للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

الحروب الصليبية لم تنته بعد! !

أسبانيا تحتفل بمرور ٥٠٠ عام

على احتلال مدينتي سبتة ومليلة

بقلم: كمال السعيد حبيب

لا نريد القول إن حرباً صليبية جديدة قد شنتها أسبانيا ضد مدينتي (سبتة)

و (مليلة) المغربيتين؛ لأن الحروب الصليبية لا تزال مستمرة ولم تنته بعدُ، ورغم

أن حكم الجنرال (فرانكو) الديكتاتوري انتهى منذ ٢٢ عاماً وجاءت الديموقراطية

إلى أسبانيا؛ إلا أن الثقافة والعقلية الأسبانية تتغلغل داخلها الروح الصليبية؛ إنها

ليست مسألة تغير أنظمة حكم؛ لكنها استمرار لثقافة عنصرية يحكمها بعمق الطابع

الصليبي الذي كان متحكماً بالروح الأسبانية في صراعها مع الوجود الإسلامي الذي

استمر ٨٠٠ عام في أسبانيا في العصور الوسطى وبدايات العصر الحديث.

لا تخلو الروح الصليبية من نزوع عنصري يفرض التحيز وقلب الحقائق؛

فتحت شعار: (تلاقي الحضارات) تمّ لأول مرة الاحتفال الأسباني في مدينتي

(سبتة) و (مليلة) العربيتين بذكرى احتلالهما، ورصدت السلطات الأسبانية

للاحتفالات أربعة مليارات (بزيتا) العملة الأسبانية وبدأ الإعداد للاحتفال بالاحتلال

الأسباني للمدينتين مع مطلع هذا العام؛ حيث جرت ثلاثون تظاهرة تضمنت

مؤتمرات وحفلات غنائية ومعارض بلغت قمتها بالاحتفال الكبير الذي تم يوم ١٧

سبتمبر الماضي؛ ففي يوم ١٧ سبتمبر (١٤٩٧م) أي منذ خمسة قرون نزل

الأسطول الحربي الأسباني بقيادة القبطان (بيدرو اتسيوا بينيان) ليحتل الشاطئ

المغربي الإسلامي؛ حيث تقبع المدينتان.

والحضارات التي تريد أسبانيا لها أن تتلاقى على الأرض المغربية المحتلة

ليس بينها الحضارة العربية الإسلامية؛ فالاحتفال تحت عنوان: (تلاقي

الحضارات) استبعد اللغة العربية أن تكون إحدى لغات الحفل، وأحل محلها

(الأمازيغية) لغة البربر التي جرى بها الاحتفال هي والأسبانية والعبرية أي أن

تلاقي الحضارات الذي يعزز روح التسامح هو نفي لأهل البلد الأصليين العرب

وتكريس للاغتصاب والاحتلال الذي مضت عليه خمسة قرون كاملة فالتلاقي

الحضاري من المنظور الغربي الصليبي يعني الاستبعاد للآخر وسحق هويته

ووجوده. والمثير أن (أسبانيا) ذاتها التي تكرس احتلالها الأثيم لمدينتين إسلاميتين

تطالب (بريطانيا) أن تمنحها صخرة جبل طارق باعتبارها أرضاً أسبانية، والأكثر

إثارة أن استطلاعاً للرأي جرى بين الأسبان منذ سنوات جاءت نتائجه لتؤكد أن ٤٢ % من الأسبان يؤيدون استعمال القوة للحفاظ على المدينتين المغربيتين بينما ٣٧%

يرون ذلك بالنسبة (لجبل طارق) أي أنهم وطنيون بالنسبة لأرض يغتصبونها من

الغير أكثر منهم بالنسبة لأرض لهم يحتلها الغير!

سبتة ومليلة:

تقع مدينة (مليلة) شرق المملكة المغربية على ساحل البحر المتوسط الجنوبي

على بعد ١٠كم من مدينة (الناضور) أكبر مدن الريف المغربي، ومساحتها ١٢ كيلو

متراً مربعاً وساحلها طوله ١٠كم، ولها سور محيط بها له سبعة أبواب، وبنى

الأسبان سوراً ثانياً حول المدينة لمواجهة حملات الجهاد المغربي لاستعادتها؛

وأشهر هذه الحملات تلك التي قادها: (محمد عبد الكريم الخطابي) الذي أنزل

بالأسبان هزيمة ساحقة في معركة (أنوال) سنة ١٩٢٧م وكادت (مليلة) أن تعود إلى

المغرب لولا خشية الأمير (محمد عبد الكريم الخطابي) على أرواح الناس بها. وفي

سنة ١٩٠٩م قمعت السلطات الأسبانية ثورة قام بها السكان ضد شركة مناجم الريف

الأسبانية لمحاولتها اغتصاب أراضيهم لإقامة منشآت عليها. و (مليلة) هي المنفذ

الشرقي الوحيد للمغرب على البحر؛ ولذا فهي مرفأ لهم من الناحيتين الاقتصادية

والعسكرية، ويبلغ عدد سكان المدينة ٩٠ ألفاً من الأسبان والمسلمين والغربيين

واليهود، ولا يمثل المسلمون الأغلبية في (مليلة) إذ إن نسبتهم لا تزيد عن ٤٥%،

وانقلبت الموازين الديموّرافية في المدينة لصالح الكاثوليك عن طريق هجرة

العاطلين والمجرمين من أسبانيا إليها.

أما مدينة (سبتة) فمساحتها أكبر من (مليلة) وتبلغ ١٩ كيلو متراً مربعاً،

وتمثل أهمية استراتيجية؛ لأنها أقرب ميناء أفريقي لأوروبا، والمسلمون فيها

أغلبية؛ إذ يمثلون ٧٠% من مجمل عدد السكان الذي يصل لحوالي ٧٠ ألف نسمة، وتمثل أهم موقع للقواعد العسكرية الأسبانية على البحر المتوسط، ويعسكر فيها

حوالي ١٥ ألف جندي أسباني.

إن المدينتين المغربيتين المحتلتين من أسبانيا جرى احتلالها كعقاب لهما

باعتبارهما من المنظور الصليبي الأسباني كانتا رديفين لحركة الجهاد الإسلامي في

العصور الوسطى لحماية الوجود الإسلامي بالأندلس وأسبانيا، وبينما يحتفل العالم

كله بتصفية الجيوب الاستعمارية مثل (هونج كونج) و (مكاو) فإن القوى

الاستعمارية الغربية تتمسك بقوة بالأراضي المغتصبة في العالم الإسلامي؛

و (فلسطينُ) و (سبتة) و (مليلة) خيرُ شاهد على ذلك، ولا يمكن فهم ذلك بعيداً عن المنظور الثقافي الحضاري حيث يرى الغرب نفسه محكوماً في علاقته بالعالم الإسلامي بعقدة الثأر والانتقام وسيادة عقلية العصور الوسطى العميقة التي تستهدف إبادة الآخر ونفيه.

أسبنة سبتة ومليلة:

تهدف أسبانيا إلى نزع الصفة العربية والإسلامية عن المدينتين، وفرض

(الأسبنة) عليهما عبر مجموعة من الإجراءات:

١- اعتبار كل من لم يتجنس بالجنسية الأسبانية من سكان المدينتين أجنبياً؛

ولذا فإن (المغاربة) الذين يتمسكون بهويتهم يصبحون أجانب في بلدهم؛ ويسمى هذا

القانون: (قانون الأجانب) وصدر عام ١٩٨٥م.

٢- تمت الموافقة مؤخراً على منح المدينتين الحكم الذاتي؛ بحيث يتم اختيار

ممثلين من العرب والأسبان في المجالس المحلية، ومن ثم فقد اعتبر الساسة

الأسبان المدينتين جزءاً من أسبانيا؛ وحين يصفهما ساسة المغرب بأنهما محتلتين

فإن ثائرة الساسة الأسبان تفور ويعلنون أن هذا كلام غير صحيح.

٣- تمارس أسبانيا بشكل دائم سياسات (التطهير العرقي والعنصري) فهي

دائماً تطرد العائلات المغربية من المدينتين بحجة عدم الإقامة الشرعية؛ وفي عام

١٩٧٥م طردت ٢٠٠ عائلة مغربية من مدينة (مليلة) ، وتفرض السلطات المحتلة

في (سبتة) و (مليلة) على المغاربة قيوداً في التجارة والعمل والملكية والتعليم

والعبادة، فلا يوجد بـ (سبتة) إلا ثلاثة مساجد في وضع سيئ للغاية، وتلتزم

المدارس في التعليم باللغة الأسبانية، وترفض أسبانيا دمج التعليم الإسلامي بالمناهج

الدراسية للطلبة المغاربة المسلمين. ورغم أن نحو ٥٠% من أطفال المدارس في

المدينتين من المسلمين إلا أنه لا يصل منهم إلى الجامعة إلا ٢٠ طالباً فقط، ولا

يكمل دراسته منهم إلا قلة لا تزيد على أصابع اليد الواحدة.

٤- تريد أسبانيا أن تجعل من المدينتين الحدود الجنوبية لحلف الأطلنطي؛

وذلك حتى تجعل من الحلف أداة لها في صراعها مع المغرب حول المدينتين وفي

نفس الوقت منح الحلف المدينتين كقواعد عسكرية على الشاطئ الجنوبي للمتوسط؛

حيث تسهل عليه مهامه في منطقة المغرب العربي التي تمثل خطراً على أوروبا من

منظور الحلف.

٥- تشجيع السلطات الأسبانية لأن تكون المدينتان مركزاً لتهريب البضائع؛

حيث يؤثر ذلك بقوة على الاقتصاد المغربي الذي لا يمكنه المنافسة إزاء البضائع

المهربة، ويعمل في التهريب حوالي ١٦ ألف عامل مغربي، وهو ما يكشف عن

حجم الأموال المتداولة في هذه السوق التي يمكن أن نقول إنها سوق موازية للسوق

المغربية وخطرٌ عليها، وتريد أسبانيا من المغرب أن تكون حامية فقط لبوابتها

الجنوبية دون مطالبة بالمدينتين.

موقف المغرب:

يتسم الموقف المغربي الرسمي بانتهاج الدبلوماسية الهادئة لاستعادة المدينتين،

ويربط بين عودة (جبل طارق) لأسبانيا وعودة المدينتين للمغرب، ودعا إلى إنشاء

(خلية للتفكير) حول مستقبل المدينتين؛ لكن أسبانيا لم تتجاوب مع دعوة المغرب،

وفي الاجتماع الأخير للجمعية العامة للأمم المتحدة ألقى (عبد اللطيف الفيلالي) وزير

خارجية المغرب خطاباً قال فيه: (لعل أهم إنجاز حققته الأسرة الدولية خلال القرن

الذي نودعه هو (نهاية الاستعمار) فقد شهد العالم في الأشهر الأخيرة عودة (هونج

كونج) إلى الصين، والإعداد لعودة (ماكاو) إليها عام ١٩٩٩م، والمنطق يفرض

ضرورة تصفية ما تبقى من بؤر الاستعمار في العالم وخاصة مدينتي: (سبتة)

و (مليلة) المغربيتين الخاضعتين للسيطرة الأسبانية والجزر المجاورة لهما) .

وعلى المستوى الشعبي فإن زعماء الأحزاب المغربية عقدوا مهرجاناً حاشداً

للاحتجاج على الموقف الأسباني الذي يحتفل بذكرى احتلال المدينتين، وأصدرت

هذه الأحزاب بياناً أدانت فيه قرار السلطات الأسبانية، وقالت إنها ترى فيه تناقضاً

مع معاهدة الصداقة وحسن الجوار المبرمة مع المغرب في سبتمبر عام ١٩٩٣م.

إن قضية المدينتين لا تزال حية ولن تموت في الوجدان المغربي، غير أن

الملاحظ هو تطور الموقف الأسباني إلى الاتجاه الأسوأ بشأن المدينتين، وهو ما

يعني ضرورة مراجعة الموقف المغربي مع أسبانيا، وإظهار الجدية والحزم في

التعامل بشأنهما.

إن الموقف الأسباني يؤكد أن ما يحدث ليس حرباً صليبية جديدة ولكنه يعني

أن الحروب الصليبية لم تنته بعد.