للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات في الشريعة والعقيدة

أصول التربية والتعليم

كما رسمها القرآن

د. أحمد بن شرشال

إن صلاح الإنسان لا يستقيم إلا إذا صلح تعليمه؛ لأن التعليم هو الذي يطبع

المتعلم بالطابع الذي يريده المعلّم، ولا ينفع هذا التعليم إلا إذا رجعنا به إلى التعليم

النبوي في شكله وموضوعه، وفي مادته وصورته، كما كان يتعلم النبي -صلى الله

عليه وسلم- من جبريل، وكما كان يعلم أصحابه رضي الله عنهم فقد صح عنه -

صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إنما بعثت معلماً) .

وإن مناهج الدراسة ومقرراتها في الجامعات قد نأت عن هذا وتضمنت مواد

جافة مجردة من الحوافز التي تدفع الطالب للعمل بما علم، ولا تعطي الثمار

المرجوة منها؛ فهي أشبه بالصنعة التي يتعلمها أي إنسان آخر.

ثم هي إن لم تكن واضحة المعالم عند الطالب، ولا هي عند الأستاذ الذي

تصدّر للتدريس، فلا تحدث في نفس الطالب انفعالاً لهذه المادة أو تلك، ولا تولّد

في نفسه حرارة الإيمان، ولا تزوده بزاد التقوى، ولا تحدث في نفسه ذكراً،

بخلاف ما إذا ربطنا صناعة التعليم ومناهجه بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-

ومنهجه وطريقته.

وإذا أردنا أن نصحح اتجاه الأمة فلنبدأ بتصحيح المناهج التعليمية كما رسمها

القرآن الكريم.

ومن ثم كان من الواجب علينا قبل الإقدام على وضع نظم المناهج التعليمية أن

نتلمس هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنهجه في التربية والتعليم.

إن صفة منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في التعليم، قد رسم القرآن

معالمها الكبرى، واستقل ببيانها، وفصّلتها السنة النبوية.

قال تعالى في بيان صفة هذا المعلم ومنهجه في سورة البقرة: [كَمَا أََرْسَلْنَا

فِيكُمْ رَسُولاًً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنََا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ

تَكُونُوا تَعْلَمُونَ] [البقرة: ١٥١] .

وقال في سورة آل عمران: [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً

مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] [آل عمران: ١٦٤] . ومثل هذه الآيةُ الثالثة في سورة الجمعة.

فقد صرحت هذه الآيات بالمنهج العام لأصول التربية والتعليم الذي لا منهج

سواه، والذي لا ينبغي أن يتغير أو يتبدل، وهو منهج أصيل يسعد الإنسان في

دنياه وأخراه؛ لأن منزلَه هو الخالق لهذا الإنسان، العليم بطبيعة تكوينه، الخبير

بدروب نفسه ومنحنياتها.

وقد جاء هذا المنهج مطابقاً لدعوة إبراهيم عليه السلام وقد حكى القرآن نص

الدعوة فقال: [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ

وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] [البقرة: ١٢٩] .

ولقد حقق الله دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ووافقت قدر الله السابق،

ولذلك قال: (أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة أخي عيسى بي) [١] .

ولقد بيّن القرآن أن هذا المنهج وما تضمنه من مواد لم يكن مقصوراً على

الموجودين مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل هو صالح لكل من يأتي بعد النبي- صلى الله عليه وسلم- من العرب والعجم، ولم يكن يومئذ قد ولد، فقال: [هُوَ

الَذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ

وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ

الحَكِيمُ] . [الجمعة: ٢، ٣] .

والمراد بالآخرين منهم لما يلحقوا بهم: هم كل من يأتي بعد الصحابة رضي

الله عنهم إلى يوم القيامة، فيعلمهم، ويعلم الآخرين الكتاب والحكمة، ويزكيهم

ويزكي الآخرين.

قال القرطبي: (لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمن كان كله مسنداً إلى أوله، فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه) [٢] .

فمنهج التربية والتعليم في القرآن موصول ومتواصل لا انقطاع فيه، ولذلك

جاء عقب نص دعوة إبراهيم أن من لم يقبل هذا المنهج وانحرف عنه يعد سفيهاً،

فقال عزّ من قائل: [وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ

فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ] [البقرة: ١٣٠] أي امتهن نفسه

واستخف بها وظلمها. وما أكثر السفهاء اليوم لتنكبهم عن هذا المنهج الرباني، ولن

يكون أحدٌ داخلاً في دعوة إبراهيم وإسماعيل حتى يمتثل ويقبلَ هذا التعليم الجامع

بكامل مفرداته؛ لأن القرآن سماه سفيهاً.

إن الإنسان مهما كان مقامه عالياً ومنصبه سامياً لا يستغني عن التعليم؛ فهذا

نبي الله داود عليه السلام مع حصوله على الملك والنبوة لم يستغن عن تعليم الله إياه

قال تعالى: [وَآتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ] [البقرة: ٢٥١] .

وهذا موسى يلتمس من العبد الصالح أن يرافقه ليتعلم الرشد قال تعالى:

[قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلََى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً] [الكهف: ٦٦] .

وكان -صلى الله عليه وسلم- لا يعرف هذا الكتاب المنزل، ولم يكن يتلو أي

كتاب قبله، ولم يكن يعرف الكتابة.

قال تعالى: [مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ

مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا] [الشورى: ٥٢] .

وقال: [وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذاً لاَّرْتَابَ

المُبْطِلُونَ] [العنكبوت: ٤٨] ، وكان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمداً -

صلى الله عليه وسلم- لا يقرأ ولا يكتب قال تعالى: [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ

الأُمِّيَّ الَذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ] . [الأعراف: ١٥٧] .

وقد علمه الله ما لم يعلم، وأنزل عليه الكتاب. قال تعالى: [وَأَنزَلَ اللَّهُ

عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ] [النساء: ١١٣] .

وطلب منه المزيد [وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً] [طه: ١١٤] .

وذكر بعض المفسرين أنه -صلى الله عليه وسلم- ما أمر بطلب الزيادة من

شيء سوى العلم، وكان يقول: (اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني،

وزدني علماً) وكان يستعيذ من العلم الذي لا ينفع، وقد تضمن هذا المنهج أصول

التعليم: التلاوة، وتعليم الكتاب، وتعليم الحكمة، ثم التزكية، فهو منهج متكامل

لكل ما يصلح الفرد والمجتمع من جميع الجوانب، ولا يحتاج إلى ما يكمله، وقد

جاء ترتيبه في أسمى درجات البلاغة والحكمة؛ لأن أول تبليغه يكون بتلاوة القرآن، ثم بيان معانيه ثم تعليم الحكمة وبها تحصل التزكية.

ونلاحظ أن جميع الآيات بدأت بذكر الأصل الأول وهو التلاوة؛ لأنها هي

مفتاح كنوز القرآن، ولا عجب في ذلك؛ إذ كانت أول آية نزلت تأمره -صلى الله

عليه وسلم- بالقراءة فقال سبحانه: [اقْراً بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الإنسَانَ

مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَاً وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (٣) الَذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]

[العلق: ١-٥] .

أولاً: نبدأ بالمَعْلَم الأول بما بدأ الله به في جميع الآيات التي تقدمت، وهي

تلاوة القرآن، ومعناها القراءة المتتابعة المرتلة التي يكون بعضها تلو بعض، وأول

صفات هذا المَعْلَم: يتلو عليهم آياتك، أي يقرأ عليهم القرآن، وأصلها من الاتباع،

ومنه قولهم: تلاه إذا تبعه، وهي ذكر الكلمة بعد الكلمة على نظام تأليف القرآن

وترتيبه ومنه قوله تعالى: [وَالْقَمَرِ إذَا تَلاهَا] [الشمس: ٢] .

وقد أمر هذا المعلم -صلى الله عليه وسلم- أن يتلو القرآن على أصحابه كما

قال تعالى: [وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَ القُرْآنَ]

[النمل: ٩١، ٩٢] .

وقال: [قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن

قَبْلِهِ] [يونس: ١٦] .

فكان -صلى الله عليه وسلم- يعلم الصحابة القرآن كما جاء ذلك في قولهم:

(كان يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن) [٣] .

وِجيء بالمضارع في قوله: [يَتْلُو] للإشارة إلى أن هذا الكتاب تتكرر

تلاوته، ولهذا جاء في وصف هذا القرآن: [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً

مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ] [الزمر: ٢٣] .

من صفات هذا الكتاب أنه يثنّى ويكرر فقوله: [مثاني] بمعنى التكرار

والإعادة، وقد كرر الله الأمر بالقراءة في سورة العلق فتُثنى وتكرر قراءته وأحكامه

وحكمه وأخباره ...

والمراد بالآيات جمع آية، وهي في اللغة العلامة آيات القرآن الكريم، فكان- صلى الله عليه وسلم- يتلوها ليحفظوا ألفاظها كما نزلت، ويتعبدوا الله بتلاوتها.

وبعد أن أمره الله بالقراءة والتلاوة بيّن له صفة التلاوة؛ فعناية الله لنبيه -

صلى الله عليه وسلم- لم تنقطع، بل قد رسم القرآن لنبيه كيفية القراءة، فقال:

[فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤) ] [طه: ١١٤] .

وقال في بيان كيفية التلاوة: [لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إنَّ عَلَيْنَا

جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإذَا قَرَاًنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩) ] ...

[القيامة: ١٦-١٩] .

وقال: [سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى (٦) إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ] [الأعلى: ٦، ٧] .

المعلّم الأول للنبي -صلى الله عليه وسلم- هو جبريل؛ كما بيّنه القرآن،

فقال: [إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى (٥) ] [النجم: ٤، ٥] .

فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يبادر إلى أخذ الوحي، ويسابق الملك في

قراءته قبل أن ينتهي جبريل المعلّم، فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن

يستمع وينصت حتى ينتهي جبريل من القراءة، فإذا انتهى أمره أن يتابع القراءة

بالكيفية التي قرأ بها جبريل المعلم، ولذلك أقرأ أصحابه -رضي الله عنهم- بهذه

الكيفية وأمرهم أن يقرأوا بها فقال: (اقرأوا كما علمتم) [٤] . قال الحافظ ابن كثير: (كان إذا جاءه جبريل بالوحي كلما قال جبريل آية قالها معه من شدة حرصه على

حفظ القرآن فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه لئلا يشق عليه) [٥] .

فبين القرآن له كيفية التلقي فقال: [لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إنَّ

عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإذَا قَرَاًنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ]

[القيامة: ١٦-١٩] ، أي فإذا قرأه جبريل عليك وانتهى فاتبع قراءته؛ فالقرآن هنا مصدر بمعنى القراءة، ثم نهاه عن السرعة والعجلة في التلاوة، فقال: [فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي

عِلْماً (١١٤) ] [طه: ١١٤] ، بل أنصت واستمع؛ فإذا فرغ جبريل المعلم من قراءته عليك؛ فاقرأه بعده.

قال ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: (كان -صلى الله عليه وسلم- إذا

نزل عليه الوحي يلقى منه شدة، وكان إذا نزل عليه عُرِفَ في تحريكه شفتيه يتلقى

أوله، ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره فأنزل الله هذه

الآية: [لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ] مخافة أن ينساه) .

فيجب في طلب العلم التأني والتثبت في تلقي العلم، وألا يحمله الحرص على

مبادرة المعلم بالأخذ قبل فراغه من كلامه، فأمره الله بترك الاستعجال في تلاوة

القرآن حتى ينتهي جبريل، ثم يقرأه بعد فراغه عليه [٦] .

وقد وعده الله وطمأنه وأخبره بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها فقال: [سَنُقْرِئُكَ

فَلا تَنسَى (٦) إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَى] [الأعلى: ٦، ٧] ، وقال: [إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ] .

ثم بيّن له القرآن أدب التلقي فقال: [وَإنَّكَ لَتُلَقَّى القُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ]

[النمل: ٦] .

ومادة (تلقى) من اللقيا؛ فيها لقاء بين اثنين هما المتلقي بكسر القاف،

والمتلقّى منه بفتح القاف، والمتلقي هنا هو الرسول -صلى الله عليه وسلم-،

والمتلقى منه هو الله تعالى [٧] ، ولكن الواسطة جبريل المعلم؛ لأن الله قال: [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ

بِإذْنِهِ مَا يَشَاءُ] [الشورى: ٥١] .

وقال تعالى في بيان هذا المعلم: [إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ

القُوَى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى] [النجم: ٤-٦] .

هكذا علمه الله كيف يتلقى الوحي: [وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ

عَلَيْكَ عَظِيماً] [النساء: ١١٣] .

ثم بعد ذلك لم يكله إلى نفسه وحفظه، بل أرسل إليه المعلم جبريل يعارضه

القرآن ويدارسه في كلة ليلة من رمضان، وليس معنى ذلك أيضاً أن يتخلى عنه

طيلة أشهر السنة إلا في رمضان؛ بل كان ينزل عليه في كل الأحوال كما قال

تعالى: [وَلا يَاًتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً] [الفرقان: ٣٣] .

ولذلك نزل عليه القرآن في الحضر والسفر والليل والنهار ... إلخ.

وإنما المدارسة والعرض والسماع كان في رمضان من كل عام، وفي العام

الذي قبض فيه عارضه بالقرآن مرتين.

أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس، قال: (كان رسول الله -صلى الله

عليه وسلم - أجودَ الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل في

كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح

المرسلة) [٨] .

وفي حديث فاطمة عند البخاري في فضائل القرآن قال رسول الله: (إن

جبريل يعارض بالقرآن في كل سنة وإنه عارضني العام مرتين) ، ومعنى هذا أن

جبريل يعرض القرآن، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يسمع ومن ثم أمر

بالإنصات والاستماع كما تقدم، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرض القرآن

وجبريل يسمع؛ يدل على هذا رواية عن ابن عباس: (كان النبي -صلى الله عليه

وسلم- أجود بالخير، وأجود ما يكون في رمضان؛ لأن جبريل كان يلقاه في كل

ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

القرآن) .

هذه هي طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلقي القرآن، وتسمى:

(العرض والسماع) .

فعلينا أن نقتدي به وبفعله في قراءة القرآن، وقد وجه الله عباده إلى هذا

الأدب بالاستماع والإنصات فقال: [وَإذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ

تُرْحَمُونَ] [الأعراف: ٢٠٤] ، وبين لهم شروط الانتفاع بالقرآن فقال: [إنَّ فِي

ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] [ق: ٣٧] .

فيحصل الانتفاع بالقرآن لمن كان له قلب حتى يعقل الكلام ويتدبره، ولمن

وجه سمعه، وأصغى إلى ما يقال له، وهو حاضر القلب غير غائب، قال ابن

قتيبة: (استمع كتاب الله، وهو شاهد القلب والفهم ليس بغافل ولا ساه) [٩] .

قال سفيان بن عيينة: (أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل،

ثم النشر) [١٠] .

ومن منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- وطريقته في التلاوة أنه كان يرتل

ترتيلاً امتثالاً لأمر الله: [وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً] [المزمل: ٤] بعد أن نهاه عن

العجلة أمره بترتيل القرآن كما أنزله الله مرتلاً، وأمره أن يقرأه على الناس مرتلاً؛

فالترتيل أمر ملحوظ في النزول كالقراءة نفسها، وقد بيّن ذلك القرآن نفسه فقال:

[وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً] [الإسراء: ١٠٦] .

ومعنى قوله: [وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً] أي ترسّل في تلاوته، وأحسِنْ تأليف

حروفه بالتأني في قراءته، وتبيين حروفه وحركاته ليكون ذلك عوناً على فهم

القرآن وتدبره، كما سيأتي. وأثر عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: (الترتيل

هو تجويد الحروف ومعرفة الوقوف) [١١] .

وقد امتثل النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الأمر، وقد كانت قراءته -صلى

الله عليه وسلم- ترتيلاً؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان -

صلى الله عليه وسلم- يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها) [١٢] .

وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قراءة النبي -صلى الله عليه

وسلم- (فإذا هي تَنْعَتُ قراءة مفسرة حرفاً حرفاً) [١٣] .

ومنها ما رواه البخاري في صحيحه: باب مدّ القراءة يصف فيها قراءة النبي-

صلى الله عليه وسلم-، فعن قتادة قال: سألت أنس بن مالك -رضي الله عنه-

عن قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (كان يمد صوته مدّاً) .

ومن ذلك ما رواه البخاري عن أنس بن ما لك -رضي الله عنه- أنه سئل:

كيف كانت قراءة النبي؟ فقال: (كانت مدّاً) ثم قرأ: [بسم الله الرحمن الرحيم]

يمد [بسم الله] ويمد بـ[الرحمن] ويمد بـ[الرحيم] .

وقد أخذ عنه صفة التلاوة وكيفيتها أصحابه؛ فهذا عبد الله بن مسعود -رضي

الله عنه- كان يقرئ رجلاً، فقرأ الرجل: [إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ]

[التوبة: ٦٠] مرسلة، فقال ابن مسعود: (ما هكذا أقرأنيها النبي -صلى الله عليه

وسلم-، فقال الرجل: (وكيف أقرأكها يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أقرأنيها: (إنما

الصدقات للفقراء والمساكين) فمدّها) [١٤] .

فهذا عبد الله بن مسعود الذي هو أشبه الناس سمتاً برسول الله -صلى الله

عليه وسلم- أنكر على الرجل أن يقرأ كلمة: (الفقراء) من غير مدّ، وبيّن للرجل

أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما قرأ بهذه الصفة التي قرأ بها الرجل، وبيّن عبد

الله بن مسعود للرجل صفة قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- للكلمة ومدّها، ولم

يقرّه على ترك المدّ مع أن فعله وتركه سواء في عدم التأثير على دلالة الكلمة

ومعناها، فدلّ على أن القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول كما قال زيد بن

ثابت.

وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يقرأوا القرآن كما علّمهم.

أخرج ابن جرير الطبري عن عبد الله بن مسعود قال: قال علي رضي الله عنهما:

(إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمركم أن تقرأوا كما علمتم) [١٥] .

فهذه النصوص المتوافرة في صفة قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- دلت

على أن قراءة القرآن بالكيفية التي قرأ بها النبي -صلى الله عليه وسلم- توقيفية فلا

يجوز العدول عنها ولا الإخلال بها.

وإذا انتقلنا إلى باب الوقف والابتداء في قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم-

نجد نصوصاً صريحة تبين عناية النبي -صلى الله عليه وسلم- بالوقف واختياره

لمواضع يحسن الوقف عليها والابتداء بما بعدها، وقد تعلم ذلك من جبريل المعلم.

وقد وصفت أم سلمة رضي الله عنها عناية النبي -صلى الله عليه وسلم-

بالوصل والوقف علمياً وعملياً.

روي عنها أنها سئلت عن قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإذا هي

تنعت قراءة مفسرةً حرفاً حرفاً، وقالت: كان يقطع قراءته يقول: (الحمد لله رب

العالمين) ثم يقف، (الرحمن الرحيم) ثم يقف، وكان يقرأ (مالك يوم الدين) .

وفي لفظ لأبي داود: (كان يقطعُ قراءته آية آية) [١٦] .

وقد أخذ هذه الصفة وهذه الكيفية في تلاوة القرآن الصحابة رضي الله عنهم.

يذكر ميمون بن مهران عن الصحابة أنهم كانوا يراعون في الوصل والوقف تمام

المعنى فقال: (إني لأقشعر من قراءة أقوام يرى أحدهم حتماً عليه ألا يقصر عن

العشر إنما كانت القراءة تقرأ القصص إن طالت أو قصرت) . وقال عبد الله بن أبي

الهذيل: (إذا قرأ أحدهم الآية فلا يقطعها حتى يتمها) [١٧] .

هذا هو معنى المعلم الأول في أصول التربية والتعليم كما رسمه القرآن في

قوله: [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياته] [الجمعة: ٢] ، وهذا هو منهج النبي -صلى الله عليه

وسلم- في صفة التلاوة وكيفيتها، فعلينا أن نقتدي به وبفعله.


(١) تفسير ابن كثير (١/١٩٧) ، القرطبي (١/١٢٤) .
(٢) الجامع، للقرطبي (٩/٨٣) .
(٣) صحيح البخاري (٧/١٦٢) .
(٤) فتح الباري (٩/٢٣) ، المختصر (١/١٨٣) .
(٥) تفسير ابن كثير (٣/١٨٥) .
(٦) انظر: بدائع التفسير (٥/٨٢) .
(٧) سنن القراءة ص ٤٥.
(٨) فتح الباري (١/٣٠) .
(٩) غريب القرآن ص٤١٩، بدائع التفسير (٤/١٩١) .
(١٠) الجامع للقرطبي (٦/٩٦) .
(١١) تفسير ابن كثير (٤/٤٥٩) ، الجامع للقرطبي (١٠/٣٦) .
(١٢) تفسير ابن كثير (٤/٤٥١) .
(١٣) رواه الترمذي في أبواب التفسير.
(١٤) الإتقان (١/٩) .
(١٥) فتح الباري (٩/٢٣) .
(١٦) غاية المريد ص ١١٢، ابن كثير (٤/٤٥٩) .
(١٧) النشر (١/٢٤٠) ، المكتفي ص ١٣٥.