للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الورقة الأخيرة

[وقفة مع أزمة الثقة]

سالم فرح سعد

إن كثيراً من أعمالنا وأقوالنا وجهودنا في حاجة إلى توثيق وتحقيق.. خاصة

تلك التي تمثل فكراً ناضجاً، أو عملاً مثمراً لإقامة شرع الله في الأرض، ويكون

ذلك بمراجعة دون تراجعٍ أو رجوع، وبمحاسبة دون تقريع وتوبيخ.. ومع طول

الطريق، وعُمق الثقة، يقوم العمل، ويصحح المسار؛ وأزمات (الدعوة الإسلامية)

لن تنتهي ما دام هناك خلل في الصف، وانعدام في الثقة، واستبدادٌ بالرأي.

فإن أصل الفتن: الاستبداد وترك الشورى؛ وكل ذلك إفرازات عن (أحادية

التفكير) و (انعدام الثقة) .. فلا بد من وقفة بل وقفات للنقد الذاتي الهادف الناصح

البنّاء مع العمل الإسلامي المعاصر وأبنائه العاملين المجاهدين؛ إذ أخذوا على

عاتقهم بناء الأمة، وإقامة الدين، طالبين من الله العون والمدد.

وهذه الوقفة تبدأ بالنظر في صدقية أعمالنا، وجدية جهودنا، وثقة شخصيتنا؛

فالشخصية الإسلامية شخصية سوية قويمة لم تشوّه جِبِلّتها، ولم تمسخ فطرتها،

وهي جديرة بأن تكسب ثقة الناس بها من خلال صدقها في التعامل، وإخلاصها في

التأسيس والبناء..

وتلك حكمة قرآنية في ارتباط الإيمان بالعمل الصالح الذي يجعل صاحبه في

أحسن تقويم، كما في قوله تعالى: [لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ

رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ]

[التين: ٤ - ٦] .

أما إذا انتكست فطرتها، وتشوّشت أفكارها، واستبدت برأيها، وكتمتْ الحق

الذي يخالف أهواءَ الناس وحرصتْ على إبراز ما يوافقها ويؤيدها عندها يكون

الإفساد أكثر من الإصلاح، والخطأ أكثر من الصواب.

وعندها يكون الداعية المجاهد عوناً للباطل دون أن يدري، ثم بعد انكشاف

الحقائق، واتضاح الأمور، يفقد أهل الحق صدقيتهم وثقة الناس بهم.

ولا يعني الإلحاح على (عمق الثقة) وأنها أزمتنا الحاضرة أن نبالغ فيها

ونتكلف في تحصيلها فنترك العمل أو نبطل شرعيته لفقدانها فلا بد من التوازن.

ما من شك في أهمية هذا المطلب وفعاليته، لكن شرعية العمل وصحته شيء، والثقة والمعاملة شيء آخر.

فإن من أشد فتن العلم والعمل: ذلك التسويغ الفاسد، والورع البارد، حيث

يتعلل المرء بترك المأمور أو إتيان المفضول ويجد لذلك من تصيّدِ الرخص

والأسانيد الواهية ما يقنع به نفسه، ويمنعه من بلوغ هدفه. وهذا فقه نبه إليه شيخ

الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إذ يقول: (ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي

عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة

صار في الناس من يتعلل لترك ما وَجب عليه من ذلك بأن يطلب السلامة من الفتنة، كما قال تعالى في المنافقين: [وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الفِتْنَةِ

سَقَطُوا] [التوبة: ٤٩] [١] .

فذكر هنا مظهراً من مظاهر التسويغ، وهو ترك الجهاد لطلب السلامة من

الفتن، وقس على ذلك أموراً كثيرة وقضايا كبيرة في حقل العمل الإسلامي، تترك

أو تبطل وتنقض بمعاذير واهية أو تسويغات ساذَجة.

وأزمة الثقة لا تتجسد في كونها عائقاً عن العمل والالتقاء، وإنما في كونها

خللاً ينبغي على الجميع العمل لسده، وعلاجه كي لا يتسع ويستفحل، ولا يتأتى

ذلك إلا بسعة الأفق، ورحابة الصدر، فالفقه فقه العمل، والسير سير القلب.


(١) الفتاوى: (٢٨/١٦٦) .