للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مقال

في فقه السنن والحضارات..

كيف نتجاوز سلبيات المرحلة ونعاود البناء؟

بقلم: د. سليمان عبد الدايم الخطيب

في إطار جهودنا الفكرية والدعوية المعاصرة، نحن في حاجة إلى استعادة

الثقة بقدرة منهجنا الإسلامي على تجاوز مرحلة التردي الحضاري التي يحياها

المسلم المعاصر برغم كل ما يحيط بواقع الأمة المسلمة. وهذه القضية تطرح علينا

معاودة التذكير بفقه السنن والحضارات في خطابنا الفكري، حتى يتسنى لنا الوقوف

على قدر من المعالم والرؤى المنهجية التي تمكننا من تجاوز تحديات المرحلة التي

تفرض علينا إعادة صياغة وسائلنا الفكرية ووعينا الحضاري لتحويل (فقه التمكين) : [الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا

عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] [الحج: ٤١] ، وكذلك (فقه الاستعمار الأرضي

لعمارة الكون والحياة) : [هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا] [هود: ٦١] ،

وتحويل هذه السنن القرآنية إلى واقع حضاري فعال.

تخلفنا الحضاري: أسبابه، وعلاجه:

لقد تخلفنا كثيراً عن فقه التمكين لعدم وعينا بأوليات التوجيهات القرآنية التي

تمكن المسلم إن هو التزم بها من استعادة كيانه الحضاري، وسط الكيانات المعاصرة، التي تسعى لافتراسه ومحوه من الخارطة الكونية، وبهذه الاستعادة يسدي المسلم

المعاصر إلى العالم المعاني والقيم التي عجزت حضارة الصراع والتأزم الغربية عن

تقديمها إلى الإنسان المعاصر.

فكيف عالج العقل المسلم قضية السقوط الحضاري؟ وكيف نستطيع من خلال

الوعي بحقائقها بث أخلاقيات التفاؤل والتحصن بالرشد المطلوب للخروج من

مرحلة التيه التي تكاد تعصف بالمسلم خارج الدائرة الحضارية؟ . فتكاد أن تجمع

مذاهب التفسير الوضعي للتاريخ، على القول بحتمية سقوط الدول والحضارات

بشكل أو بآخر ف (ماركس) يخضع حركة التاريخ، بدولها وحضاراتها وتجاربها،

لحتمية تبدل وسائل الإنتاج وانعكاسه على الظروف، وأن كل وضع تاريخي مآله

الزوال بمجرد هذا التبدل الدائم، أما (شبلنجر) و (توينبي) فيعلنان عن حتمية

السقوط كأمر لا مفر منه، وبينما يغرق (شبلنجر) في تشاؤميته نجد (توينبي) يقع

في تناقض صريح هو الآخر، عندما يؤكد في الأجزاء الأخيرة من دراسته للتاريخ

على أن هنالك أملاً في بقاء الحضارة الغربية المعاصرة أمام الأعاصير [١] .

وعلى المستوى الإسلامي، نجد أن الدورة التاريخية عند (ابن خلدون) ، دورة

محتومة لا مفر منها، والدول جميعاً تخضع لها، فليس هناك دولة تبقى لا يغلبها

غالب، فكل دولة لها عمر كعمر الأفراد، تبدأ فيه نشيطة مزدهرة، ثم تهرم

وتموت، فحركة الحضارة عنده تتخذ صفة الضرورة، الأمر الذي جعل نظريته

تتصف بالحتمية التاريخية؛ فالدولة في دور انحطاطها أو هرمها، هي كالإنسان؛

إذ يكون هَرمه أمراً طبيعياً لا يتبدل، وأنه حتى إذا تدارك بعض أهل الدول ذلك

التدهور بالإصلاح، فإن الأمر لن يزيد عن ومضة المصباح قبل انطفائه، توهم

أنها اشتعال وهي انطفاء، ولكل أجل كتاب [٢] .

ويعترض (مالك بن نبي) على حتمية (ابن خلدون) قائلاً: (إن التعارض

الداخلي بين أسباب الحياة والموت في أية عملية حيوية (بيولوجية) هو الذي يؤدي

بالكائن إلى قمة نموه ثم إلى نهاية تحلله، أما في المجال الاجتماعي، فإن هذه

الحتمية محدودة بل مشروطة؛ لأن اتجاه التطور وأجله يخضعان لعوامل نفسية

زمنية، يمكن للمجتمع المنظم أن يعمل في نطاقها حين يعدل حياته، ويسعى نحو

غاياته في صورة متجانسة منسجمة) [٣] .

ولأن (مالك بن نبي) لا ينظر إلى ظاهرة (الحضارة) منفصلة عن ظاهرة

(الانحطاط) ، فقد رأى أن العالم الإسلامي اليوم في حاجة إلى بلورة تحدد له قانون

حركته التاريخية، وتهدي سعيه نحو النهضة، ولذلك راح يبحث عن الأسباب

البعيدة التي حتمت تقهقره وانحطاطه.

وقد عزا الأسباب الجوهرية لسقوط الحضارة الإسلامية، إلى فقدان القيم

الروحية والفضائل الخلقية، باعتبارها قوة جوهرية في تكوين الحضارات،

بالإضافة إلى خصوصية الحدث الحضاري الإسلامي الذي شكلته قيم ومعايير نبعت

من العقيدة الإسلامية ذاتها، قبل أن تتحول هذه القيم إلى حركة حضارية في عالم

الواقع.

وعندما تنقلب أوضاع القيم في عصور الانحطاط، بحيث تبدو صغائر الأمور

ذات خطر كبير (إذا ما حدث هذا الانقلاب) انهار البناء الاجتماعي؛ إذ هو لا يقوى

على البقاء بمقومات الفن والعلم والعقل فحسب؛ لأن الروح والروح وحدها هي

التي تتيح للإنسانية أن تنهض وتتقدم، فحيثما فقدت الروح سقطت الحضارة

وانحطت؛ لأن من يفقد القدرة على الصعود لا يملك إلا أن يهوي بتأثير جاذبية

الأرض) [٤] .

وما الذي يحدث عندما تضعف العقيدة في نفوس أصحابها: (وهو درس

للمسلم في كل زمان ومكان) عندما يبلغ مجتمع هذه المرحلة، أي عندما تكف الرياح

التي منحته الدفعة الأولى عن تحريكه (وقد عبر عنها مالك بن نبي بالدفعة القرآنية

الحية) تكون نهاية دورة وهجرة حضارة إلى بقعة أخرى، تبدأ فيها دورة جديدة،

طبقاً لترتيب عضوي تاريخي جديد [٥] .

ولكن ما هي قيمة العقل في غياب الدوافع العقدية والإيمانية؟ (في البقعة

المهجورة يفقد العلم كل معناه، فأينما توقف إشعاع الروح يخمد إشعاع العقل؛ إذ

يفقد الإنسان تعطشه إلى الفهم وإرادته للعمل عندما يفقد الهمة وقوة الإيمان [٦] .

إن (مالك بن نبي) هنا لا يفصل النتاج العقلي عن مناخه الثقافي الذي ينمو فيه، والفرق واضح بين ثقافة تتفاعل مع وسط تتحدد ذاتيته الحضارية وفق قيمه

الإيمانية والعقدية، وبين ثقافة منفصلة عن أرض الواقع؛ لأنه أصبح واقعاً بدون

هوية؛ لأنه فقد مقومات جذوره العقدية والإيمانية: فالعقل يختفي؛ لأن آثاره تتبدد

في وسط لا يستطيع أن يفهمها أو يستخدمها، ومن هذا الوجه يبدو أن أفكار (ابن

خلدون) قد جاءت إما مبكرة أو متأخرة عن أوانها: فلم تستطع أن تنطبع في

العبقرية الإسلامية التي فقدت مرونتها الخاصة، ومقدرتها على التقدم والتجدد،

حتى إذا وهنت الدفعة القرآنية توقف العالم الإسلامي كما يتوقف المحرك عندما

يستنفد آخر قطرة من الوقود، وما كان لأي معوض زمني أن يقوم خلال التاريخ

مقام المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية، ألا وهو (الإيمان) ولذا لم تستطع النهضة

الحديثة أن تمنح العالم الإسلامي (حركة) لم يعد هو في ذاته يملك مصدرها [٧] .

وبفقدان الإيمان ينهار البناء الاجتماعي من الداخل؛ لأنه لا يملك مقومات

تماسكه: لقد بلغت عوامل التعارض الداخلية قمتها، وانتهت إلى وعدها المحتوم،

وهو تمزق عالم واهن، وظهور مجتمع جديد ذي معالم وخصائص واتجاهات جديدة، فكانت تلك مرحلة الانحطاط [٨] .

وبما أن الدين هو مركب القيم الاجتماعية، فإنه يقوم بهذا الدور في حالته

الناشئة، حالة انتشاره وحركته، عندما يعبر عن فكرة جماعية، أما حين يصبح

الإيمان إيماناً جذبياً دون إشعاع (أي نزعة فردية) فإن رسالته التاريخية تنتهي على

الأرض؛ إذ يصبح عاجزاً عن دفع الحضارة وتحريكها، إنه يصبح إيمان رهبان

يقطعون صلاتهم بالحياة، ويتخلون عن واجباتهم ومسؤولياتهم [٩] .

إن حركة الإنسان داخل الحضارة يجب أن تتم من خلال محور قيمي تحدده

ذاتية عقدية وفكرية، تصبح غاية الإنسان ومنطلقه نحو الفعل الحضاري؛ فالتاريخ

يبدأ بالإنسان المتكامل الذي يطابق دائماً بين جهده وبين مثله الأعلى وحاجاته

الأساسية، والذي يؤدي في المجتمع رسالته المزدوجة، كممثل وشاهد: [وَكَذَلِكَ

جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدََاءََ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً]

[البقرة: ١٤٣] ، وينتهي التاريخ بالإنسان المتحلل الذي لم يعد يقدم لوجوده أساساً روحياً أو أساساً مادياً [١٠] .

إن تمزق شبكة العلاقات الاجتماعية، يعد من أوضح صور السقوط

الحضاري؛ إذ إن أول عمل يؤديه مجتمع معين في طريق تغيير نفسه مشروط

باكتمال هذه الشبكة من العلاقات، وعلى هذا نستطيع أن نقرر أن شبكة العلاقات

هي الدور التاريخي الأول الذي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده، ومن أجل ذلك كان

أول عمل قام به المجتمع الإسلامي هو الميثاق الذي يربط بين الأنصار

والمهاجرين [١١] .

وعندما تتمزق شبكة العلاقات الاجتماعية، يذكرنا مالك بن نبي بحديث

الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي يجب أن نتدبره للتربية لا لمجرد الخبر:

(يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أوَ من قلة

نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال لا، بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل،

ولينزعن الله عن صدور أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قيل:

وما الوهن يا رسول الله؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت) [١٢] .

لقد كان هذا الحديث ضرباً من التنبؤ والاستحضار، استحضار صورة العالم

الإسلامي بعد أن تتمزق فيه شبكة علاقاته الاجتماعية، أي عندما لا يعود مجتمعاً،

بل مجرد تجمعات لا هدف لها، كغثاء السيل، ولا ريب أن جيلنا الحاضر يدرك

هذا الحديث؛ لأنه يصف في مضمونه العالم المستعمر والقابل للاستعمار [١٣] .

عوامل تجدد الحضارة:

ولكن كيف يستعيد الكيان الحضاري ذاته؟ وكيف يتغلب الإنسان على

عوامل السقوط ويتجاوزها إلى البناء والإنجاز؟ يقدم لنا مالك بن نبي في هذا

الجانب صورة تدعو إلى الأمل والتفاؤل فيقول: إن العواصف الجوية والأعاصير

تجر معها غالباً سيولاً هائلة من الماء، سيولاً تترك وراءها في البلد الذي تجتاحه،

الخراب والموت، ولكنها تترك أيضاً على وجه الأديم طمْياً تتجدد به الحياة في هذا

البلد، فتنشط وتنمو فيه الطبيعة الجديدة بأنواع النبات والحيوان المتجدد، فكذلك

شأن الأحداث الكبرى في التاريخ، إنها تجر وراءها الموت والخراب، وتخلف

طمياً مخصباً.. طمياً من دماء الشهداء والأبطال، ولكنها تخلف أيضاً طمياً من نوع

آخر تخلفه في العقول، حيث تترك بذوراً تنبعث منها الأفكار التي تغير مجرى

التاريخ ووجه العالم [١٤] .

لذلك فإن على الإنسان المسلم أن يطرح بعث الحضارة، بمنطق البقاء حتى

يستطيع أن يتقدم إلى الأمام، وحتى يستطيع أن يرفع مستواه إلى مستوى الحضارة، ويجب على المسلم الذي يضطلع برسالته أيضاً أن يفكر في إعجازه أي في إسلامه

وإعجازه لا يتأتى إلا بتحقيق شرط جوهري، وهو تغيير ما بنفسه وتغيير ما في

محيطه مصداقاً للآية الكريمة: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]

[الرعد: ١١] . ولا يمكن أن يغير شيئاً في الخارج إن لم يغير شيئاً في نفسه،

وحينما نقول هذه الكلمة نقولها باعتبارها علماً، ولا نقولها لمجرد التبرك بالآية

فحسب، وإنما نقولها علماً ونعلم مقدارها من الصحة، حيث لا يستطيع المسلم أن

يغير ما حوله إن لم يغير أولاً ما بنفسه، فهذه حقيقة علمية، يجب أن نتصورها

كقانون إنساني وضعه الله عز وجل في القرآن كسنة من سنن الله التي تسير عليها

حياة البشر، وإذن لكي يتحقق التغيير في محيطنا، يجب أن يتحقق أولاً في أنفسنا، وإلا فإن المسلم لن يستطيع إنقاذ نفسه ولا إنقاذ الآخرين [١٥] .

ومن خلال التغيير الداخلي للإنسان تتحدد مسؤوليته تجاه التاريخ والأحداث،

وهذه القيمة التغييرية: (بدلاً من أن تلقي على أكتافنا ثقل الأحداث تجعلنا نحدد

إزاءها مسؤوليتنا، فبقدر ما ندرك أسبابها ونقيسها بالمقياس الصحيح، نرى فيها

منبهات لإرادتنا وموجهات لنشاطنا، وبقدر ما نكتشف من أسرارها، نسيطر عليها

بدلاً من أن تسيطر علينا، فنوجهها نحن ولا توجهنا هي؛ لأننا حينئذ نعلم أن

الأسباب التاريخية، تصدر عن سلوكنا وتنبع من أنفسنا، من مواقفنا حيال الأشياء، أعني (من إرادتنا في تغيير الأشياء تغييراً يحدد بالضبط وظيفتنا الاجتماعية) كما

رسمها القرآن في قوله تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ

وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] [آل عمران: ١١٠] [١٦] .

وعندما يقول الحق تبارك وتعالى: [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]

[آل عمران: ١٤٠] ، فإنها ترد من هذا الإطار القرآني تعقيباً على تجربة المسلمين التاريخية في أحد: [قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ (١٣٧) هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (١٣٩) إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ] [آل عمران: ١٣٧-١٤١] .

إن القرآن يطرح في هذا المقطع التاريخي ذي المغزى العميق، والذي ترد

فيه كلمات ذات علاقة وثيقة بالمسألة: سنن، مداولة، تمحيص.. قاعدة أساس في

موقفه إزاء الدول والتجارب البشرية والحضارات، إنه يقرر منذ البدء عدم ديمومة

أي من هذه المعطيات، ولا يستثني الإسلام والمسلمين [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ

النَّاسِ] ، وقد قال: بين الناس، بمعنى عموم هذه (السنة) التي لا محيص عنها،

والتي تقوم بلا ريب على أسبابها ومقدماتها في صميم الفعل الإنساني نفسه؛ حيث

توصي هذه المداولة بالحركة الدائمة وبالتجدد وبالأمل البشري الذي يرفض السكون، ويرغب في الانطلاق نحو الفعل الحضاري الإيجابي الذي يمكنه من استعادة ذاتيته

الحضارية [١٧] .

ومع أن الإسلام يعترف بسقوط الدول والحضارات، عندما تتكاتف الأمراض

الحضارية في شكل ظاهرة يطلق عليها القرآن: (الاستبدال) و (الاستخلاف) ،

[وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] [محمد: ٣٨] ، ويقول تعالى: [ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ] [يونس: ١٤] ، إلا أن الإسلام لم يجعل ذلك حتمية لا يمكن أن تفلت منها أية جماعة أو أمة

استطاعت أن تستعيد إرادتها وتصحح مسارها الفكري والنفسي، في ضوء الوعي

الحضاري بهاتين الآيتين المتقابلتين المتكاملتين إيجاباً وسلباً: [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ

مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الأنفال: ٥٣] .

بل إن القرآن والسنة ليحملان لنا وعداً صريحاً بأن هذه المحاولات التغييرية

في اتجاه الحق مستمرة إلى يوم القيامة وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: [يُرِيدُونَ

لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ (٨) هُوَ الَذِي أَرْسَلَ

رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ]

[الصف: ٨، ٩] ، وهو أيضاً ما يدل عليه الحديث الشريف: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة) [١٨] .

إن التناول الإسلامي لسقوط الدول والحضارات، يؤكد على أن أية أمة،

مؤمنة كانت أم غير مؤمنة، إنما تحمل مسؤوليتها كاملة إزاء نفسها، أمام الله وأمام

التاريخ، ولن تحمل تبعة أمة أخرى إلا بالقدر الذي تفرضه عليها مسؤولية الإنسان

عن أفعاله فحسب: [وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى] [النجم: ٣٩] ، فكذلك الحال

على مستوى الأمم والجماعات: [تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلا

تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ] [البقرة: ١٣٤] .

وهذه المسؤولية (المستقلة) إزاء الذات الجماعية تجيء تأكيداً للارتباط العادل

الوثيق بين التجربة الحضارية وبين مصيرها الذي تؤول إليه تقدماً وتطوراً أو

تأخراً وانحلالاً [١٩] .

وبهذه المسؤولية الفردية الجماعية تجاه الفعل الحضاري، ينطلق هذا الفعل

في مجابهة كافة التحديات على مختلف الأصعدة، حيث أصبح الإنسان فرداً وجماعة

السند المحسوس للنشاط الحضاري، يمارس فعاليته المسؤولة دونما سكون أو سلبية، وبذلك تستمر دورة حضارته وتستعيد كيانها ودورها في إعلاء كلمة الحق: [هُوَ

الَذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ] [الفتح: ٢٨] .

إن من يؤمن بمرحلية الحدث التاريخي، قد تستعصي عليه فكرة تطويع

التاريخ لمبدأ التغيير، وعلينا أن نحاول تخليص مفهوم التغيير الحضاري من قيود

السببية المقيدة، كما تربطه بها النظرة الشائعة عند المؤرخين، الذين يرون أن

الأشياء في التاريخ تسير طبقاً لسببية مرحلية، والأشياء تسير فعلاً كذلك، إن

تركت لشأنها ولكن التغيير أي التاريخ يخضع أيضاً لقانون النفوس، وتصفية هذه

المناقضة لا يكون إلا بأن تتخذ الآية الكريمة: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى

يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: ١١] ، محوراً لمجابهة السقوط الحضاري، وبذلك

تتغير وجهة النظر في سير التاريخ؛ إذ إن المراحل التي تتقبل التغير أو لا تتقبله

حسب طبيعتها، تصبح مراحل قابلة كلها للتغيير؛ لأن الحتمية المرتبطة بها

أصبحت اختياراً يتقرر في أعماق النفوس [٢٠] .

وبذلك تتحدد دورية الحضارة، بأن الإنسان هو محور الفعالية في حركتها؛

بما يملك من قيم عقدية وأخلاقية، تمكنان دوماً من الإنجاز الحضاري وتماسكه.

إن فكرنا الإسلامي المعاصر قد قدم العديد من الاجتهادات حول مشكلات

المسلم في مواجهة التحديات المعاصرة التي تسعى إلى تدميره من الداخل، وبذلك

يسهل الاختراق لصالح قوى الاستكبار والتغريب والتآمر، فهل نستطيع من خلال

سنن التغيير الذاتي أن نعاود الانطلاق؟ وصدق الحق سبحانه: [إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا

وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] [غافر:٥١]


(١) انظر في تفصيل ذلك: التفسير الإسلامي للتاريخ: للدكتور عماد الدين خليل: فيما يتعلق بمسألة سقوط الحضارات، ص ٢٥٠ وما بعدها، بيروت، دار العلم للملايين، ط٢، ١٩٧٨م.
(٢) انظر مقدمة ابن خلدون: فصل أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع.
(٣) مالك بن نبي: وجهة العالم الإسلامي، ص ٢٤، ترجمة: د عبد الصبور شاهين، دمشق، دار الفكر، ١٩٨١م.
(٤) المرجع السابق، ص ٢٧.
(٥) المرجع السابق، ص ٢٧.
(٦) المرجع السابق، ص ٢٨.
(٧) المرجع السابق، ص ٢٨.
(٨) المرجع السابق، ص ٢٨.
(٩) المرجع السابق، ص ٢٨.
(١٠) ميلاد مجتمع، مالك بن نبي، ص ٢٥، دمشق دار الفكر، ط٣، ١٩٧٧م.
(١١) ميلاد مجتمع، مالك بن نبي، ص ٢٥، دمشق دار الفكر، ط ٣، ١٩٧٧م.
(١٢) رواه أبو داود في سننه: كتاب الملاحم، ٤/١٥٨، وأحمد في مسنده، ج ٥، ص٢٧٨.
(١٣) يستخدم مالك بن نبي مصطلح (القابلية للاستعمار) للتعبير عن الاستعداد الداخلي لدى الإنسان لكي يستعمر، ولو أن الإنسان مكتمل التكوين الداخلي لمقاومة الاستعمار بكل أنواعه، لاستطاع التغلب عليه وتجاوزه، وذلك عن طريق العامل العقائدي ودوره في تحريك الفعالية الإنسانية.
(١٤) مالك بن نبي: تأملات: ص ٩٥، دمشق، دار الفكر، ط٣، ١٩٧٧م.
(١٥) دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين، مالك بن نبي، ص٥٧ ٥٨، دمشق، دار الفكر، ١٩٧٨م.
(١٦) تأملات، ص ١٢٦.
(١٧) التفسير الإسلامي للتاريخ، مرجع سابق، ص ٢٥٦، وما بعدها.
(١٨) رواه البخاري: كتاب العلم/١٣، والدارمي: كتاب الفتن/١، وابن ماجة: كتاب الفتن/٩.
(١٩) التفسير الإسلامي للتاريخ، ص ٢٦٣ ٢٦٤.
(٢٠) من مقدمة مالك بن نبي في تصديره لكتاب: جودت سعيد، (حتى يغيروا ما بأنفسهم) ،
ص ١٠، ١١، دمشق، دار الفكر، ١٩٧٧، ط ٣.