للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تأصيلات دعوية

سلوك الحكمة.. طريق الانتصار

(١من٢)

عبد الحكيم بن محمد بلال

لو أردنا أسلوباً دعوياً يشمل الأساليب الدعوية كلها، لم نجد إلا الحكمة.

وتبدو أهمية هذا الموضوع في الأمور التالية:

١- أن الله تعالى حكيم، متصف بالحكمة، وهي منه بمعنى: علمه بالأشياء

وإيجادها على غاية الإحكام.

٢- أن الله نسبها إلى نفسه، وجعل إيتاءها من عنده فقال: [يُؤْتِي الحِكْمَةَ

مَن يَشَاءُ] ... [البقرة: ٢٦٩] .

٣- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مُلئ قلبه بالحكمة كما في حادثة شق

الصدر [١] ، وكانت مهمته تعليم الحكمة، فجاءت أعماله ملازمة للحكمة في أكمل

صورها.

٤- أن الحكمة هي الفقه في الدين - كما فسرها كثير من السلف - والرسول- صلى الله عليه وسلم - يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدِّين) [٢] . ...

٥- أنها كلمة جامعة بين العلم والعمل.

٦- أن الله مدحها لاشتمالها على الخير الكثير، فقال: [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن

يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً] [البقرة: ٢٦٩] .

وقد أمر بها مطلقاً من غير تقييدها بالحسن؛ لأنها حسنة بذاتها، فقال:

[ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... ]

[النحل: ١٢٥] .

٧- أنها طريق من طرق الدعوة، وأسلوب يندرج تحته بقية الأساليب.

٨- أنها ضالة المؤمن، متى وجدها فهو أحق بها.

٩- أنها موضع تحاسد وغبطة، لاستحقاقها ذلك لشرفها ومكانتها، قال: (لا

حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله

حكمة فهو يقضي بها ويعلمها) [٣] .

١٠- الفهم الخاطئ لمعنى الحكمة؛ حيث يفهمه البعض على أنه اللين والرفق

دوماً، ويرى آخرون أن المداهنة والسكوت عن الحق حكمة، ويحسب آخرون

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قادحاً في الحكمة.

١١- كونها مدار نجاح الدعوات. والصحوة اليوم بأمس الحاجة إلى سلوك

سبيل الحكمة، خاصة أن بعض المواقف والأعمال التي قامت بها بعض الجماعات

الإسلامية، وبعض الدعاة الغيورين كانت تفتقر إلى الحكمة، كالدخول في معارك

عسكرية مع الأنظمة، حتى وإن كانت كافرة، ومثل أسلوب الاغتيالات، أو إحراق

أماكن الفساد في بلد لا يملك فيه المسلمون السلطة ... وكل ذلك ناشئ عن الجهل في

فهم النصوص ودلالاتها، والخلط فيما تقتضي النصوص التفريق بينه.

١٢- وتظهر أهمية الحكمة أيضاً بمعرفة آثارها، التي منها: الوصول إلى

الأهداف من أقرب طريق، وبأكثر النتائج، وأقل الخسائر. ومنها: تقريب القلوب

من الدعوة والدعاة، وإزالة الشحناء والبغضاء.

مفهوم الحكمة:

تدور معاني الحكمة في اللغة حول المنع؛ (لأنها تمنع صاحبها من الوقوع

فيما يذم فيه، أو ما قد يندم عليه، وتمنعه من اختيار المفضول دون الفاضل، أو

المهم قبل الأهم) [٤] .

وقد وردت في القرآن مقترنة بالكتاب ففسرت بالسنة، كما وردت مفردة

ففسرها المفسرون بتفسيرين:

الأول: النبوة، والثاني: العلم والإتقان، والتوفيق، والبصيرة، والعمل

الصائب، ومنع الظلم، ووضع الشيء في موضعه، وكلها معان متقاربة. وقد

وردت في السنة النبوية بنحو هذا المعنى [٥] .

ويمكن تعريفها بتعريف جامع مانع، فيقال هي: (الإصابة في القول والعمل

والاعتقاد، ووضع كل شيء في موضعه، بإحكام وإتقان) [٦] ، أو بتعبير آخر:

(فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي) [٧] ، فهذا يشمل القول أيضاً؛ لأنه يعدّ

فعلاً. والوجه الذي ينبغي: الطريقة التي يؤدى بها القول أو الفعل أياً كان، مع

مراعاة اختلاف الزمان والمكان.

فتبين أن الحكمة في الدعوة لا تقتصر على الكلام اللين أو الترغيب أو الحلم

أو الرفق أو العفو ... بل هي إتقان الأمور وإحكامها بأن تنزل جميع الأمور منازلها، فتشمل جميع الأساليب الدعوية فيوضع القول الحكيم والتعليم والتربية في موضعه، وتوضع الموعظة في موضعها، والمجادلة بالتي هي أحسن في موضعها،

ومجادلة الظالم المعاند في موضعها، والزجر والقوة والغلظة والشدة والسيف في

مواضعها، وهذا هو عين الحكمة، لموافقته لقوله - تعالى: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ

بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل: ١٢٥] ، وقوله:

[وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ]

[العنكبوت: ٤٦] ، وقوله: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ... [التوبة: ٧٣] .

كل ذلك مع الاستقامة على دين الله وحسن النية وسلامة القصد وصدق الرغبة

فيما عند الله - تعالى -، وإلا كان كل ذلك نوعاً من النفاق.

وهناك علاقة بين الحكمة والذكاء من حيث إنه مادة ووسيلة للتعرف على

الحكمة، ولكن لا يلزم منه وجودها. وإذا عُرّف الذكاء بحسن التكيف والتلاؤم مع

البيئة والأحوال والأحداث الطارئة، فإن هذا لا يصلح تفسيراً للحكمة كما ترى -

وإن حاوله البعض؛ إذ يدخل فيه المنافق والمجرم [٨] .

وما ظُلِمَتْ كلمة مثل الحكمة باسم الحكمة؛ فكم أساء فهمها الكثير، حتى من

المنتسبين للعلم والدعوة، حتى صارت مركباً سهلاً لكل من صعب عليه التزام

المنهج، أو لاحت أمامه المكاسب الدنيوية والمصالح الشخصية فصار شعاره الحكمة، ولكن بمفهوم آخر تماماً يدل عليه منهجه الذي جعله متمثلاً في اتباع اللين في كل

أمر، ومجاراة الأمر الواقع، وربما التنازل عن المبادئ، والخجل من التزام

الشرائع، والتشنيع على كل من يلتزمها ... والخطورة تكمن في محاولة هؤلاء

المتخاذلين المنهزمين طمس معالم المنهج الصحيح، وإحلال منهجهم ذي الحكمة

المترهلة العجينة المزيفة.

خوارم الحكمة وموانعها:

قد يصرف الداعية - أو تنحرف الدعوة - عن الحكمة بسبب أمور يغفل عنها

الكثير، ومنها [٩] :

١- الهوى وعدم التجرد لله - عز وجل - بالإخلاص، ولنبيه -صلى الله

عليه وسلم- بالمتابعة: وهو سبب للضلال عن الحق والحكمة، قال - تعالى:

[وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ] [ص: ٢٦] ؛ لأنه يعمي عن الحق،

ويصم.

٢- الجهل: لأن الحكمة تحتاج إلى العلم. وقد بين - تعالى - أن سبب عدم

توفيق الكفار للحق والحكمة هو الجهل فقال: [قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَاًمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا

الجَاهِلُونَ] [الزمر: ٦٤] .

٣- الأخذ بظواهر النصوص: كمنهج الظاهرية، فلم يوفقوا للحق في كثير

من المسائل، وعدم الجمع بين الأدلة؛ فإن من لا يجمع بين الأدلة يقع في

التناقضات التي تنافي الحكمة، فلا يوفق للحق في كثير من المسائل.

٤- الاستدلال بالأدلة في غير مواضعها: كمن يستدل بقوله - تعالى:

[عَلَيْكُمْ أََنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ] [المائدة: ١٠٥] على ترك الأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أنها تدل على عكس هذا كما يفهم من قوله:

[إذَا اهْتَدَيْتُمْ] فإن الاهتداء لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكمن

يستدل بقوله - عز وجل: [وَلا تُلْقُوا بِأََيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ] [البقرة: ١٩٥] على

ترك الجهاد، مع أن تركه هو التهلكة، كما هو واضح من سبب نزول الآية.

٥- عدم فهم الدليل: فيخالف الحكمة في تطبيقه له وتصرفه على أساس الفهم

الخاطئ.

٦- قلة التجربة: وهو سبب مخالفة كثير من الشباب للحكمة.

٧- الفردية: ولذا قال: (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) [١٠] ، والحكمة

تقتضي الجماعة والتعاون.

٨- عدم تحديد الأهداف: المؤدي إلى آنية التفكير وموسمية العمل والارتجال، وهو ناشئ عادة من النظرة السطحية للأمور، والوقوف عند ظواهر الأحداث،

دون النظر في أسبابها، وآثارها، ونتائجها.

٩- تقديم الجزئيات على الكليات: وهو ناشئ من قصور العلم، وقصر

النظر. وحاله كحال من رأى شوكة في يد جريح ينزف جرحه، فانشغل بإخراج

الشوكة عن عَصْبِ الجرح ومعالجته. وقد استغل الأعداء هذه الثغرة، فأقاموا

بعض شعائر الإسلام الجزئية وأشغلوا الناس بها، وهدموا أصوله وأركانه الكلية في

غفلة من الناس.

١٠- العجلة، وعدم ضبط النفس.

١١- الخلط في المفاهيم: فإن الحكيم ينطلق من مفاهيم صحيحة، وقواعد

ثابتة، مستمدة من الوحي، ومن صور الخلط في المفاهيم:

أ - الخلط في مفهوم خوف الفتنة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

خشية الفتنة! !

ب - الخلط بين الحزبية والانتماء: فحوربت الجماعة والوحدة والائتلاف

باسم النهي عن الحزبية المقيتة والانتماء، مع أن من الانتماء ما هو محمود ومنه ما

هو مذموم؛ فالانتماء لأهل السنة والجماعة مطلوب محمود، بخلاف تحزّب

المسلمين بعضهم ضد بعض، فإنه مذموم.

ج - الخلط بين الوسائل والغايات.

د - الخلط بين الثوابت والمتغيرات.

هـ - الظن بأن حب السلف والدفاع عن منهجهم يكفي عن فهمه وتطبيقه

والتزامه.

ومن الأمثلة أيضاً: الخلط بين الكرم وبين الإسراف، والخلط بين الرفق

واللين وبين الضعف، والخلط بين المداراة وبين المداهنة، والخلط بين المصلحة

وبين المفسدة، والخلط بين النصيحة وبين التشهير، والخلط بين الإسرار وبين

السكوت عن الحق، والخلط بين الغيرة وبين الاندفاع غير المنضبط، والخلط بين

العزة وبين التكبر، والخلط بين التواضع وبين الذل والخلط بين التأني وبين البرود

والخمول والكسل، والخلط بين الشجاعة وبين التهور، والخلط بين خوف الفتنة

وبين الجبن والخوف.

وأول هذه الأمور كلها محمود ممدوح، وثانيها مذموم.

١٤- عدم إتقان قاعدة المصالح والمفاسد: وهذا يؤدي إلى تقديم جلب

المصالح على دفع المفاسد، وإلى ارتكاب المفسدة الكبرى لدفع الصغرى، وجلب

المصلحة الصغرى وترك الكبرى ... مع أن الواجب هو العكس تماماً. والحكيم من

يعرف خير الخيرين، وشر الشرين.

١٥- الغفلة عن مكائد الأعداء: بسبب الجهل بفقه الواقع؛ إذ كيف يمكن

للمرء أن يفعل ما ينبغي كما ينبغي، إذا كان لا يدرك ماذا ينبغي؟ لأن الحكم على

الشيء فرع عن تصوره.

١٦- الغلظة والعنف والطيش: لأن سرعة الغضب والانفعال من خوارم

الحكمة، وإنما يترك الناس من جَانَبَ الحكمة. قال - تعالى: [وَلَوْ كُنتَ فَظاً

غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] [آل عمران: ١٥٩] .

أركان الحكمة وأسباب اكتَسابها:

الحكمة رتبة رفيعة، وليست متاحة لكل أحد، بل هي مع بذل الأسباب،

وتوافر الأركان فضل من الله ونعمة، ولذا قال - تعالى: [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ

وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً] [البقرة: ٢٦٩] ، مما يوجب على طالبها

أن يسألها من مالكها - سبحانه وتعالى، وعلى من حصلت له أن يستشعر محض

فضل الله ومنته، مع سعيه في توفير أركانها، وبذل أسبابها التي تحصل بها،

والتي منها:

١- التجرد والإخلاص والتقوى: قال - تعالى: [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ]

[البقرة: ٢٨٢] . وإذا كان الهوى من موانع الحكمة، فإن التقوى والإخلاص

أساسها، وما أوضح هذا المعنى في قوله - تعالى: [وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً]

[الفرقان: ٧٤] ، فإنه لن يكون إماماً ذا اعتبار إلا إذا كان إماماً للمتقين، فهو متقٍ؛

لأن التقوى صفة للإمام قبل المأمومين. وتحصل التقوى بالعمل الصالح الناتج عن

العلم النافع، وتثمر بالاستقامة والثبات عليها.

٢- العلم الشرعي: وقد قرن الله بين الحكم - وهي الحكمة - والعلم في عدة

آيات، منها قوله: [وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً] [الأنبياء: ٧٤] . والمراد بالعلم:

العلم بالله وأسمائه وصفاته، والعلم بأخباره، وأوامره المتعلقة بالقلوب والجوارح.

٣- الحِلم: وهو رجاحة العقل. والعقل: مكان الحكمة وبيتها. وبينهما

اشتراك لفظي ومعنوي، ومما يدل على علاقته بها أن الله - تعالى - ذكر الحكمة،

فقال: [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً]

[البقرة: ٢٦٩] ، ثم ختم الآية بقوله: [وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ليبين أنه- تعالى وتقدس - لا يؤتي الحكمة إلا أهل العقول الوافية؛ فهم الذين يعرفون النافع فيعلمونه، والضار فيتركونه.

ويراد بالحلم أيضاً: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب، وهو حالة

متوسطة بين الغضب والبلادة، وهذه الحالة يقتضيها العقل السليم.

٤- الأناة: وهي لغةً: التثبت وعدم العجلة. وتعرف بأنها: التصرف الحكيم

بين العجلة والتباطؤ. وهي: مظهر من مظاهر الصبر، وهي معينة على إحكام

الأمور ووضعها في مواضعها. وليس للأناة مقادير زمنية ثابتة، ولكنها تختلف

باختلاف حاجة الأشياء إلى مقدار السرعة الزمنية التي تحتاجها وتستدعيها النتائج

المطلوبة.

وقد أمر الله بالتثبت فقال: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فََتَبَيَّنُوا]

[الحجرات: ٦] وفي قراءة [فتثبتوا] ، وذم العجلة والاستخفاف فقال: [وَإذَا

جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ

مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ] [النساء: ٨٣] ويستثنى ما كان الخير فيه

واضحاً، قال - تعالى - ممتدحاً: [إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ]

[الأنبياء: ٩٠] .

٥- التجربة والخبرة: والتجربة في الحياة رصيد ضخم تعادل أعلى الشهادات، فإذا أضيفت إلى العلم أصبحت أهم من الشهادات؛ لأن التجربة في الشهادة قاصرة. قال معاوية - رضي الله عنه - (لا حكيم إلا ذو تجربة) [١١] .

والتجارب تنمي المواهب والقدرات، وتزيد البصير بصراً، والحليم حلماً،

وتجعل العاقل حكيماً، وقد تشجع الجبان، وتليِّن القاسي، وتسخِّي البخيل، وتقوِّي

الضعيف ... والداعية إذا خالط الناس عرف حاجتهم، وركّز على ما ينفعهم،

ووضع كل شيء في موضعه، وإذا أخطأ استفاد من خطئه، قال: (لا يُلْدَغُ المؤمن

من جحر واحد مرتين) [١٢] .

ولذا كان أكمل الناس تجربة وحكمة الأنبياء: رعوا الغنم، ثم جربوا الناس

فازدادوا بهم خبرة، وعرفوا سنن قيادتهم، قال موسى - عليه الصلاة والسلام -

لنبينا محمد لله لله: (إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة في كل يوم، وإني والله قد

جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله

التخفيف لأمتك) [١٣] .

٦- الاستشارة: وهي من عوامل تجنب الفردية القادحة في الحكمة، وقد

وصف الله بها المؤمنين، فقال مثنياً عليهم: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]

[الشورى: ٣٨] ، ولو استغنى عنها صاحب عقل لكان أغنى الناس عنها من كان يأتيه الوحي من السماء -، ومع ذلك يأمره ربه - عز وجل - بمشاورة أصحابه؛ فيقول مبيناً أن الشورى هي مقتضى الحكمة: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] [آل عمران: ١٥٩] .

وقد أوجب الله المشورة بين الوالدين، في قضية فطام الولد، وهي قضية

تتطلب الحكمة لئلا يتضرر الولد بالفطام: [فَإنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا

وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا] . [البقرة: ٢٣٣] .

٧- بُعْدُ النظر وعلو الهمة وسمو الأهداف، وهو سبب عظيم للسداد في الرأي، والتوفيق للصواب؛ حيث إن الذي يعيش لقضية مصيرية يختلف عن إنسان

يعيش على هامش الحياة؛ فإن الأول يربط كل حدث بالأهداف التي يسعى إليها،

ويعالجه من خلال منظور معين، بخلاف الثاني.

٨- فقه السنن: وقد حث الله على النظر في السنن الكونية الشرعية، والتفكر

في أحوال الماضين فقال: [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا]

[الحج: ٤٦] ، فقرن السير في الأرض - وهو إما حسي أو معنوي - بالعقل،

وهو موطن الحكمة، ويحصل مثل هذا السير بالاطلاع على أحوال الماضين،

وقراءة التاريخ لمعرفة تجارب الآخرين وإضافتها إلى التجربة الشخصية.

٩- المجاهدة: وهي الجهاد بعد الجهاد، وحمل النفس على تحقيق مراد الله -

تعالى - مرة بعد أخرى، قال - تعالى: [وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ

اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] [العنكبوت: ٦٩] ، أي: لنوفقنهم لإصابة الطرق المستقيمة،

وهي عين الحكمة، وهذا وعد الله.

١٠- الدعاء والاستخارة: قال - تعالى: [وَإذَا سَأََلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي

قََرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذََا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ]

[البقرة: ١٨٦] . والرشد: إصابة الحق وفعله، وهذا من معاني الحكمة.

والاستخارة نوع من الدعاء، عندما يتحير المرء في أي الطرق يسلك، فإنه

بالاستخارة يوفق للحكمة والصواب.

١١- السلوك الحكيم: وهو المظهر الدال على الخلق الباطن، ويمكن للداعية

أن يحقق ذلك السلوك من خلال:

أ - الاقتداء بالصادق الأمين، ذي الخلق العظيم، والذي بعث متمماً لمكارم

الأخلاق.

ب - اتباع أصول السلوك الحكيم، ومن أهم هذه الأصول تأثيراً في اكتساب

الحكمة ما ورد مثلاً في قوله - تعالى: [إنَّ اللَّهَ يَاًمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيتاءِ ذِي

القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ] [النحل: ٩٠] [وَإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ

النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ] [النساء: ٥٨] ، وما في معناها من النصوص.

ومن الأصول المؤثرة جداً:

الصبر: وهو ركن ركين للإمامة التي لا ينالها إلا ذو حكمة، قال - تعالى:

[وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ] [السجدة: ٢٤] . ومما يبين أثر الصبر في التوفيق للحكمة قوله - تعالى: [وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ

وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤)

وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] [فصلت: ٣٤، ٣٥] فإن

الإنسان إذا سلك منهجاً يجعل من عدوه حميماً وصديقاً، فإن ذلك دليل على الحكمة

وحسن التصرف.

الرفق ولين الجانب: قال: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع

من شيء إلا شانه) [١٤] ، وكان -صلى الله عليه وسلم- يوصي صحابته بذلك وقد

مدحه الله - تعالى - فقال: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ] [آل عمران: ١٥٩] ،

والله - عز وجل - رفيق يحب الرفق.

والرفق واللين لا يضاد القوة، ولا يستلزم الضعف، وإنما يضاد العنف

والفظاظة والغلظة، والجهاد مظهر من مظاهر القوة، ولا يضاد اللين والرفق، فلا

منافاة بين اللين والرفق، وبين القوة.

١٢ - العمل بالعلم المقرون بالصدق والإخلاص: وليس من الإخلاص أن

يكون قصده بالعمل التحلي بالحكمة فحسب.

١٣ - الاستقامة: وهي كلمة جامعة تجمع الدين كله، قال الله - تعالى:

[فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ] (هود: ١١٢) ، وهي السداد، فإن لم يستطع فعليه بالمقاربة لها، وفي كلتا الحالتين عليه أن يستحضر فضل الله ورحمته.

فالعمل وحده لا ينجي، قال: (قاربوا وسددوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد

منكم بعمله) ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله

برحمة منه وفضل) [١٥] .

ومَنْ أخلص دعوته لله، وأحسن العمل، واعتز بدينه فهو مستقيم ولا أحد

أحسن منه، قال - تعالى: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ

إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] [فصلت: ٣٣] ، وإذا عرض له في دعوته شياطين الإنس

دفعهم بالتي هي أحسن، واستعاذ بالله من شياطين الجن، قال - تعالى: [خُذِ

العَفْوَ وَاًمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ (١٩٩) وَإمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ

فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] [الأعراف: ١٩٩، ٢٠٠] .

فمن سلك هذه المسالك المستقيمة نال الحكمة والسداد - بإذن الله تعالى.

١٤- السياسة الدعوية الحكيمة: وطرقها كثيرة، ومنها:

(أ) تحري أوقات الفراغ، والنشاط والحاجة عند المدعوين؛ حتى لا يملوا،

ولئلا يفوتهم شيء من الخير.

(ب) ترك الأمر الذي لا ضرر في تركه ولا إثم؛ اتقاء الفتنة.

(ج) تأليف القلوب بالمال والجاه أحياناً، حسب الحاجة، فإن الداعية

كالطبيب.

(د) التأليف بالعفو في موضع الانتقام، والإحسان مكان الإساءة ... وكل خطأ

بالخُلق المضاد له.

(هـ) عدم مواجهة الداعية أحداً بعينه عندما يريد أن يؤدبه أو يزجره، ما دام يجد في الموعظة العامة كفاية.

(و) إعطاء الوسائل صورة الغايات، بتبيين ثمرات أفعال الخير العظيمة،

مثل: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) [١٦] وبتوضيح آثار أعمال الشر،

وذلك بسد الذرائع الموصلة إليها، كتحريم مسبة آلهة المشركين إذا خشي سبهم لله -

تعالى.

(ز) أن يجيب على السؤال الخاص بجواب عام؛ بحيث يتناول السائل

وغيره، ليكون الجواب قاعدة عامة بنفع كل من سمعه. كنحو ما فعله النبي -صلى

الله عليه وسلم- مع عمرو بن العاص، لما أراد أن يشترط أن يُغْفَرَ له قبل أن يُسلِمَ، فقال له: (أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله ... ) [١٧] .

١٥- فقه أركان الدعوة إلى الله: وهي من البصيرة اللازمة، وأركانها هي:

أ - موضوع الدعوة: (ما يدعو إليه الداعية) ، وهو دين الإسلام بخصائصه

العظيمة المميزة له عن سائر الأديان، من شموله وعمومه، ووسطيته، وجلبه

للمصالح.

ب - الداعي من حيث:

* وظيفته، وهي الدعوة، والبلاغ، بصورة فردية وجماعية.

* عدته وسلاحه من الفهم الدقيق، والإيمان العميق، والتعلق بالله في كل

حال.

* أخلاقه وصفاته التي لا تخفى.

ج - المدعو، فالإسلام عام لكل البشرية، وبين الناس تفاوت عظيم في

الأديان والأفكار والعقول والطباع والأحوال ... ، فلا بد من مراعاة كل ذلك، ويبدأ

الطريق بإصلاح النفس، ثم الأهل، ثم المجتمع المسلم، ثم غير المسلمين.

د- أساليب الدعوة ووسائل تبليغها:

وأساليبها هي:

١- تشخيص الداء في المدعوين، وتحديد الدواء.

٢- إزالة الشبهات التي تمنع من الإحساس بالخطأ، ومعرفة الصواب.

٣- الترغيب، ثم الترهيب.

٤- تعهد المستجيبين بالتربية والتعليم.

٥- تقويم جميع هذه الأساليب على أسلوب الحكمة، والموعظة الحسنة،

والمجادلة بالتي هي أحسن، واستخدام القوة مع المعاندين.

وأما وسائل الدعوة فعلى نوعين:

١- خارجية: كالحذر مع التوكل، والاستعانة بالله على كل خير، والالتزام

بكل نظام مشروع فيه ترتيب لحياة الداعية.

٢- مباشرة: وهي بالقول بشتى صوره، والعمل، والسيرة الحسنة.


(١) رواه البخاري، ح/٣٤٩، ومسلم، ح/١٣٦ وفيه أن الملك ملأ صدره بالحكمة بعد أن فرّغه
من غيرها.
(٢) رواه البخاري، ح/٧١، ومسلم، ح/١٠٣٧.
(٣) رواه مسلم، ح/٨١٦، ومعنى (فسلطه على هلكته) أي: على إنفاقه في الطاعات.
(٤) الحكمة، العمر، ص ١٣.
(٥) انظر: المصدر السابق، ص ١٩ وما بعدها.
(٦) الحكمة، سعيد القحطاني، ص ٣٠.
(٧) انظر: الحكمة، العمر، ص ٢٥.
(٨) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها، عبد الرحمن الميداني، ١/١٧ - ١٩.
(٩) انظر: الحكمة، العمر، ص ٤٧ - ٦٤.
(١٠) رواه أبو داود، ح/٥٤٧، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، ح/٥١١.
(١١) رواه البخاري موقوفاً مجزوماً به، الفتح، ١٠/٥٤٦.
(١٢) رواه البخاري، ح/٦١٣٣.
(١٣) رواه البخاري، ح/٣٨٨٧.
(١٤) مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، حديث رقم (٢٥٩٤) .
(١٥) روا هـ مسلم، ح/٢٨١٦.
(١٦) رواه مسلم، ح/١٨٩٣.
(١٧) رواه مسلم، ح/١٢١.