للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

حتى لا ننساق وراء لعبة الردود

بقلم: د.محمد يحيى

في قول مشهور وصف فيه نابليون الإنجليز بازدراء بأنهم أمة من أصحاب

المحلات. وقد عَنّ لي في لحظة ضيق أن أصف أمتنا تندراً ومبالغة بأنها أصبحت

أمة من (الردّادين) من الرد والردود. وقد طاف هذا الخاطر في ذهني بعدما قرأت

توصية مهمة صدرت عن ندوة عقدتها مؤخراً هيئة دينية كبيرة في بلد عربي تنص

على ضرورة إنشاء مراكز متخصصة في الرد على كتابات المستشرقين في كل بلد

إسلامي؛ وكأن الرد على المستشرقين قد أصبح من فروض الكفاية، وقد زاد من

عجبي أن رئيس هذه الجهة الدينية نفسه قد صرح في الفترة ذاتها بأن المستشرقين

قوم من أصحاب الرأي الموضوعي وقليلاً ما يتحيزون أو يتعصبون! إذن فما

الحاجة إلى مراكز كبرى متخصصة ترد على هؤلاء الناس الذين يقول عنهم رئيس

الجهة المشار لها: إنهم علماء دارسون للإسلام؟ والقضية التي تشغلني هنا هي ذلك

الانشغال الغريب والاقتصار المعيب والانغلاق على المستشرقين وكأنهم أصبحوا

محور الكون الذي يحتكر لنفسه كل الانتباه رداً عليهم أو إعجاباً بهم.

إن السنوات القليلة الماضية قد شهدت ظاهرة الانشغال بالعلاقة مع الغرب

والتمحور حولها إلى حد أن الهمّ المقيم لبعض أو كثير من الهيئات الدينية الإسلامية

الرسمية قد أصبح عقد المؤتمرات والندوات والحلقات الدراسية حول العلاقة بين

الإسلام والغرب والمستشرقون في القلب من هذه العلاقة وكأنه لم يعد هناك للمسلمين

من همٍّ آخر، أو كأنه لا يوجد على وجه الأرض غير الغرب والمستشرقين! وإذا

كنا نرى في هذا التمحور غرابة؛ فالأغرب منه أن العلاقة بين الإسلام والغرب كما

تراها هذه الهيئات الرسمية ومَنْ وراءها مِن دوائر ذات نفوذ ثقافي وسياسي في

الحكومات والأنظمة تنحصر في شكل عجيب هو شكل الرد والدفاع من جانب،

وتوجيه التهم المختلفة من الجانب الآخر.

إن الإسلام يقف في تلك العلاقة في موقف المتهم المريب الذي تصوّب إليه

التهم الواحدة تلو الأخرى وبتكرار ممل حتى لا يصبح أمامه سوى أن يتحول إلى

تلميذ يجلس في خشوع أمام أستاذه الغربي ويرد باستمرار على أسئلته واتهاماته،

وهذا هو ما عنيته بعبارة: (أمة من الردادين) .

والمسألة خطيرة وجادة وليست هزلية؛ فإن الوقوف الدائم في وضع المتهم

المدافع عن نفسه والرد على الاتهامات التي لا تنقطع يحوِّل الآلة الفكرية والعقلية

الإسلامية ومعها الذهن المسلم إلى حالة شاذة يُشل فيها التفكير ومرونته وتنعدم فيها

تعددية الأفكار وتنوعها، وتنمحي الطروح الإيجابية بحيث لا يصبح لدى هذا العقل

المسلم ما يطرحه أو يفكر فيه سوى ردود مكررة مملة على اتهامات مكررة مملة.

وحصر الذهن أو العقلية في وضع واحد لا تعرف سواه هو في وضع الرد السلبي

بكل محدوديته ورتابته يصل بنا في الواقع وفي نهاية المطاف إلى إلغاء العقل نفسه

ومعه إلغاء الطرح الإسلامي الإيجابي الواسع بكل منهجيته وشرائعه وإسهامه في

الحضارة الإنسانية؛ وهذه هي الخطورة الحقيقية لموقف الرد الدائم على التهم التي

توجه من الغرب سواء جاءت من الإعلام أو المستشرقين.

إن أي نظرة ولو سريعة على العقائد والمذاهب الفكرية والدينية والفلسفية في

الغرب نفسه وفي غير الغرب تظهر أن الجانب الدفاعي أو جانب الردود لم يكن

يشغل إلا حيزاً صغيراً فيها على الرغم من أن بعضها أو كلها مهلهل بالعيوب

والنقائص في المضمون والمنطق. وهذا الحيز الدفاعي لم يكن يظهر إلاحين تظهر

الضرورة الملحة له وبقدرها؛ لكنه بأي حال لم يتحول إلى الجانب الأصيل

والأساسي أو الأوحد من جوانب العقيدة والفكرة كما يراد الآن للإسلام. وجانب

الردود والدفاع تراعى فيه اعتبارات لا تراعى عند هؤلاء الذين يريدون أن يحولوه

إلى الجانب الوحيد للفكر الإسلامي؛ فهو في الوضع الطبيعي كما عهدناه في

الفلسفات الغربية ذاتها يميز بين اتهامات وانتقادات يحسن الرد عليها لأهميتها وبين

أخرى تهمل لتفاهتها ووضوح التعصب والغرض وراء طرحها. وهو كذلك لا

ينحصر في التعامل الدائم مع تهم تكرر بشكل أبدي بل يكتفي بالرد على التهمة

الواحدة مرة واحدة وبشكل مقنع وقاطع، ولا ينساق وراء لعبة الرد المتكرر على

التهم نفسها وهي اللعبة التي تروج الآن على الوسط الإسلامي بهدف الإشغال

والتحويل عن الواجبات الفكرية الأكثر أهمية وإلحاحاً. والجانب الدفاعي أو جانب

الردود في الفلسفات والمذاهب يأنف من انتهاج المدخل الاعتذاري المتراجع أو من

اتباع أسلوب تقبل حجج المهاجمين ومنطقتهم، ثم محاولة الرد عليها بعد فوات

الأوان؛ لأن تقبل منطق الخصم ومبادئه الفكرية يجعل الرد غير ذي قوة أو معنى،

بل يفرض الهزيمة منذ البداية على الطرف المدافع. لكن كل هذه العيوب نلمحها

الآن في ممارسات (الردادين) الجدد الذين يريدون أن يحتكروا ساحة العمل الفكري

الإسلامي لأنفسهم.

إنني لا أطالب بأن تترك الاتهامات والانتقادات التي توجه للإسلام في الغرب

أو من الفئات العلمانية داخل البلدان الإسلامية بدون أن يرد عليها؛ فالرد مطلوب،

ولكنْ بهدف التوضيح والإفهام، وأيضاً بهدف قطع الطريق على أي بلبلة قد تحدث

في أوساط المسلمين نتيجة للإلحاح على هذه التهم والانتقادات وطرحها من خلال

أوسع أجهزة الإعلام والتعليم ذيوعاً وتأثيراً. الرد مطلوب بلا شك ولكن لهذه

الأهداف وليس كما نلحظ الآن على الساحة الإسلامية لأهداف أخرى؛ وهذه

الأهداف الأخرى تشمل مجاراة الغربيين في تصوراتهم أو علمنة الإسلام والخروج

بنسخة منه تتماشى مع الفكر العلماني اللاديني، كما تشمل بث الدونية في نفوس

المسلمين وإشعارهم بأن الغرب متفوق عليهم دوماً في الفكر والنظر، وأن دورهم

الوحيد ينحصر في تحسين صورتهم أمامه والرد على انتقاداته وتعديل مناهجهم

وشرائعهم بل وعقيدتهم! حتى تتماشى مع ما يريد الغرب ويعجب به وهو القدوة

الأعلى للمسلمين كما يراد الآن. وهناك أهداف أخرى مغرضة لهذه العملية الفكرية

ومنها: استمرارية ترسخ التبعية للغرب بفكره العلماني أو الصليبي؛ بحيث يتصور

المسلم العادي أنه لا فكاك من الغرب، ولا مناص من الدخول معه في علاقة التبعية

الفكرية علاقة التلميذ الخائب بالأستاذ المعلم، وهناك الهدف الأهم والأكبر وهو

هدف تنحية الدعوة لعقيدة الإسلام وهو الواجب الإسلامي الأصيل؛ فالمسلمون يراد

لهم الآن من جانب (الردادين) أن ينشغلوا عن واجب الدعوة الإسلامية التي تتزايد

حاجة البشرية إليها بل وفي الغرب نفسه قبل غيره. وهم ينشغلون عن واجب

الدعوة الأصيل بلعبة فكرية لا معنى لها؛ فبدل عرض الإسلام على الغربيين فإذا

بالمسلمين في ظل لعبة (الردادين) يتحولون إلى أتباع أذلاء يعتذرون للسادة الغربيين

، ويردون على انتقاداتهم في ذلة مع التقبل الكامل لطروحاتهم. ويا ليت لعبة الرد

الفكري على الاتهامات والانتقادات تجدي بل إنها لا تجدي كما تدل على ذلك طبيعة

الاتهامات نفسها. فنحن الآن ما زلنا نرد على الاتهامات نفسها التي وُجهت للإسلام

في الغرب منذ قرنين أو يزيد، وحتى تهمة الإرهاب ليست جديدة كما قد يُظَن؛

فهي امتداد لنظرة الغرب القديمة إلى المسلمين باعتبارهم يهددون بلادهم! وعلى

الرغم من كل الردود التي تراكمت طيلة القرن على هذه الانتقادات فإنها ما زالت

تصدر وبالشكل نفسه والقوة ذاتها فما الذي تغير؟ لا شيء سوى حصر المسلمين

في هذا الاتجاه الضيق السلبي الذي يحمل كل مثالب التبعية؛ بل وأكثر من ذلك فإنه

يحمل خطر علمنة الإسلام وكبت الدعوة الإسلامية لتحل محلها لعبة عبثية ليس إلا.