] ، [وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ] [البقرة: ١٥١] ، [عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] [العلق: ٥] .. ويبقى العلم الحقيقي الشامل الذي لا يُنقض ولا تشوبه آفة الجهل السابق أو الآني أو اللاحق.. هو علم الله: [ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أََنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأََرْضِ وَأََنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] [المائدة: ٩٧] ،

[عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ... ] [المؤمنون: ٩٢] ، [يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ] ...

[البقرة: ٢٥٥] ، [وَمَا يَعْلَمُ تَاًوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ] [آل عمران: ٧] ، ولكن الإنسان

عندما يغفل عن حقيقة علمه فإنه يمضي بطراً ببعض إنجازاته التي يظن أنها لا

يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ينظر إلى مسيرته الماضية فيراها

ظلمات وجهالات، يتعجب من جهل من سبقوه وينتشي بما وصل إليه من هذه

الإنجازات، ثم يأتي مَن بعده ويتقدم قليلاً في طريق محو الجهل، فيحقق إنجازات

أخرى تبطل الإنجازات السابقة التي ينظر إليها من جديد فيراها ضرباً من العبث!.. وهكذا دواليك تسير مسيرة التقدم الإنساني.. فإذا تناولنا أبسط الأمثلة ممثلاً في

الطعام الذي يطعمه الإنسان المعاصر نجد أن اكتشاف المبيدات الحشرية الكيماوية

في الزراعة والمواد الحافظة في صناعة الطعام المعلب كان إنجازاً مهمّاً.. والآن

يُنظر إليها على أنها سموم تسري في جسد الإنسان عبر الطعام.. ومؤخراً أعلن

علماء بريطانيون أنهم يخشون من أن العسل المصنع من تطوير لقاحات نباتية

جديدة عن طريق الهندسة الوراثية قد يشكل خطراً على صحة الإنسان [٤] .. وفي

السابق كان اكتشاف معدن الألومنيوم وتطويعه في صناعات شتى ومنها أواني

الطعام يعد إنجازاً مهمّاً، وبعد ذلك اكتشفوا دلائل على خطورة طهو الطعام في

الأواني الألمونية؛ لدخول ذراتها الصغيرة في جسم الإنسان مختلطة بالطعام مما

ينتج عنه مشكلة التسمم الألموني.. وجنون البقر البريطاني ثبت أنه نتيجة تلاعب

العلماء بفطرة الحيوانات النباتية، حيث دأبوا منذ أكثر من ٧٠ عاماً على إطعام

حيوانات التسمين النباتية أعلافاً تحتوي على بقايا فضلات حيوانات أخرى ميتة؛

رغبة في الربح السريع.. وثقب الأوزون المزعوم الذي يهدد الأرض ومن عليها،

هل كان إلا نتيجة مخلفات بعض المبتكرات الصناعية المتقدمة ... وليس ببعيد عن

موضوعنا الأدوية ذات الآثار الجانبية التي قد يؤدي بعضها إلى السرطان (عافانا

الله وإياكم) ، وتكنولوجيا صناعة السلاح والمخدرات.

وحتى ولادة (دوللي) ما هي إلا إحدى تغيرات المفاهيم في علم البيولوجيا الذي

شهد فيما لا يزيد عن القرن تغييرات متسارعة، يخطئ اللاحق فيها السابق أو يزيل

عنه جهالته.

ويمكننا تلخيص المقصود فيما سبق بما قاله (تاوته تشنج) : (إن إنجازات

الإنسان التكنولوجية والتنظيمية إنما هي شَرَك لاصطياده) ، ويعبر عن ذلك أيضاً

(مارك أوزيون) بقوله: (حالما ينطلق التقدم فلن يوقفه أحد، وهذا التقدم ذو الأوجه

المتعددة لا يكف بالوقت نفسه عن تعقيد الحياة) [٥] .

وبالطبع فليس المقصد من عرض ما سبق إيقاف عجلة التقدم والبحث ولا

الرجوع بها إلى الوراء، ولكن المقصد: أن يوضع علم الإنسان في موقعه؛ حتى

لا نرى ذا العقل الرشيد منبهراً بالأحداث الجزئية التي قد تُنْقَض بعد حين.. وأن

يخرج الإنسان من حالة [فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ العِلْمِ] (غافر: ٨٣) التي تقود إلى

حالة [وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا] [يونس: ٢٤] التي تكون عاقبتها [أَتَاهَا

أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ] [يونس: ٢٤] ..

عندما يأتي الدجال (أعاذنا الله من فتنته) يكون معه ماء ونار، وقد أمرنا

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نكذب حواسنا ونلقي بأنفسنا في النار؛ فإنها

ماء بارد.. أما الذي يقدم بين يدي العلم النبوي فإنه يتبع الدجال ويلقي نفسه في

النار يظنها الماء الزلال..!

موقف علماء الشريعة:

تباينت مواقف علماء الشريعة من الاستنساخ تبايناً قد يعبر عن واقع الأمة؛

فهناك طائفة تحدثت بتوازن وهدوء بعد أن استوعبت ما وصلها من معلومات حول

هذا الموضوع، وطائفة أخرى توقفت عن الحديث في الموضوع من أصله إلى أن

تتضح الأمور..

ولكن هناك طائفة أخرى ليست قليلة تسرعت في الحديث حول الموضوع

بغير رويّة ولا دراسة، وجاءت ردود أفعال بعضهم مشوبة بشيء من الانفعال،

معلنة أن الناس تكاثروا على وجه الأرض حتى كادت تضيق الأرض بأهلها، وأننا

لسنا في حاجة إلى مثل تلك التجارب! ! ، وأن من يقومون بهذه التجارب إنما

يفعلون ذلك للتسلية! ! .. إلى غير ذلك من الأقوال والاستدلالات التي لم يقف

فهمي القاصر على وجه دلالتها في الموضوع، مثل قوله (تعالى) : -[وَالْبَلَدُ

الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاَّ نَكِداً] [الأعراف: ٥٨] ،

وما روي عن عمر (رضي الله عنه) أنه قال: (المرأة الحمقاء لاتلد إلا أحمق) ! !.. متخيلين أنهم بذلك يدفعون عن حمى العقيدة من يحاول استلاب صفة الخلق من

الله! ! .

ولكن ما يعنينا هنا هو النظر إلى طريقة المعالجة:

فتسرع العلماء بالرفض أو القبول يذكرنا بموقف آخرين عندما ظهرت تجربة

طفل الأنابيب، ثم بعدما اتضحت الأمور واستقرت هدأت الاجتهادات أو كادت.

كما إن الانفعال في الرفض غير المبرر أو القبول غير المقنع يحمل في طياته

علامات الانهزام النفسي والحضاري:

يظهر هذا الانهزام في مجرد المقارنة بين الله (جلا وعلا) وأحد خلقه في أمرٍ

لم يدّعِ أحد من المشركين القيام به ولا إسناده إلى شركائهم، وحتى أصحاب (دوللي)

لم يدعوا خلقها، فهذه المقارنة تنزل من قدر الله (جلا وعلا) بقدر ما ترفع من قدر

المخلوق، حتى وإن انتصر في النهاية لله (عز وجل) ، وفي مثل هذه المقارنة يقول

الشاعر:

ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

وقال آخر:

إذا أنت فضلت ام رءاً ذا براعة ... على ناقص كان المديح من النقص

ويظهر أيضاً في الرفض المطلق ومحاولة إغلاق باب الحوار حول

الموضوع، فهذا المسلك يشي بأن الرافض يخشى مناقشة الموضوع نتيجة ضعفه،

وأنه يخفي عورة منهجه بدفن رأسه في الرمال.

كما يظهر أيضاً في القبول غير الحذر المصحوب بتعليق لافتة (الإسلام دين

العلم والتطور) .. وهو بالطبع كذلك، ولكن بعض المتحدثين يتحدث وكأنه تسيطر

عليه عقدة اضطهاد الكنيسة لجاليليو، وهذا هو المسلك نفسه الذي يتبعه بعضهم عند

الحديث عن سماحة الشريعة وعدالتها وإنصافها للمرأة، ثم محاولة إظهار توافقها مع

أصول القوانين الغربية، أو تلفيق الشورى مع الديمقراطية والعدالة الإسلامية مع

الاشتراكية ...

وأخيراً يظهر في محاولة الاختباء خلف بابا الكاثوليك وكلينتون والمؤسسات

الغربية، وإبراز أن المسلمين ليسوا وحدهم الذين يحذرون من الاستنساخ، كقول

أحدهم: (والعالم الغربي حرم هذا تحريماً قاطعاً، ونحن أولى بالتحريم) ، وقول

الآخر: (إنه من حسن الطالع! أن الذين لا يدينون بالإسلام لا يتفقون مع

الاستنساخ الجيني بشكل عام فضلاً عن الاستنساخ الجيني للبشر) .. فكأن ليس

لعلماء المسلمين الأهلية وحدهم أن يقولوا رأيهم ويعلنوه لو كان مخالفاً للآخرين.


(١) حديث مع جريدة (الشرق الأوسط) ، ع/٦٧٥٧، ٢٩/٥/١٩٩٧م.
(٢) د خالص جلبي، جريدة الرياض، ع/١٠٥١٧.
(٣) السابق، ع/١٠٥١٠، ١٠٥١٧، وقد ذكر المعنى نفسه في الحلقة الأولى (ع/١٠٥٠٣) أيضاً.
(٤) صحيفة (الشرق الأوسط) ع/٦٧٤٧ ١٩/٥/١٩٩٧م، نقلاً عن (الصنداي تلجراف) الأسبوعية البريطانية.
(٥) عن مقال (انحرافات الثقافة العلمية) ، د نزار العان، مجلة علوم وتكنولوجيا الكويتية،
ع/٤١ مارس ١٩٩٧م.