للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات في الشريعة والعقيدة

التفسير بالرأي

مفهومه.. حكمه.. أنواعه

(١من٢)

مساعد الطيار

مفهوم الرأي:

الرأي: مصدر رأى رأياً. مهموز، ويُجمع على آراء وأرءاءٍ.

والرأي: التفكّرُ في مبادئ الأمور، ونظر عواقبها، وعلم ما تؤول إليه من

الخطأ والصواب [١] .

والتفسير بالرأي: أن يُعْمِلَ المفسر عقله في فَهْمِ القرآن، والاستنباط منه،

مستخدماً آلات الاجتهاد. ويَرِدُ للرأي مصطلحاتٌ مرادفةٌ في التفسير، وهي:

التفسير العقلي، والتفسير الاجتهادي. ومصدر الرأيِ: العقلُ، ولذا جُعِلَ التفسيرُ

العقليُ مرادفاً للتفسير بالرأي.

والقول بالرأي: اجتهادٌ من القائل به، ولذا جُعِلَ التفسيرُ بالاجتهادِ مرادفاً

للتفسير بالرأي.

ونتيجة الرأي: استنباط حكم أو فائدةٍ، ولذا فإن استنباطات المفسرين من

قَبِيلِ القول بالرأي.

أَنْوَاعُ الرّأي، وموقف السلف منها: يحمل مصطلح (الرأي) حساسية خاصة، تجعل بعضهم يقف منه موقف المتردِّد؛ ذلك أنه ورد عن السلف، آثارٌ في ذمِّه.

بَيْدَ أنّ المستقرئ ما ورد عنهم في هذا الباب (أي: الرأي) يجد إعمالاً منهم

للرأي، فما موقف السلف في ذلك؟

لنعرض بعض أقوالهم في ذلك، ثمّ نتبيّن موقفهم منه.

أقوالٌ في ذمِّ الرأي:

١- ورد عن فاروق الأمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قوله: (اتقوا

الرأي في دينكم) [٢] .

وقال: (إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن. أعيتهم الأحاديث أن

يحفظوها، فقالوا برأيهم، فضلّوا وأضلوا) [٣] .

٢- وورد عن الحسن البصري (ت: ١١٠) قوله: (اتهموا أهواءكم ورأيكم

على دين الله، وانتصحوا كتاب الله على أنفسكم ودينكم) [٤] .

أقوالٌ في إعمالِ الرأي:

ورد عن عمر بن الخطاب والحسن البصري - اللذين نقلت قولاً لهما بذمِّ

الرأي ما يدلّ على إجازتهما إعمال الرأي، وهذه الأقوال:

١- أما ما ورد عن عمر فقوله لشريح - لما بعثه على قضاء الكوفة: (انظر

ما تبين لك في كتاب الله؛ فلا تسأل عنه أحداً، وما لم يتبيّن لك في كتاب الله،

فاتبع فيه سنة رسول الله لله، وما لم يتبيّن لك فيه سنة، فاجتهد رأيك) [٥] .

٢- أمّا ما ورد عن الحسن، فإن أبا سلمة بن عبد الرحمن سأله: أريت ما

يفتى به الناس، أشيءٌ سمعته أم برأيك؟

فقال الحسن: ما كل ما يفتى به الناس سمعناه، ولكنّ رَاًيَنا لهم خيرٌ من رأيهم

لأنفسهم) [٦] .

هذان عَلَمان من أعلام السلف ورد عنهما قولان مختلفان في الظاهر، غير

أنك إذا تدبّرت قولهم، تبيّن لك أن الرأي عندهم نوعان:

* رأي مذموم، وهو الذي وقع عليه نهيهم.

* ورأي محمود، وهو الذي عليه عملهم.

وإذا لم تَقُلْ بهذا أوقعت التناقض في أقوالهم، كما قال ابن عبد البَرِّ (ت:

٤٦٣هـ) - لما ذكر من حُفِظ عنه أنه قال وأفتى مجتهداً: (ومن أهل البصرة:

الحسن وابن سيرين، وقد جاء - عنهما وعن الشعبي - ذمّ القياس، ومعناه عندنا

قياسٌ على غيرِ أصلٍ؛ لئلا يتناقض ما جاء عنهم) [٧] . والقياس: نوع من الرأي؛ كما سيأتي.

العلوم التي يدخلها الرأي:

يدخل الرأي في كثير من العلوم الدينية، غير أنه يبرز في ثلاثة علوم، وهي: علم التوحيد، وعلم الفقه، وعلم التفسير.

أما علم التوحيد، فيدخله الرأي المذموم، ويسمى الرأي فيه: (هوىً وبدعة) . ولذا تجد في كثير من كتب السلف مصطلح: (أهل الأهواء والبدع) ، وهم الذين

قالوا برأيهم في ذات الله - سبحانه.

وأما علم الفقه، فيدخله الرأيان: المحمود والمذموم، ويسمى الرأي فيه:

(قياساً) ، كما يسمى رأياً، ولذا تجد بعض عباراتٍ للسلف تنهى عن القياس أو

الرأي في فروع الأحكام، والمراد به القياس والرأي المذموم.

وأما علم التفسير، فيدخله الرأيان: المحمود والمذموم، ويسمى فيه: (رأياً) ،

ولم يرد له مرادفٌ عند السلف، وإنما ورد مؤخراً مصطلح: (التفسير العقلي) .

وبهذا يظهر أن ما ورد من نهي السلف عن الرأي فإنه يلحق أهل الأهواء

والبدع، وأهل القياس الفاسد، والرأي المذموم؛ إذ ليس كلّ قياسٍ أو رأيٍ فاسداً أو

مذموماً.

حُكْمُ القَوْلِ بالرّأي:

سيكون الحديث في حكم الرأي المتعلق بالعلوم الشرعية عموماً - وإن كان

يغلب عليه الرأي والقياس في الأحكام - وقد سبق أن الرأي نوعان: رأي مذموم،

ورأي محمود.

أولاً: الرّاًيُ المَذْمُومُ:

ورد النهي عن هذا النوع في كتاب الله - تعالى - وسنة نبيِّه لله، كما ورد

نهي السلف عنه.

وحَدّ الرأي المذموم: أن يكون قولاً بغير علمٍ وهو نوعان: علم فاسد ينشأ

عنه الهوى، أو علم غير تام وينشأ عنه الجهل، ويكون منشؤه الجهل أو الهوى.

وهذا الحدّ مستنبط من كتاب الله وسنة رسوله لله.

أمّا من كتاب الله فما يلي:

١- قوله - تعالى: [قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ

وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى

اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ] [الأعراف: ٣٣] .

٢- وقوله - تعالى: [وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ

(١٦٨) إنَّمَا يَاًمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأََن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ]

[البقرة: ١٦٨، ١٦٩] .

٣- وقوله - تعالى: [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ

كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً] [الإسراء: ٣٦] .

في هذه الآيات نهي وتشنيع على القول على الله بغير علم؛ ففي الآية الأولى

جعله من المحرّمات، وفي الآية الثانية جعله من اتباع خطوات الشيطان، وفي

الآية الثالثة جعله منهياً عنه. وفي هذا كلِّه دليلٌ على عدم جواز القول على الله

بغير علم.

وأما في سنة الرسول:

فإن من أصرح ما ورد فيها قوله: (إن الله - عز وجل - لا يقبض العلم

انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء، فيقبض العلم، حتى إذا لم يترك

عالماً، اتخذ الناس رؤساء جُهّالاً، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) رواه البخاري

في كتاب الاعتصام، وترجم له بقوله: (بابُ ما يذكر من ذمِّ الرأي وتكلف

القياس) [٨] .

وأمّا ما ورد عن السلف، فمنها:

١- ما سبق ذكره عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - والحسن

البصري - رحمه الله - من نهيهما عن الرأي.

٢- عن مسروق (ت: ٦٣هـ) قال: (من يرغب برأيه عن أمر الله

يضلّ) [٩] .

٣- وقال الزهري (ت: ١٢٤هـ) : (إياكم وأصحاب الرأي، أعيتهم الأحاديث أن يعوها) [١٠] .

وممن نُقِل عنه ذم الرأي أو القياس ابن مسعود (ت: ٣٣هـ) من الصحابة،

وابن سيرين (ت: ١١٠هـ) من تابعي الكوفة، وعامر الشعبي (ت: ١٠٤هـ) من تابعي الكوفة، وغيرهم [١١] .

صور الرأي المذموم:

ذكر العلماء صوراً للرأي المذموم، ويطغى على هذه الصّوَر الجانب الفقهي؛

لكثرة حاجة الناس له، حيث يتعلّق بحياتهم ومعاملاتهم. ومن هذه الصور ما يلي:

١- القياس على غير أصل [١٢] .

٢- قياس الفروع على الفروع [١٣] .

٣- الاشتغال بالمعضلات [١٤] .

٤- الحكم على ما لم يقع من النّوازل [١٥] .

٥- ترك النظر في السنن اقتصاراً على الرأي، والإكثار منه [١٦] .

٦- من عارض النصّ بالرأي، وتكلف لردِّ النص بالتأويل [١٧] .

٧- ضُروب البدع العقدية المخالفة للسنن [١٨] .

هذه بعض الصور التي ذكرها العلماء في الرأي المذموم، وسيأتي صور

أخرى تخصّ التفسير.

ثانياً: الرأي المحمود:

هذا النوع من الرأي هو الذي عَمِلَ به الصحابة والتابعون ومن بعدهم من

علماء الأمّة، وحدّه أن يكون مستنداً إلى علمٍ [١٩] ، وما كان كذلك فإنه خارج عن

معنى الذمِّ الذي ذكره السلف في الرأي.

ومن أدلة جواز إعمال الرأي المحمود ما يلي:

١- مفهوم الآيات السابقة والحديث المذكور في أدلة النهي عن الرأي المذموم؛ لأنها كلها تدل على أن القول بغير علم لا يجوز، ويفهم من ذلك أن القول بعلم

يجوز.

٢- فعل السلف وأقوالهم، ومنها:

أ - عن عبد الرحمن بن يزيد قال: أكثرَ الناس على عبد الله (يعني: ابن

مسعود) يسألونه، فقال: أيها الناس إنه قد أتى علينا زمان نقضي ولسنا هناك،

فمن ابتلي بقضاءٍ بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله، فإن أتاه ما ليس في كتاب الله- ولم يَقُلْهُ نبيّه - فليقض بما قضى به الصالحون، فإن أتاه أمر لم يقض به

الصالحون - وليس في كتاب الله، ولم يقل فيه نبيّه - فليجتهد رأيه، ولا يقول:

أخاف وأرى، فإن الحلال بَيِّنٌ، والحرام بَيِّنٌ، وبَيْنَ ذلك أمورٌ مشتبهات، فدعوا

ما يريبكم إلى ما لا يريبكم) [٢٠] .

قال ابن عبد البر (ت: ٤٦٣هـ) معلقاً على هذا القول: (هذا يوضح لك أن الاجتهاد لا يكون إلا على أصولٍ يضاف إليها التحليل والتحريم، وأنه لا يجتهد إلا عالم بها، ومن أشكل عليه شيءٌ لزمه الوقوف، ولم يَجُز له أن يُحيلَ على الله قولاً في دينه لا نظير له من أصلٍ ولا هو في معنى أصلٍ. وهذا لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديماً وحديثاً؛ فتدبّره) [٢١] .

ب - وعن الشعبي (ت: ١٠٤هـ) قال: لما بعث عمرُ شريحاً على قضاء الكوفة قال له: انظر ما تبيّن لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحداً، وما لم يتبيّن لك في كتاب الله فاتّبع فيه سنة رسول الله -، وما لم يتبين لك فيه السنة فاجتهد رأيك) [٢٢] .

ج - وعن مسروق (ت: ٦٣هـ) قال: سألت أُبَيّ بن كعب عن شيءٍ؛ فقال:

أكان هذا؟

قلت: لا.

قال: فأجمّنا (أي: اتركنا أو أرحنا) حتى يكون؛ فإذا كان اجتهدنا لك ...

رأينا) [٢٣] .

الرّأيُ فِي التّفْسِير:

اعلم أن ما سبق كان مقدمة للدخول في الموضوع الأساس، وهو التفسير

بالرأي، وكان لا بدّ لهذا البحث من هذا المدخل، وإن كان الموضوع متشابكاً

يصعب تفكيك بعضه عن بعض، ولذا سأحرص على عدم تكرار ما سبق،

وسأكتفي بالإحالة عليه، إن احتاج الأمر إلى ذلك.

وسأطرح في هذا ثلاثة موضوعات:

الأول: موقف السلف من القول في التفسير.

الثاني: أنواع الرأي في التفسير.

الثالث: التفسير بين المأثور والرأي.

وسيتخلّل هذه الموضوعات مسائل عِدّة؛ كشروط القول بالرأي، وأدلة جواز

الرأي في التفسير، وصور الرأي المذموم.... إلخ، وإليك الآن تفصيل هذه

الموضوعات:

أولاً: موقف السلف من القول في التفسير:

التفسير: بيان لمراد الله - سبحانه - بكلامه، ولما كان كذلك، فإن المتصدي

للتفسير عرضة لأن يقول: معنى قول الله كذا.

ثم قد يكون الأمر بخلاف ما قال. ولذا قال مسروق بن الأجدع (ت: ٦٣هـ) :

(اتقوا التفسير؛ فإنما هو الرواية عن الله - عز وجل) .

وقد اتخذ هذا العلم طابعاً خاصاً من حيث توقِّي بعض السلف وتحرجهم من

القول في التفسير، حتى كان بعضهم إذا سئل عن الحلال والحرام أفتى، فإذا سئل

عن آية من كتاب الله سكت كأن لم يسمع.

ومن هنا يمكن القول: إن السلف - من حيث التصدي للتفسير - فريقان:

فريق تكلّم في التفسير واجتهد فيه رأيه، وفريق تورّع فقلّ أو نَدُرَ عنه القول في

التفسير.

وممن تكلم في التفسير ونُقِلَ رأيه فيه عمر بن الخطاب (ت: ٢٣هـ) وعلي بن أبي طالب (ت: ٤٠هـ) وابن مسعود (ت: ٣٣هـ) وابن عباس (ت: ٦٧هـ) وغيرهم من الصحابة.

ومن التابعين وأتباعهم: مجاهد بن جبر (ت: ١٠٣هـ) وسعيد بن جبير

(ت: ٩٥هـ) وعكرمة مولى ابن عباس (ت: ١٠٧هـ) والحسن البصري

(ت:١١٠هـ) وقتادة (ت: ١١٧هـ) وأبو العالية (ت: ٩٣هـ) وزيد بن أسلم (ت: ١٣٦هـ) وإبراهيم النخعي (ت: ٩٦هـ) ومحمد ابن كعب القرظي

(ت: ١١٧هـ) وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت: ١٨٢هـ) وعبد الملك بن جريج (ت: ١٥٠هـ) ومقاتل بن سليمان (ت: ١٥٠هـ) ومقاتل بن حيان

(ت: ١٥٠هـ) وإسماعيل السدي (ت: ١٢٧هـ) والضحاك بن مزاحم

(ت: ١٠٥هـ) ويحيى بن سلام (ت: ٢٠٠هـ) ، وغيرهم.

وأما من تورّع في التفسير فجمعٌ من التابعين [٢٤] من أهل المدينة والكوفة.

أما أهل المدينة، فقال عنهم عبيد الله بن عمر: لقد أدركت فقهاء المدينة،

وإنهم ليغلظون القول في التفسير؛ منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد،

وسعيد بن المسيب، ونافع [٢٥] .

وقال يزيد بن أبي يزيد: (كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام -

وكان أعلم الناس - فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع) [٢٦] .

وقال هشام بن عروة بن الزبير: (ما سمعت أبي يتأوّل آية من كتاب الله

قطّ) [٢٧] .

وأمّا أهل الكوفة فقد أسند إبراهيم النخعي إليهم قَولَه: (كان أصحابنا - يعني:

علماء الكوفة - يتّقون التفسير ويهابونه) [٢٨] .

هذا.. ولقد سلك مسلك الحذر وبالغ فيه إمام اللغة الأصمعي (ت: ٢١٥هـ) ،

حيث نقل عنه أنه كان يتوقّى تبيين معنى لفظة وردت في القرآن [٢٩] .

فما ورد عن هؤلاء الكرام من التوقي في التفسير إنما كان تورّعاً منهم،

وخشية ألاّ يصيبوا في القول.

ثانياً: أنواع الرأي في التفسير:

الرأي في التفسير نوعان: محمود، ومذموم.

النوع الأول: الرأي المحمود.

إنما يحمد الرأي إذا كان مستنداً إلى علم يقي صاحبه الوقوع في الخطأ.

ويمكن استنباط أدلةٍ تدلّ على جواز القول بالرأي المحمود.

ومن هذه الأدلّة ما يلي:

١- الآيات الآمرة بالتدبّر:

وردت عدّة آيات تحثّ على التدبّر؛ كقوله - تعالى: [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ

أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] [محمد: ٢٤] ، وقوله: [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا

آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] [ص: ٢٩] . وغيرها من الآيات.

وفي حثِّ الله على التدبر ما يدلّ على أن علينا معرفة تأويل ما لم يُحجب عنا

تأويله؛ لأنه محالٌ أن يقال لمن لا يفهم ما يقال له: اعتبر بما لا فهم لك به [٣٠] .

والتدبّر: التفكّر والتأمّل الذي يبلغ به صاحبه معرفة المراد من المعاني،

وإنما يكون ذلك في كلامٍ قليل اللفظ كثير المعاني التي أودعت فيه، بحيث كلما

ازداد المتدبِّر تدبّراً انكشف له معانٍ لم تكن له بادئ النظر [٣١] .

والتدبّر: عملية عقلية يجريها المتدبر من أجل فهم معاني الخطاب القرآني

ومراداته، ولا شك أن ما يظهر له من الفهم إنما هو اجتهاده الذي بلغه، ورأيه الذي

وصل إليه.

٢- إقرارُ الرسول - اجتهادَ الصحابة في التفسير: لا يبعد أن يقال: إن

تفسير القرآن بالرأي نشأ في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وفي ذلك وقائع

يمكن استنباط هذه المسألة منها، ومن هذه الوقائع ما يلي:

أ - قال عمرو بن العاص: - بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام

ذات السّلاسِلِ، فاحتلمت في ليلة باردةٍ شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيمّمت به، ثمّ صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمت على رسول الله -

صلى الله عليه وسلم- ذكرت ذلك له، فقال: يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت

جُنُبٌ؟

قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن

اغتسلت أن أَهْلَكَ، وذكرتُ قول الله: [وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ] [النساء: ٢٩] فتيمّمْتُ، ثم صليت، فضحك - ولم يقل شيئاً) [٣٢] .

في هذا الأثر ترى أن عَمْراً اجتهد رأيه في فهم هذه الآية، وطبّقها على نفسه، فصلى بالقوم بعد التيمم، وهو جنب، ولم ينكر عليه الرسول -صلى الله عليه

وسلم- هذا الاجتهاد والرأي.

ب - وفي حديث ابن مسعود، لما نزلت آية: [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا

إيمَانَهُم بِظُلْمٍ] [الأنعام: ٨٢] قلنا يا رسول الله: وأينا لم يظلم نفسه، فقال: إنه

ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح [يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ

الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] [لقمان: ١٣] ) [٣٣] ، ترى أن الصحابة فهموا الآية على

العموم، وما كان ذلك إلا رأياً واجتهاداً منهم في الفهم، فلما استشكلوا ذلك سألوا

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأرشدهم إلى المعنى المراد، ولم ينههم عن

تفهّم القرآن والقول فيه بما فهموه. كما يدل على أنهم إذا لم يستشكلوا شيئاً لم

يحتاجوا إلى سؤال الرسول. والله أعلم.

٣- دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: دعا الرسول -صلى

الله عليه وسلم- لابن عباس بقوله: (اللهم فقِّهه في الدين، وعلِّمه التأويل) وفي

إحدى روايات البخاري: (اللهم علمه الكتاب) [٣٤] .

والتأويل: التفسير، ولو كان المراد المسموع من التفسير عن النبي -صلى

الله عليه وسلم- لما كان لابن عباس مَزِيّةٌ بهذا الدعاء؛ لأنه يشاركه فيه غيره [٣٥] ، وهذا يدلّ على أن التأويل المراد: الفهم في القرآن [٣٦] ، وهذا الفهم إنما هو

رأيٌ لصاحبه.

٤- عمل الصحابة: مما يدل على أن الصحابة قالوا بالرأي وعملوا به ما

ورد عنهم من اختلافٍ في تفسير القرآن؛ إذ لو كان التفسير مسموعاً عن النبي -

صلى الله عليه وسلم- لما وقع بينهم هذا الاختلاف.

ومما ورد عنهم نصاً في ذلك قولُ صدِّيق الأمة أبي بكر - رضي الله عنه -

لما سئل عن الكلالة، قال: (أقول فيها برأيي؛ فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان

خطأً فمني ومن الشيطان) [٣٧] .

وكذا ما ورد عن علي - رضي الله عنه - لما سئل: هل عندكم عن رسول

الله -صلى الله عليه وسلم- شيءٌ سوى القرآن؟ قال: (لا، والذي فلق الحبّة،

وبرأ النسمة، إلا أن يُعطِي الله عبداً فهماً في كتابه) [٣٨] .

والفهم إما هو رأي يتولّد للمرء عند تفهّم القرآن؛ ولذا يختلف في معنى الآية

فهم فلان عن غيره.


(١) الغيث المسجم في شرح لامية العجم للصفدي، ١/٦٣.
(٢) المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، ١٩٠، وانظر، ص ١٩٢، الأثر رقم ٢١٧.
(٣) المدخل إلى السنن الكبرى، ١٩١، وانظر قولاً لمسروق في جامع بيان العلم، ٢/١٦٨، وقولاً للزهري، ٢/١٦٩.
(٤) المدخل إلى السنن الكبرى، ١٩٦.
(٥) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، ٢/٧١، وانظر، ص ٧٤.
(٦) جامع بيان العلم، ٢/٧٥.
(٧) جامع بيان العلم، ٢/٧٧، وانظر كلام ابن بطال في هذا الموضوع في فتح الباري، ١٣/٣٠١.
(٨) انظر الحديث في فتح الباري، (١٣/٢٩٥) .
(٩) جامع بيان العلم، ٢/١٦٨.
(١٠) جامع بيان العلم ٢/١٦٩.
(١١) انظر: جامع بيان العلم، ٢/٧٧، وفتح الباري، ١٣/٣١٠.
(١٢) جامع بيان العلم، ٢/٧٠، ٧١، ٧٧.
(١٣) جامع بيان العلم، ٢/١٧٠.
(١٤) جامع بيان العلم، ٢/١٧٠.
(١٥) جامع بيان العلم، ٢/١٧٠.
(١٦) الاعتصام للشاطبي، ١/١٠٤.
(١٧) فتح الباري، ١٣/٣٠٣.
(١٨) جامع بيان العلم، ٢/١٦٩.
(١٩) العلم يقابل الجهل المذكور في حدِّ الرأي المذموم، أما الهوى، فيقابله الورع؛ لأنّ الوَرَعَ يقي صاحبه من مخالفة الحقِّ.
(٢٠) جامع بيان العلم، ٢/٧٠ ٧١.
(٢١) جامع بيان العلم، ٢/٧١.
(٢٢) جامع بيان العلم، ٢/٧١.
(٢٣) جامع بيان العلم، ٢/٧٢، وانظر غيرها من الآثار، ص ٦٩ ٧٩.
(٢٤) لم أجد نقلاً عن أحد من الصحابة يدل على أن مذهبه كهذا المذهب الذي برز عند التابعين.
(٢٥) تفسير الطبري (ط شاكر) ، ١/٨٥.
(٢٦) تفسير الطبري (ط شاكر) ، ١/٨٦.
(٢٧) فضائل القرآن لأبي عبيد، ٢٢٩.
(٢٨) فضائل القرآن لأبي عبيد، ٢٢٩.
(٢٩) انطر في ذك: الكامل للمبرد (تحقيق: الدالي) ٢/٩٢٨، ٤١٣٥، تهذيب اللغة ١/١٤، إعجاز القرآن للخطابي (تحقيق: عبد الله الصديق) ٤٢.
(٣٠) انظر: تفسير الطبري (ط شاكر) ، ١/٨٢- ٨٣.
(٣١) التحرير والتنوير، ٢٣/٢٥٢.
(٣٢) مسند الإمام أحمد، ٤/٢٠٣، ٢٠٤، وأبو داود برقم ٣٣٥، وانظر تفسير ابن كثير،
٢/٤٨٠، والدر المنثور، ٢/٤٩٧.
(٣٣) أخرجه البخاري في أكثر من موضع، كتاب الإيمان ح/٣٢، أحاديث الأنبياء/٣٣٦٠، ٣٤٢٨.
(٣٤) انظر: فتح الباري، ١/٢٠٤، وانظر شرح ابن حجر، ١/٢٠٤ ٢٠٥.
(٣٥) انظر: تفسير القرطبي، ١/٣٣، وجامع الأصول، ٢/٤.
(٣٦) انظر: فتح الباري، ١/٢٠٥.
(٣٧) انظر قوله في تفسير الطبري، (ط شاكر) ، ٨/٥٣، ٥٤.
(٣٨) رواه البخاري، (فتح الباري، ١/٢٤٦) وغيرها من المواضع التي ذكرها لهذا الحديث.