للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تأصيلات دعوية

[بين إدارة الوقت وإدارة الذات]

خالد أبو الفتوح

روي عن الحسن البصري (رحمه الله) أنه قال: (يا ابن آدم، إنما أنت أيام،

كلما ذهب يومٌ ذهب بعضك) .. وهذا (البعض) يتبعض أيضاً إلى ساعات ودقائق

وثوانٍ.. كلما ذهبت دقيقة أو ثانية ذهب بعضك؛ فالوقت هو الحياة، وهذا معنى

مشترك يعرفه الناس جميعاً، ولكن الإسلام زاد على ذلك المعنى حين جعل الوقت

بمثابة رأس مال يحاسب عليه الإنسان؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه ... )

[١] وتزداد المحاسبة حين يزداد رأس المال؛ قال (تعالى) : [أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ

فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ] (فاطر: ٣٧) ، وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم:

(أعذر الله إلى امرئ أخّرَ أجله حتى بَلّغَه ستين سنة) [٢] .

ولكن الوقت يزيد عن المال؛ فالمال يُدخر ويُقايض وقد يُعوّض إذا أُهدر،

ولكن الوقت لا سبيل لادخاره أو مقايضته أو استرجاعه، إضافة إلى ذلك: فإن

الوقت هو المورد الوحيد الذي نُرغم على صرفه سواءً أأردنا أم لم نرد!

لذا: فالإسلام يحثّ المسلم على الاستفادة القصوى من الوقت حتى في أشد

الظروف صعوبة؛ فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا

يقوم حتى يغرسها فليفعل) [٣] .

كانت هذه نبذة عن قيمة الوقت، فماذا عن قيمته في حياة مسلمي زماننا؟ ..

يبدو أنه المورد الأكثر تبديداً في ثرواتهم، وإذا وقع هذا التبديد في أرصدة الدعاة

والمصلحين تعدى الضرر إلى فئات كثيرة، ولكننا إذا نظرنا إلى الممسكين بطرف

الحضارة اليوم رأينا أنهم يستثمرون أوقاتهم في الشر والخير بدقة محسوبة، فما هو

السبب في هذا التباين؟ إنه ليس راجعاً إلى فروق عنصرية أو صفات جسمانية أو

ذهنية موروثة، بل لأن الغرب استطاع أن يضع وينفذ نظاماً تربوياً يبث في أبنائه

من خلاله ضمن ما يبث مبادئ إدارية فعالة، قام عليها نظام حياتي تُمَارس فيه

أسس إدارية سليمة، بل أصبحت هذه الأسس والمبادئ علوماً قائمة بذاتها لها فروع

وفنون تسمى (علوم الإدارة) ، ويبرز من هذه العلوم فرع يسمى (إدارة الوقت) [٤] .

وقفة مع الذات:

عزيزي القارئ..! حتى لا نبدد وقتك ونحن نتحدث عن الوقت وأهميته:

تمهل قليلاً وتأمل هذه الأسئلة، ثم أجب عليها بصدق واصفاً حالك:

هل تردد كثيراً: (ليس لديّ وقت لإنجاز ما أود القيام به) ؟

هل تتأخر دائماً عن مواعيدك؟ وهل تأخذ المهمات التي تقوم بها وقتاً أكبر

مما تحدده لها؟

هل تتضارب مواعيدك مع بعضها؟

هل تقدم تنفيذ العمل الذي تحبه أو الأكثر إلحاحاً على العمل الأهم؟

هل تفاجئك الأزمات، وبعدها تتصرف وتتخذ الإجراءات حسبما يتفق لك

وتسمح به الظروف، وليس بما تخطط له؟

إذا كانت إجاباتك على كل ما سبق بـ (لا) فأنت لست بحاجة إلى إكمال قراءة

هذا المقال، أنت بالتأكيد أحد شخصين: إما إنك منظم جداً تعرف كيف تستثمر

وقتك جيداً، وإما إنك صاحب أهداف متدنية ولا تجد ما تشغل فراغك به، فإذا كنت

كذلك فابحث لنفسك عن هدف يملأ عليك حياتك.

أما إذا كانت إجاباتك بـ (نعم) حتى ولو على تساؤل واحد منها، فأهلاً بك

ضيفاً في مصحة (إدارة الوقت) .. ولكن قبل أن ندخل سوياً هذه المصحة، هل

تعترف فعلاً أنك مريض وبحاجة إلى علاج؟ .. إن اعتراف المرء بأن العيب في

ذاته هو أول خطوة على الطريق الصحيح.. لعلك ما زلت غير مقتنع، ولعلك كنت

تنتظر من هذا المقال أن يرشدك إلى أدوات خارج ذاتك لإدارة وقتك.. إذا كان

الأمر كذلك فانتبه إلى أن أهم الممتلكات (الذي يسمى بالوقت) يوزع بالتساوي على

كل البشر بغض النظر عن المرحلة السنية أو الموقع الوظيفي أو المكان الجغرافي

أو الاعتقاد الديني، فكل شخص لديه (٧) أيام في الأسبوع، و (٢٤) ساعة في

اليوم ... حتى من يحركون (النظام العالمي الجديد أو القديم) .. لا يملكون إلا ما

تملكه أنت من الوقت.. قد تقول: إن تحت أيديهم إمكانات هائلة.. نعم، ولكنك

أيضاً لا تدير النظام العالمي، وليس لديك أهدافهم ولا طموحاتهم.. نحن نتحدث

عن إدارتك لبيتك أو لعملك أنت، نتحدث عن هدفك أنت وطموحاتك أنت.. إذن:

هل الوقت هو المشكلة أم إننا نحن المشكلة؟ .... إن أكثر الأشياء فائدة والتي يمكن

أن تقوم بها عندما تسيء التصرف في وقتك هي أن تعترف بذلك، فما دمت مستمراً

في الإنكار أو التسويغ فلن تحل المشكلة.. فإذا أدركت ذلك ورغبت أن تنتزع وقتاً

لك: فإنه ينبغي أن تكون راغباً في ذلك فعلاً.. فهل أنت راغب؟

نحن الآن نتحدث إلى صنف من الجادين في حياتهم المخلصين في أعمالهم،

كثير منهم يسهر على إنجاز عمله ويتفانى في ذلك، ولكنه لا يحسن استثمار وقته،

ولا يدرك أنه بقدر من المعرفة والممارسة يمكنه أن يحقق نتائج أفضل مثل غيره أو

أكثر منهم، ليس بالضرورة أن يكون مديراً أو موظفاً في منشأة، فقد يكون قائماً

على رأس عمل دعوي، أو طالب علم لا يستطيع السيطرة على وقته، أو حتى

ربة بيت في منزلها.. مرضهم واحد، وأيضاً قواعد علاجهم واحدة.. فالمهام

الكثيرة المتنوعة غير المتجانسة يصلح لها جميعاً أسس إدارة الوقت ومبادئه؛ لأن

العملية الإدارية كلها عملية نمطية وإن كان أسلوب ممارستها يختلف باختلاف الهدف

والموقف..

ولأنك لا تستطيع السيطرة على مقدار الوقت ذاته فأنت في حاجة إلى إدارة

ذاتك من خلال السيطرة على استخدام الوقت. فما هي الخطوات التي تقود إلى هذه

السيطرة؟ سنحاول في هذا المقال استخدام العملية الإدارية في إدارة الوقت

واستثماره؛ لذا: فقبل أن تشرع في اتخاذ الخطوة الأولى لا بد أن يكون حاضراً في

ذهنك أن العملية الإدارية تتكون من مهام: التخطيط، والتنظيم، والتنفيذ، والرقابة، وهي مهام يخدم بعضها بعضاً ...

التخطيط مدخل إدارة الوقت:

فإذا تم ذلك فاعلم أن الخطوة الأولى في العملية الإدارية هي أن تسترخي! ..

نعم تسترخي، وتنظر إلى الخلف لتخطط للسير إلى الأمام، أي أن تمارس

(التخطيط) ، خذ وقتاً كافياً للتخطيط ولا تترك الأزمات تضطرك للتصرف غير

المحسوب أو العشوائي، فبرغم أن التخطيط يأخذ وقتاً طويلاً أول الأمر، إلا إن

ذلك الوقت يعوض حين يثمر نتائج أفضل، فالمشكلة واضحة المعالم تصبح نصف

محلولة.. وعلى ذلك: يجب أن تخصص بعض الوقت للتفكير والتأمل والتخطيط

بأسلوب مبدع، وهو ما يسمى بـ (الساعة الهادئة) ، وهو وقت هادئ خالٍ من

المقاطعات والشواغل والمنغصات، يقع في أوج نشاطك وقمة منحنى صفائك

الذهني، فإذا لم تتوفر لك هذه العوامل حيث توجد فلا تتردد في البحث عن ركن

هادئ آخر تمارس فيه هذا التفكير الهادئ، فإذا لم تجد فابحث في مكان آخر.

ولكن احذر أن يكون التخطيط في (الساعة الهادئة) أحد وسائل الهروب من

مهمة غير سارة أو معقدة..

فماذا ستفعل في هذا الوقت طال أم قصر؟ .. ستشخّص مرضك..

ولأجل أن يكون التشخيص دقيقاً فقد تحتاج إلى بعض التحاليل! وبما أنك

تنظر إلى الخلف لتخطط للسير إلى الأمام فالتحاليل ستشمل هذا الخلف (الماضي) ...

وأيضاً ذلك الأمام (المستقبل) ، والمختبر الذي ستضع فيه الماضي (المستمر معك) ...

يسمى: (جداول تحليل الوقت) ، بينما تسمى جداول تركيب المستقبل (الذي تأمله) :

(جداول تنظيم الوقت) .

جداول تحليل الوقت:

فعادة استخدام (جداول تحليل الوقت) تهدف إلى أن تعلم كيف تتحكم في وقتك، بما يعني أن تغير بعضاً من عاداتك في تمضيته، ولكنك لن تستطيع تغيير عادات

وقتك حتى تعرف أولاً ما هي هذه العادات؟ .. كيف يمضي الوقت؟ .. وفي ذلك

يُقترح:

* الاحتفاظ بسجل تبين فيه كيف تمضي أسبوعاً أو أسبوعين أو أكثر..

* سَجّل كل ما تقوم به عند القيام به حتى لا تنسى أي شيء.

* وسجل أيضاً السبب الدقيق للنشاط وعلاقته بتحقيق هدفك.

* احذر أن تنشغل بحساب مقدار الدقائق التي قضيتها وتفقد الهدف الأساس

لتحليل الوقت؛ فقد تقوم من خلال محاولة حسابك للوقت الضائع بإضاعة وقت آخر

بدون مسوّغ.

* وفي نهاية كل أسبوع لخّص ما قمت به وتأكد من النسبة المئوية لكل نشاط.

* ثم قيّم أهمية هذه النشاطات أو تكرارها..

هذا التحليل يمكّنك من رؤية عاداتك السيئة في استخدام الوقت، ومن ثم:

القضاء على تلك العادات في المستقبل.. وسيعطيك تلخيص هذه الجداول فكرة جيدة

عما إذا كنت فعلاً متحكماً في وقتك أو أن وقتك تتحكم فيه مؤثرات خارجية، كما

يجب أن تخرج من هذه الجداول بفكرة واضحة عن: مضيعات الوقت لديك،

سلبيات أسلوبك في التعامل مع الأمور، نقاط الضعف والقوة الشخصية عندك..

وغير ذلك من النتائج المحددة.. هل انتهيت من التخطيط؟ ..

لم تنته بعد؛ فالتخطيط عملية مستمرة ومتصلة.. تستطيع القول: إنك

انتهيت من تحليل (الماضي) .. عليك الآن أن تخطط للمستقبل.. لتصحيح (ماضيك

المستمر) ولتنفيذ أعمالك.

أهداف × أولويات:

لماذا نهتم بتحديد الأهداف والأولويات؟ ..

لأنه عندما تكون أهدافنا واضحة أمامنا على الورق فإن ذلك يساعدنا على

تذكرها دائماً، إضافة إلى أننا نستطيع الحكم عليها دائماً من حيث كونها ما زالت

أهدافاً أو أنها بحاجة إلى تحديث، فإذا طرأت أولوية أخرى أكثر منها أهمية، فإنه

يمكن إحلالها في ترتيب متقدم مما نود إنجازه، ثم نعود إلى الأولوية السابقة،

وبدون تحديد الأولويات والأهداف نقع في (مصيدة النشاط) ، وهو التورط في

النشاط ذاته دون رؤية السبب الذي من ورائه نقوم بالنشاط، فيصبح النشاط هدفاً

مزيفاً، ويصبح غاية في حد ذاته، أي يصبح النشاط مجرد انشغال (بذل عرق) ،

وهو بخلاف (الشغل) ، وحتى الشغل ينبغي أن نفرق فيه بين (الكفاءة) و (الفاعلية) ، فالكفاءة تعني: مجرد القيام بالعمل وتحقيق النتائج المطلوبة، بينما تعني الفاعلية: تحقيق النتائج المطلوبة من أول مرة، ومن خلال القيام بالعمل الصحيح، حسب

التسلسل الصحيح في أهميتها، في الوقت المناسب، وبأدنى تكلفة، فعندما تكون

نشيطاً وكفءاً في مهمة خاطئة، أو في مهمة صحيحة في الوقت الخطأ، فإنك

تعتبر غير فعال حتماً..

إذن: حدد أهدافك أولاً.. الأهداف طويلة الأمد والأهداف قصيرة الأمد، ضَعْ

قائمة لكل نوع، فعندما تكون أفكارك وأعمالك منظمة ستكون منتبهاً إلى أن أهدافك

اليومية (قصيرة الأمد) تساهم بشكل مباشر في تحقيق الأهداف الطويلة الأمد، لذلك: عليك أن تدرّب نفسك على العمل وفي ذهنك في الوقت نفسه صورة من أعمال

الأسبوع القادم أو الشهر أو السنة، ولا يتم ذلك إلا بأن تكتب أهدافك: للعمل،

وللمهنة، وللحياة الشخصية، وحتى للأمور المالية.. ولا بد أن تكون هذه الأهداف:

* محددة وواضحة. * واقعية وممكنة التنفيذ. * ذات قيمة حقيقية. * يمكن

قياسها وتقييمها.

رتّب هذه الأهداف في صورة أولويّات، ثم قسّم أولوياتك في برنامج عملك

اليومي إلى قوائم: أعمال يجب القيام بها (ضرورية وملحة) ، وأعمال ينبغي

القيام بها (ضرورية وغير ملحة) ، وأخرى (يمكن القيام بها) .. مرة أخرى تطرق

(جداول الوقت) الباب علينا، وذلك لإعداد جدول الأهداف، وذلك قبل يوم العمل. ...

وهذا الجدول سوف يمكنك من وضع جدول تنظيم الوقت، حيث سيتم فيه تصنيف

أولويات الأعمال حسب (أهميتها) و (إلحاحها) (ليس كل مُلحّ يكون بالضرورة

مهماً) ، وإمكانية (تفويضها إلى غيرك) ..

ومن الواضح أن أكثر الأعمال أولوية هي تلك التي لا يمكن تكليف غيرك بها، والملحة، وفي الوقت نفسه: على درجة عالية من الأهمية..

بعد أن حددت الأولويات خصص الوقت حسب هذه الأولويات، وعليه: حدد

مواعيد للإنجاز؛ فعندما تحدد لنفسك مواعيد للإنجاز فإنك تمارس على نفسك نوعاً

من الضغط، وبعض الضغط يحدث دافعاً لديك، بينما زيادة الضغط عند عدم تنظيم

الوقت تضعفك.. وعند تخصيصك للأوقات حسب الأولويات ينبغي أن تكون مرناً،

فالذي يخطط لملء كل دقيقة من يوم العمل سيجد أنه غير قادر على اتباع الجدول

بسبب عدم المرونة فيه، وعلى هذا: يمكن أن نتوقع أن نصف الوقت سيمضي في

معالجة الأزمات والطوارئ وضغوط العمل، لذا: ينبغي أن ندرك أن ٥٠% من

يوم العمل يمكن جدولته بأعمال مختارة للإنجاز خلال نصف اليوم، وفي الوقت

نفسه تستحق هذه الأعمال إنجازها، كما عليك أن تحتفظ ببعض المهام البسيطة في

متناول يدك لإنجازها في الوقت المعطل أو غير المستثمر، فيمكنك قراءة جريدة أو

كتاب وأنت في انتظار دورك عند طبيب أو وأنت راكب في وسيلة المواصلات،

أو التعرف على بعض الزملاء أو الاستماع إلى المذياع وأنت تتناول الطعام، وإذا

كنت مديراً أو مشرفاً فيمكنك قراءة البريد أو إجراء مكالمة هاتفية بينما تكون

منتظراً لتقرير من مرؤوسيك مثلاً.. فمثل هذه الأشياء لا تتطلب فترات محددة من

الوقت.. وذلك للاستفادة من كامل الوقت من ناحية، ومن ناحية أخرى حتى لا

تكتسب عادات سيئة في تمديد العمل والإبطاء فيه لملء الوقت المتاح.. تذكر دائماً: (يتمدد العمل ليشغل حيز الوقت المتاح له) وهذا ما يسمى بقانون (باركينسون) . ...

يكفي ما سبق على التخطيط؛ إذ إننا لن نقضي عمرنا تخطيطاً؛ فالتخطيط

ليس هدفاً في ذاته، بل هو الخطوة الأولى في الإدارة، ولكن نذكرك بأن عليك أن

تسأل نفسك وأنت تخطط: هل سلوكك مثمر أم غير مثمر؟ متى ستقوم بالعمل؟ كم

من الوقت ستصرف حتى تقوم بالعمل؟ مع من تقوم بالعمل؟ أين وصلت حتى

الآن؟ ..

من التخطيط إلى التنظيم:

ليس الأمر الذي نعنيه هنا متعلقاً بالترتيب؛ فهذا الترتيب نظري افتراضي،

وإنما تتم الأمور معاً، ولا متعلقاً بالكمال، ولكننا نريد إبراز مجموعة من الأدوات

والأساليب والطرق التي تساعدنا على الوصول إلى ما نريد.. وحتى تكون الأمور

واضحة فإن للتنظيم ثلاثة مجالات رئيسة: إدارة الناس، وإدارة الأوراق، وإدارة

الوقت بمعنى التحكم فيه واستثماره وتجنب مضيعاته.

أولاً: إدارة الناس: التفويض.. التفويض:

في إدارة الناس سنتحدث عن التفويض، باعتباره أحد العوامل المهمة

لاستثمار الوقت.

كم مرة رددت: (في الوقت الذي أشرح له فيه ما هو مطلوب منه أكون قد

أنهيت العمل وحدي بأعلى جودة وفي نصف الوقت) ؟ .. إن هذا المنطق البراق

يعتبر من أكثر الخدع التي يقع فيها كثير منا، فتفويض بعض الصلاحيات

والسلطات لآخرين يمكنهم إنجاز أعمال مطلوبة منك يعتبر على المدى البعيد

استثماراً لأوقات الآخرين لصالحك، لتتولى أنت القيام بالأعمال التي لا يمكن

تفويضها لغيرك.

ولكن ينبغي أن تلاحظ أن التفويض لكي لا يكون مهدراً للوقت (عندما يعاد

العمل مرة أخرى) لا بد أن يراعى فيه:

* أن يكون قائماً على أسلوب إداري قائم على تنظيم علاقة تتسم بروح الثقة

القائمة على التساؤل والتعاون والصراحة، حتى تتكون أرضية مشتركة بين

المتعاونين يمكن تنسيق العمل على أساسها.

* أن تكون الصلاحيات والسلطات واضحة، وكذا: الزمن المتاح لاستخدام

هذه الصلاحيات.

* أن يتم تحديد الأعمال التي سوف تستخدم فيها هذه الصلاحيات بدقة،

والنتائج المستهدفة منها.

* اختيار الشخص المناسب الذي سيتم تفويضه، والتأكد من أنه أفضل من

يصلح لذلك.

* أن تكون المسؤولية ودرجة المساءلة عند التفويض واضحة للجميع.

ننتقل الآن إلى الجانب الثاني من عملية التنظيم وهو:

ثانياً: إدارة الأوراق:

في نبذة يسيرة حيث لا يتسع المقام للتفصيل نستطيع القول: إن المقصود

بإدارة الأوراق هنا ليس تقسيمها حسب موضوعاتها، بل المقصود إدارتها حسب

حركتها بما يوفر الوقت؛ فالمشكلة الحقيقية في التعامل مع الأوراق ليس في ترتيبها

ولكن في اتخاذ القرار بشأنها، فمكتبك يجب أن يكون محطة مؤقتة مختصرة تقف

فيها الأوراق قليلاً حتى تحدد اتجاه كل منها سواء إلى آخرين أو إلى الملفات أو سلة

المهملات ...

ثالثاً: من التنظيم: إدارة الوقت..

ونقصد هنا إبراز الوسائل الفعالة لاستثمار الوقت، وأيضاً: معرفة (مضيّعات

الوقت) ومعرفة أساليب التنظيم التي تحد من هذه المضيّعات.

من مبادئ توفير الوقت:

وقبل أن ندخل في (مضيعات الوقت) بتفصيل أكثر هاك بعض العوامل التي

قد تساعد على استثمار أكبر للوقت:

* من العوامل المساعدة على تنظيم الشخص لنفسه: كتابة المعلومات المراد

تذكرها على ورق عند ورودها مباشرة، ثم وضع هذه الورقة في مكان تكون متأكداً

من وقوع البصر عليه..

* ومن موفرات الوقت: اعتماد مبدأ التجاهل المتعمد والإهمال المقصود؛

فبعض المشكلات عندما تترك وحدها فإنها تختفي كليّاً لعدم أهميتها.

* ومنها: تقسيم النشاطات المتشابهة إلى مجموعات؛ لأنها تتطلب لإنجازها

بيئة وموارد مماثلة، إضافة إلى الحضور الذهني والتهيؤ النفسي.

* ومنها: دمج بعض المهام المسجلة في جدول الأولويات، أو دمج بعض

خطوات إحدى المهام، وكذلك إسقاط المهام التي لا علاقة لها بك أو بالمحيط الذي

تعمل فيه ولا مكان لها في جدول أعمالك.

* ومنها: عدم ترك المهام غير منتهية؛ فالتنقل من مشكلة لأخرى سوف

يدمر فيما بعد قدرتك على التركيز على أي شيء لأكثر من بضع دقائق في المرة

الأولى.

* ومنها: الإقلال من الأعمال (الروتينية) ، وهي الأعمال اليومية ذات

الطبيعة النمطية والتي تشكل قيمة يسيرة لتحقيق الأهداف العامة.

* ومنها: استغلال الأجهزة والمعدات الحديثة لتفويض الأعمال المناسبة إليها، كأجهزة التصوير والهاتف المصور (الفاكس) والحاسب الآلي (الكمبيوتر) ...

* ومنها: أن تتعلم في الاتصالات الشفاهية (هاتف أو مقابلات) كيف تقطع

المحادثات أو النقاش بأسلوب لبق وواضح عندما تعتقد أن الموضوع قد تم تغطيته

تماماً.

* ومنها: إتقان قول (لا) عندما ترى أن الاستجابة معناها ضياع الوقت

وإفساد سلم أولوياتك، فالخجل والمجاملات قد يضران بك وبالآخرين كثيراً.

من التوفير: عدم التبديد:

قبل أن ندخل في بعض تفاصيل مضيعات الوقت (المعوقات) نذكرك بأن

العامل المهم في وقوع كثير من مضيعات الوقت حتى الخارجية منها يكون نمط

إدارتك لذاتك؛ ولذلك فإن عليك أن تتذكر (جدول تحليل الوقت) الذي كنت رصدت

فيه سلوكك (الماضي) وحللته.. لا بد أنك وجدت بعض المضيعات التي تشغل حيزاً

كبيراً من وقتك (البريد الجرائد الهاتف عدم التفويض الاجتماعات الزائرين التأجيل ... (.. عليك أن تختار بعضاً منها (خمسة مضيعات أو ستة) وترتبها حسب أولوياتها، ثم تتعامل معها واحداً واحداً؛ لأن محاولة تغيير العادات السيئة مرة واحدة يمكن أن يؤدي إلى الإحباط والفشل، كما ينبغي أن تكون غاياتك عند معالجة هذه المضيعات واضحة ومحددة ويمكن قياسها، حتى تستطيع أن ترى مدى تقدمك في تحقيقها.

وبدورنا نختار هنا مضيعاً شائعاً ونتحدث عنه بشيء من التفصيل، وهو:

الهاتف.

الهاتف:

يعتبر الهاتف في الأساس إحدى وسائل توفير الوقت، لكن إساءة استخدامه قد

تجعله من مضيعات الوقت، ولتفادي ذلك:

* عليك أن تنظر إلى الهاتف بوصفه آلة لتوصيل الرسائل فقط.

* ولهذا: أوقف المكالمة مباشرة عند انتهاء هذا الهدف.

* الاختصار في المكالمة يمكن تسهيله بأن تخطط للمكالمة والحوار من قبل،

وذلك بكتابة الموضوعات التي تود التحدث فيها وتضعها أمامك، كما عليك إجراء

المكالمات المتشابهة والتي تحتاج إلى إعداد متقارب وجو نفسي واحد ... عليك

إجراء هذه المكالمات متتابعة، وذلك في حالة طلبك لآخرين.

* ويمكنك تحديد وقت معين تستقبل فيه مكالمات الآخرين، إلا إذا كانت

المكالمة ذات أهمية فلا بد من استقبالها حال ورودها.

* والوقت المناسب للرد على مكالمات الآخرين هو في فترات انخفاض

إنتاجيتك، فلا تستخدم الهاتف في فترات صفائك وارتفاع إنتاجيتك. أما فترات

الصباح الباكر عندما يبدأ الناس أعمالهم فتتميز بأنها أفضل وقت لالتقاط الخط من

أول محاولة.

* كما ينبغي أن تلاحظ فترات وجود الشخص المطلوب.

* وعندما تكون المناقشة مثيرة للأعصاب، وعندما يوجد خطر تحطيم

العلاقات الجيدة مع الآخرين.. فلا بد أن تفكر أكثر من مرة قبل استخدام الهاتف؛

فالحوار الهاتفي السيئ يمكن أن يكلفك ساعات من الوقت الضائع فيما بعد لمعالجة

سوء الفهم الذي حصل.

التنفيذ لب العمل:

هناك بعض المبادئ والإجراءات التي تتصف بالصفة التنفيذية المحضة والتي

تساعد أيضاً على استثمار الوقت بشكل جيد، وهي تقوم على أن نأخذ بعنان

المبادرة بأنفسنا، فكلما قلّت إدارتنا للوقت وسمحنا للآخرين بتحديد ما نقوم به من

عمل: عملنا أكثر وأنتجنا أقل..

وللسيطرة على إدارتك للعمل لا بد من استحضار برنامج العمل اليومي،

وذلك:

* بصنع قائمة بالأشياء التي يجب القيام بها.

* ولا تنس أن يكون عملك مجزأً بين إنجاز عمل اليوم والتفكير في أعمال

الغد ونشاطاته.

* حدد ساعات اليوم التي تكون فيها في أوج طاقتك، وهي تختلف من

شخص إلى آخر..

* ضع أكثر النشاطات أهمية وأكثرها صعوبة والأعمال التي تتطلب تركيزاً

كبيراً في ساعات صفائك الذهني، والتي تكون فيها في أوج نشاطك.

* حاول أن تجمع الأعمال المتشابهة بعضها مع بعض في هذه القائمة.

* وعند إنجاز عملٍ ما من القائمة عليك شطبه منها، وهذا في حد ذاته يعتبر

حافزاً لك على مواصلة العمل، ولكن احذر أن يتسرب إليك إحساس خادع بالرضا

من شطب الأشياء من قائمة المهام، خاصة إن كان معظمها ذا أولية منخفضة..

* وفي نهاية اليوم احصر المهام المتبقية ولا تحتفظ بها في القائمة نفسها، بل

حوّلها إلى قائمة اليوم التالي، إلا إذا كنت فوّضت بعضاً منها إلى آخرين أو

أسقطتها لعدم أهميتها..

* وأثناء العمل: كن متأكداً بأنك تركز على تنفيذ العمل الصحيح بشكل

صحيح في الوقت الصحيح.

وأثناء التنفيذ:

* ابدأ يومك بطلبات تطلبها من الآخرين؛ فبينما تقوم أنت بعمل أشياء أخرى

سيعمل الآخرون في الوقت نفسه على إنجاز الأعمال التي طلبتها منهم، وإذا تعذر

وجود وقت للقيام بكل المهام فاعمل على إنجاز المهام الكبرى والمهمة أولاً، ذلك

من معاني: (اعمل بذكاء لا بجهد أكثر) .

* وعندما يكون الموضوع لا يزال جديداً أمامك فلا تتردد في أخذ موقف

حياله؛ لأن هذا يوفر عليك مشقة إعادة تذكر الموقف مرة أخرى.

* لا تضيّع وقتك في القيام بالمهام المستحيلة.

* وفي الوقت نفسه: حاول أن تكون لك قدرة على التنفيذ الفوري، وإذا لم

يكن للمهمة حل مباشر فعليك أن تستمر في القيام بعمل شيء آخر.

* تذكر أن المهام البسيطة التي لا ترتبط بوقت محدد والتي كنت وضعتها في

جدول أعمالك هي لمثل هذه الأوقات.

* لا تستهن بإنجاز أعمال الأهداف القصيرة الأمد المصاحبة للأهداف الطويلة

الأمد، فإننا إذا لم نقم بتحقيق الأهداف القصيرة الأمد فلن ترى الأهداف الطويلة

الأمد الحياة أبداً.

* لا بأس بأن تقدم عقارب ساعتك بضع دقائق إلى الأمام؛ فالأشخاص الذين

يهتمون بالإنجاز يفعلون ذلك غالباً؛ لأن ذلك يوجد إحساساً بالعجلة الزائدة..

* لكن لا تكن مهتمّاً بشكل زائد بمسألة إنهاء العمل بسرعة؛ فالنتائج غير

المتقنة تعني أنك ستضطر إلى إعادة القيام بالعمل، مما يعني ضياع وقت آخر.

* وجّه نظرك دائماً نحو النتائج بدلاً من القلق حول الإجراءات.. كثيراً ما

ننشغل بالوسائل وتغيب عن أعيننا الغاية.. وأثناء اهتمامك بالنتائج تجنب الوقوع

في (شلل الكمال) ؛ فبعض الأعمال ينبغي أن تنجز بأسرع ما يمكن، وحينها:

عليك أن تدرك أن هناك تضحية متبادلة بين الفاعلية والكمال.

عينك على المراقبة:

وننتقل الآن إلى الجزء الأخير في دائرة إدارة الوقت، وهو المراقبة،

والمقصود بالمراقبة: مراقبة العمل وليس التجسس على القائمين بالعمل أو (الوقوف

على رؤوسهم) أثناء عملهم وإحصاء الدقائق عليهم بحجة المحافظة على الوقت؛

فالهدف من المراقبة هو: (المراجعة والنقد المؤدي إلى التصحيح) ، مراجعة للعمل

ذاته من حيث خطته أو إجراءات تنظيمه أو خطوات تنفيذه، ومراجعة للقائمين

بالعمل لبيان جوانب القصور فيهم وما يحتاجونه من تعديل لسلوك أو اكتساب لعلم

أو تنمية لخبرة بما يوفر أوقاتهم؛ فتكرار الخطأ مرة بعد مرة يعد من أكثر العوامل

التي تضيع الوقت.

وعليك مراقبة مدى التقدم في إنجاز العمل، وذلك حتى لا تعود إلى ممارسة

عاداتك السيئة السابقة، وحتى تجري إصلاحات وتعديلات على خطتك، وذلك من

خلال مقارنة الأداء الفعلي بالخطة وبالجدول، بما يفيد معرفة العائد الحقيقي، وبما

يسمح بتعديل التخطيط أو التنظيم أو التنفيذ كلها أو بعضها لتتلاءم مع الهدف ومع

الظروف التي تواجهها.

وذلك يقودنا إلى (مبدأ إعادة التحليل) ؛ إذ ينبغي إعادة تحليل استخدام الوقت

على الأقل مرة كل ستة أشهر لتفادي العودة للعادات السيئة في إدارة الوقت عند

الإحساس بصعوبة تنفيذ الخطة اليومية السابقة.

وفي الختام:

فإن الأشخاص الفعالين لم يولدوا هكذا بالفطرة، بل هم مصنوعون، فإذا

كانت الخطوات والإجراءات المذكورة سابقاً قد كثرت عليك وطالت فلا تستصعبها،

ولا تتردد في تعديل الاقتراحات السابقة لتناسب حقيقة وضعك في العمل وفي الحياة؛ فالهدف ليس استخدام اقتراح معين لإدارة الوقت، بل إحراز تقدم وإنجاز، أيّاً

كان اختيارك للأفكار التي تناسب أسلوبك وتفيدك كثيراً، والنقطة المهمة والمحورية

التي يجب أن تتذكرها هي استمرار الوعي بالكفاءة من خلال الوعي بأهمية الوقت؛

فذلك أكثر أهمية من مجرد الانصياع وتطبيق كل المبادئ التي يمكن وصفها.

وتذكر أيضاً أنك لا تستطيع إرضاء كل شخص، وأن الطريقة التي ستستثمر

بها وقتك قد تزعج آخرين، وقد لا يعاونونك عليها.

وانتبه إلى أنك من السهل أن تجعل نفسك متحمساً أكثر من اللازم بالنسبة

لإدارة الوقت؛ فقد تكون تلك الظروف ناجحة معك تماماً، إلا إنها تتصف أيضاً

بأنها فردية الطابع والكفاءة لا جماعية الكفاءة، وهي لا تشجع على العمل الجماعي ... وعلى ذلك: فكل موقف يجب أن يكون مختلفاً بناءً على عوامل عديدة، مثل: نوع المحيط الذي تعمل فيه، وطبيعة العمل، وكمية الأعمال، والمهام المنوطة بالفرد، وحاجات الشخص المتعاون معك، وشخصية القائم على العمل.


(١) أخرجه الترمذي، ٢/٦٧، والطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني في (صحيح الجامع) ، ح/٧٣٠٠.
(٢) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر.
(٣) أخرجه الإمام أحمد، ٣/١٩١، وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة) ، ح/٩، و (صحيح الجامع) ، ح/١٤٢٤.
(٤) يعتبر هذا المقال استعراضاً لموضوع إدارة الوقت، اعتماداً على كتاب (إدارة الوقت) ، ضمن سلسلة (فن وعلم إدارة الأعمال) لمحررها أديل تيمب ب، ترجمة: د وليد عبد اللطيف هوانة، وهو يضم ٩٥ مقالة لمختلف المتخصصين في هذا المجال وهناك ملحوظتان على الكتاب لا بد من ذكرهما:
(أ) يعتبر الكتاب تعبيراً عن النظرية الإدارية الغربية من خلال رؤيتها الأمريكية، وبالطبع: هناك نظريات أخرى لم يتطرق الكتاب إليها، كالنظرية اليابانية، والنظرية الإدارية الإسلامية التي لم تخرج بعد إلى حيز التنظير المتكامل رغم وجود مبادئها المتميزة القائمة على أصول شرعية وأسس أخلاقية وشبكة علاقات اجتماعية مغايرة لما قامت عليه النظريات الأخرى.
(ب) الكتاب عبارة عن ضم شذرات مقالات مختلفة للعديد من الكتاب، مما أثر في عدم تماسك مادته المعلوماتية، إضافة إلى تشتت المعلومة الواحدة بين ثنايا الكتاب.