للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ندوات ومحاضرات

ندوة عن:

هويتنا الإسلامية: بين التحديات والانطلاق

(الحلقة الثانية)

إعداد وائل عبد الغني

تعتبر الهوية عنصراً هاماً واستراتيجياً بالنسبة لأمن الأمم والدول، في

إدارتها لصراعاتها مع أعدائها، والمطلع على خطط الدول، سواء الأمنية أو

التنموية يلحظ أن قضية الهوية تحظى بعناية خاصة.

فإلى أي حدٍّ يستوعب المسلمون هذه القضية؟ وكيف ينظر أعداؤنا إلى هويتنا

من خلال هذا المنظور بالذات؟

* الشيخ/محمد بن إسماعيل:

قضية الهوية قضية محورية أزعجت كل الناس إلا أصحابها، والمشكلة تكمن

في أن أكثر المسلمين لمّا يقتنعوا بعدُ أن الأعداء من حولهم، على اختلاف مذاهبهم

وعقائدهم لا هدف لهم إلا استئصال شأفة الإسلام، وطمس الهوية الإسلامية،

وصهرها في أتون الأممية وإزالتها من الوجود؛ لأنها لا غيرها تعتبر الخطر الماثل

أمام القوى الراغبة في احتواء العالم الإسلامي، والسيطرة عليه سيطرة فعلية ودائمة، قال تعالى: [ ... وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونََكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا ... ]

[البقرة: ٢١٧] .

إن أيّ جماعة تفرّط في هويتها سيسهل في عالم تحكمه شريعة الغاب

استقطابها والهيمنة عليها، وتذويب شخصيتها عن طريق تدمير البنية التحتية

لهويتها العقائدية والثقافية التي تحفظ عليها سياج شخصيتها، فيتحول الإنسان إلى

كائنٍ فارغٍ، مغسول المخ.

أما هذه الأمة فلا عزة لها بدون هويتها [ ... وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ

وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ... ] [المنافقون: ٨] ، وحين تمسكنا بهويتنا سدنا العالم، وخافت بأسنا الأمم، حتى كانت كنائس أوربا لا تجرؤ على دق نواقيسها، حينما

كانت السفن الإسلامية تعبر البحر المتوسط، وحين تخلينا عنها نزع الله من قلوب

عدونا المهابة منا، وقذف في قلوبنا الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت.

قال رسول الله: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع،

وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) [١] .

ومما يؤسف له أن أعداءنا يدركون جيداً أن (الهوية الإسلامية) أقوى وأخطر

سلاح يجب نزعه من المسلمين، بإثارة النعرات القومية.

في عام ١٩٦٧م ألقى (أبا إيبان) وزير خارجية الدولة اللقيطة محاضرة

بجامعة (برنستون) الأمريكية قال فيها: (يحاول بعض الزعماء العرب أن يتعرف

على نسبه الإسلامي بعد الهزيمة! وفي ذلك الخطر الحقيقي على إسرائيل، ولذا

كان من أول واجباتنا أن نُبقي العرب على يقين راسخ بنسبهم القومي لا الإسلامي) !.

هذا مع أن المجتمع اليهودي في فلسطين يتألف من مهاجرين من (١٠٢) دولة

مختلفة، يتكلمون (٧٠) لغة مختلفة من شتات الأرض، جمعتهم عقيدتهم الواحدة

رغم اختلاف اللغات والألوان والقوميات والعناصر والأوطان وهذا (أدولف كريمر)

اليهودي يعلنها: (جنسيتنا هي دين آبائنا، ونحن لا نعترف بأية قومية أو جنسية

أخرى) .

وجاء في صحيفة (أحرونوت) اليهودية بتاريخ ١٨/٣/٧٨: (إن على وسائل

إعلامنا أن لا تنسى حقيقة هامةً هي جزء من استراتيجية إسرائيل في حربها مع

العرب، هذه الحقيقة هي أننا نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا، في إبعاد الإسلام

عن معركتنا مع العرب طوال ثلاثين عاماً، ويجب أن يبقى الإسلام بعيداً عن

المعركة إلى الأبد، ولهذا يجب أن لا نغفل لحظة واحدة عن تنفيذ خطتنا في منع

استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل، وبأي أسلوب، ولو اقتضى الأمر الاستعانة

بأصدقائنا لاستعمال العنف والبطش، لإخماد أية بادرة ليقظة الروح الإسلامية في

المنطقة المحيطة بنا) !

وصدق رسول الله إذ يقول: (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا) وهذا ما يدركه

أعداؤنا، ولذلك قال (أشعيا بومان) : (إن شيئاً من الخوف يجب أن يسيطر على

العالم الغربي من الإسلام، ولهذا الخوف أسباب، منها: أن الإسلام منذ ظهر في

مكة لم يضعف عددياً، بل إن أتباعه يزدادون باستمرار، ومن أعظم أسباب الخوف

وأفظعها أن هذا الدين من أركانه الجهاد) .

وقد رصد الأستاذ يوسف العظم سبباً من أعظم أسباب هزيمة ١٩٦٧م؛ فقال: (لقد سمعت وزير إعلام عربياً، إبّان حرب حزيران يقول: (دعونا من خالد بن

الوليد وصلاح الدين، ولا تثيروها حرباً دينية) قال ذلك، وهو يعلق على ما يذيعه

بعض الدعاة، من حث الجند على الثبات وتشجيع للمقاتلين على الجهاد والاستشهاد، فقلت لمن كان حولي: (منهزمون ورب الكعبة!) .

للأسف أصبح عدونا يعي هذه الحقيقة أكثر منا.

* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:

نعم، الأمر متجسد في حسهم، لدرجة أن (إسحاق نافون) رئيس كيانهم

الأسبق، في خطابه بجامعة (بن جوريون) ، أمام السادات، في ٢٧/٥/١٩٧٩م،

قال: (إن تبادل الثقافة والمعرفة لا يقل أهمية عن الترتيبات العسكرية والسياسية) ،

وجلّى الأمر أكثر، أمام قيادات الحزب الوطني بمصر في ٢٨/١٠/١٩٨٠م حين

قال: (إن أي صياغة أدبية أو دينية تخالف التصورات الإسرائيلية تعد مساساً

بالسلام الإسرائيلي) ! .

نريد أن نرسم إطاراً نظرياً لحجم العداء الغربي للهوية الإسلامية، يعيننا

على إدراك مكائده العملية.

* د/مصطفى حلمي:

قضية الهوية ظاهرة جداً في تفكير ساستهم ومنظريهم، والكلام فيها كثير،

وكثيراً ما تعبر مواقفهم السياسية عن هذا المنطلق، لذلك هم يعتبرون أن أمامهم

تحديات؛ لأنه ثبت لهم عبر مراكز بحوثهم ودراستهم وجامعاتهم ومستشرقيهم أن

هذه الأمة عصية على الهزيمة إذا حافظت على شخصيتها الإسلامية، ومن ثَمّ

فالطريق الوحيد للقضاء عليها؛ هو القضاء على تفرد شخصيتها؛ لذلك نجد أن

الهدف الأساسي من النظام العالمي الجديد، وما يعرف بالعولمة وأمركة العالم،

ومحاولة التمييع بين الأمم، نجده كله: القضاء على شخصية الأمة المتميزة من

أجل تفتيتها والقضاء عليها.

ورغم أنهم يعتبرون أن الهوية اليابانية قد تخطت مرحلة تحدي الوجود، على

حد قول (لاتوش) في كتابه (تغريب العالم) : (يشكل النجاح الأكيد لليابان الذي

خلص آسيا من أسطورة الرجل الأبيض، تحدياً رهيباً، لتفوق العرق الأبيض) ،

رغم هذا التحدي نجدهم يغضّون الطرف عن اليابان؛ لأن أمامهم ما هو أخطر..

أمامهم الإسلام الذي يهددهم كعقيدة في منهجه وأصوله، وكنظام في فكرتي: الدعوة، والجهاد.

* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:

من باب التمثيل على ما ذكر الدكتور مصطفى جزاه الله خيراً أذكر قول

(نيكسون) في كتابه: (انتهز الفرصة) : (إننا لا نخشى الضربة النووية، ولكننا

نخشى الإسلام والحرب العقائدية التي قد تقضي على الهوية الذاتية للغرب) ! إذن

المسألة بالنسبة إليهم مسألة حياة أو موت، لذلك يقول في الكتاب نفسه: (إن العالم

الإسلامي يشكل واحداً من أكبر التحديات لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية

الخارجية في القرن الحادي والعشرين) .

وقال (إيوجين روستو (رئيس قسم التخطيط بوزارة الخارجية الأمريكية،

ومساعد وزير الخارجية الأمريكية، ومستشار الرئيس (جونسون) لشؤون الشرق

الأوسط حتى عام ١٩٦٧: (إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء

مكمل للعالم الغربي: فلسفته، وعقيدته، ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم

الشرقي الإسلامي، بفلسفته، وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي، ولا تستطيع

أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام، وإلى جانب العالم

الغربي والدولة الصهيونية؛ لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها

وثقافتها ومؤسساتها) .

وبهذا يتضح لمن لديه أدنى بصيرة أن هدف القوم الأكبر؛ هو طمس هويتنا

باستبدالها بأخرى أياً كانت، سواء أكانت هوية تفتتنا كالهويات الوثنية أو القومية أو

القطرية، أو كانت تميعنا وتذوبنا فيها كالعولمة؛ فالمهم عندهم محو الهوية

الإسلامية المتميزة، ليحال بين الإسلام وبين الشعوب، في حاضرها ومستقبلها،

ويصبح مثلنا كمثل الذي قيده عدوه، بعد أن جرده من سلاحه وانتزع أظفاره،

وخلع أسنانه، ثم وضع الغل في عنقه، والقيد في معصمه، ومع هذا يطلب منه:

شكر العدو على هذا الصنيع، والفخر بالغل، والتباهي بالقيد، والاعتزاز باستعباد

ذلك السيد إيانا!

هذا التصور ليس وساوس أو تهيؤات، ولكنه حقيقة تشهد لها شواهد، منها

قول (كلينتون) : (إن أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وإننا

نستشعر أن علينا التزاماً مقدساً لتحويل العالم إلى صورتنا) .

قبل أن نتناول مظاهر الحرب على الهوية، نريد أن نعرف حكم الشرع في

المساس بهذه الهوية.

* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:

تشويه الهوية أو إضعافها عمل إجرامي تآمري يرقى بل ينحط إلى مستوى

الخيانة العظمى لأمة التوحيد. قال الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، شيخ الجامع

الأزهر السابق رحمه الله تعالى: (إن البحث عن هوية أخرى للأمة الإسلامية خيانة

كبرى، وجناية عظمى) ، ولقد لعن رسول الله لله من غيّر منار الأرض، فكيف

بمن يغير هوية أمة، ويُضلها عن طريق النجاة؟ !

في ضوء قوله تعالى: [وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ]

[الأنعام: ٥٥] .

نود أن نذكر -بشيء من التفصيل- مجالات وأساليب طمس الهوية الإسلامية.

* الشيخ/محمد بن إسماعيل:

أما عن الأساليب التي استعملت لطمس هويتنا فمنها:

إضعاف العقيدة، وزعزعة الإيمان: لأن العقيدة هي خط الدفاع الأول، ومن

وسائل ذلك: زرع الصراعات الفكرية التي تشوش الأفكار، وتشتت الأذهان عن

طريق بعث الفلسفات المضادة للتوحيد، وإحياء التصوف الفلسفي، ونشر تراث

الفرق الضالة كالباطنية والمعتزلة والرافضة، وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم

والسنة المطهرة والسيرة النبوية الشريفة، وهز الثقة في السلف الصالح، والتركيز

على عرض ما يناقض التوحيد بصورة تغري بالإلحاد، كنظرية (داروين) ، وتاريخ

الأمم الوثنية كالفراعنة وغيرهم، دون أي نقد، لا: [لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ]

[الأنعام: ٥٥] ، ولكن لننبهر ونفخر بسبيل المجرمين.

* د/مصطفى حلمي:

يضاف إلى ما ذكره الشيخ محمد في هذا الباب: إنشاء وتغذية المذاهب

والمبادئ الهدامة، التي تطعن من الخلف، كالماسونية، والبهائية، والقاديانية،

وأمثالهم، واشتغال المسلمين بها لتفتنهم عن دينهم.

* د/جمال عبد الهادي:

ومن هذه الأساليب: محاولة تجفيف المنابع: عبر وسائل التسلية والإعلام،

وتشويه صورة الإسلام ورموزه، وتقليص المقررات الشرعية والتاريخ واللغة

العربية، باعتبارها روافد تغذي الهوية، وعن طريق حصار المسجد وتكميم أفواه

الدعاة، وإغلاق الكتاتيب ومدارس المعلمين التي تخرّج المحفظين.

* د/ مصطفى حلمي:

إضافة لما ذكره الدكتور جمال حفظه الله في هذه النقطة، فإن سياسة تجفيف

المنابع المراد منها إلغاء أي سلطة شرعية على المجتمع، وبأي صورة، سواء

كانت في الصور التي ذكرها الدكتور، أو في إلغاء المحاكم الشرعية، أو في

السيطرة على أوقاف المسلمين، أو في إنشاء مؤسسات معلمنة لتنافس البقية الباقية

للمؤسسات الشرعية، كإنشاء كليات الحقوق لتزاحم كليات الشريعة.

* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:

في الحقيقة أن من أخطر أساليب طمس الهوية ومسخها (تسميم الآبار

المعرفية) التي تستقي منها الأجيال، أعني تخريب مناهج التعليم بكافة مراحله،

وهذا ما يسمونه بكل صراحة: (تجفيف منابع الإسلام) ! ! هذه المؤامرة لم تبدأ

اليوم، ولكن منذ أكثر من قرن، ولم تبدأ من الصفر، ولكنها تُستمد من معين

المنطلقات التي صنعها الاستعمار والاستشراق والتبشير، ويكفي أن القس (دنلوب)

تمكن في عشرين سنة من تخريب العقول والنفوس والضمائر والعواطف من خلال

سياسته التعليمية، بصورة ما كانت تحلم بريطانيا بتحقيق ربعها لو جندت في سبيل

ذلك مليون جندي بريطاني.

وقد أنطق اللهُ (كرومَر) رائدَ التغريب في مصر بهذه الحقيقة، فقال: (إن

الحقيقة أن الشباب المصري الذي قد دخل في طاحونة التعليم الغربي، ومر بعملية

الطحن يفقد إسلاميته، وعلى الأقل أقوى عناصرها وأفضل أجزائها، إنه يتجرد

عن عقيدة دينه الأساسية) .

* د/ جمال عبد الهادي:

من صور التجفيف التي آتت أكلها الخبيثة عزل المؤسسات الدينية عن أداء

دورها أو التأثير في المجتمع وهو ما أفلح (دنلوب) في نيل نصيب منه، وتجري

بقية فصول المؤامرة إلى اليوم، وهذه أعظم فرصة للاستعمار الثقافي ليقوم بدوره

في الفكر والتشريع والحياة، والذي ينشأ عنه ضعف الوازع الديني رغم أنف كثير

من الناس، بل إن كثيراً منهم قد لبس الإسلام كما يلبس الثوب مقلوباً.

ولهذا كانت الجولة الحالية لصالح الاستعمار، لما جُنّب الإسلام قصداً عن

المعركة، ولكن لم يكن بالدبابة والمدفع، ولا بالأسطول والطائرة، وإن كانت هذه

الأسلحة قد وقفت تدعم سلاحاً أعمق جرحاً وأبلغ أثراً؛ الأستاذ الذي أفسد التفكير،

والعلم الذي زرع الشك، والكتاب الذي أمرض اليقين، والصحيفة التي نشرت

الرذيلة، والقلم الذي يزين الفاحشة، والفن الذي يشجع على الفجور، والمهازل

التي قتلت الجد والرجولة، والمسكرات التي تذهب بكل شيء، والشهوات التي

تخرم المروءة، والكماليات التي تشغل الكواهل، والأعراف التي تناقض فطرة الله، والمعاني الكافرة التي تطرد المعاني المؤمنة من القلوب، هذا هو حصاد تجفيف

المنابع المرير، ولله المشتكى!

* أ/جمال سلطان:

ومن أساليب طمس الهوية أيضاً: إفساد اللغة العربية واللعب في مجال

الثقافة:

نشطت عملية الإفساد في اللغة العربية بصورة كبيرة مثلها مثل بقية الأبعاد

منذ وقت مبكر.

فنجد دور (طه حسين) في ذلك؛ إذ نحا منحى أستاذه (مرجليوث) في التشكيك

في مصادر اللغة والقرآن، وأكمل معه الدور أحمد لطفي السيد، الذي سعى سعياً

حثيثاً (لتمصير العربية) ، من أجل إزالة فكرة الولاء والبراء، مدعياً أن المصالح

وحدها هي التي تربط بين الشعوب، لذلك استنكر تعاطف المصريين مع إخوانهم

في ليبيا منذ الاحتلال الإيطالي، واعترض على دستور عبد الناصر الذي نص على

أن مصر جزء من الأمة العربية، فأطلق شعار: (مصر للمصريين) ! .

ومن هنا يظهر أن تدمير اللغة لا يعني سوى تحريف العقيدة، وقد قام بدور

مشابه لهذا، (الموارنة) في لبنان، الذين أقاموا جمعيات أدبية وشعرية كانت تغذيها

قوى مشبوهة لتدمير اللغة والأدب، على اعتبار أنهم مجموعة (الرابطة القلمية)

ذات العلاقات الماسونية، والتي ضمت جبران ومخائيل نعيمة، وتعجب من تلميعهم

رغم أن كل أعمالهم كانت للكيد للغة العربية، لصلتها القوية بالإسلام، فيقدمونهم لنا

كمجموعة أدبية متميزة، مع أن لهم أقوالاً في منتهى الخطورة؛ منها على سبيل

المثال: (نحن لن ننتمي إلى الشعب العربي، ولا إلى الجنس العربي نحن

فينيقيون) .

ونعجب من إبراز مثل هؤلاء على حساب النماذج الإسلامية الأصيلة،

فندرس في الهند عن (طاغور) الهندوسي، ولا نعرف شيئاً عن (إقبال) المسلم،

رغم أنه إلى جانب كونه مسلماً فإنه صاحب قضية، بل وصل اللعب في هذا

المجال إلى حد من التسطيح والتحريف، لدرجة أنهم كانوا يدرسون لنا قصيدة

لمطران بعنوان: (فتاة الجبل الأسود) ، وكان مطران يتغزل بفتاة صربية كافرة،

ويتغنى ببسالتها في مقاومة (الغزو التركي العثماني) حسب قولهم أو (المسلمين) كما

هو معلوم، ولأن الأمة قد مزقت وغيب وعيها، فلم يعد أحد يعرف ما الجبل

الأسود أو البوسنة، أو أفغانستان أو غيرها؟

وأعود فأقول: إن هذا التدمير قد واكبه تدمير في جميع أبعاد الهوية، سواء

في الشريعة أو الاجتماع أو الأخلاق أو السلوك، ولأن الهوية تكامل نفسي وفكري،

فلذلك كان عليهم أن يلعبوا على كل الخيوط من أجل إفساد الهوية.

* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:

أعظم دافع للتآمر على اللغة العربية هو شدة ارتباطها بالقرآن والإسلام،

وأثرها في وحدة الأمة، وقد تم ذلك عبر محاور عدة منها: تشجيع اللهجات العامية، والمطالبة بكتابتها بالحروف اللاتينية، وتشجيع اللغات الأجنبية على حساب لغة

القرآن الكريم، وتطعيم القواميس العربية بمفاهيم منحرفة كقاموس (المنجد) ،

والطعن في كفاءة اللغة العربية وقدرتها على مواكبة التطور العلمي.

وإذا كانت (الثقافة) هي مجموع القيم التي ارتضتها الجماعة لنفسها، لتميزها

عن غيرها من الجماعات، فإن اللغة هي وعاء الثقافة، ومظهرها الخارجي الذي

يميزها.

إن لغتنا ليست لغة قومية، لكنها لغة دينية تجمع حولها المسلمين جميعاً عرباً

وعجماً.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (اللغة العربية من الدين، ومعرفتها

فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية،

وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) اهـ.

وقال المرتضي: (من أبغض اللسان العربي أدّاه بغضه إلى بغض القرآن

وسنة الرسول لله، وذلك كفر صراح، وهو الشقاء الباقي، نسأل الله العفو) اهـ.

إن للغة دوراً خطيراً في توحيد الأمة، وهاك أمثلة توضح ذلك:

الأول: (إيرلندا) التي رزحت تحت الاحتلال الإنكليزي منذ أوائل القرن

الثاني عشر الميلادي، وذاقت منه الويلات، خصوصاً على يد (كرومويل) الذي

أعمل السيف في رقاب الإيرلنديين، وشحن عشرين ألفاً من شبابهم وباعهم عبيداً

في (أمريكا) ، ونفى أربعين ألفاً خارج البلاد، وتمكن من طمس هويتهم بمحو لغتهم

الإيرلندية، وتذويبهم في المجتمع البريطاني.

ولما حاول بعض الإيرلنديين الوطنيين بعث أمتهم من جديد أدركوا أن هذا لا

يتم ما دامت لغتهم هي (الإنكليزية) ، وما دام شعبهم يجهل لغته التي تميز هويته،

وتحقق وحدته.

وأسعفهم القدر بمعلّم يتقن لغة الآباء والأجداد؛ دفعه شعوره بواجبه إلى وضع

الكتب التي تقرب اللغة الإيرلندية إلى مواطنيه، فهبوا يساعدونه في مهمته حتى

انبعثت من رقادها، وشاعت، وصارت (النواة) التي تجمع حولها الشعب، فنال

استقلاله، واستعاد هويته، وكافأ الشعب ذلك المعلم بانتخابه أول رئيس لجمهورية

(إيرلندا) المستقلة هو الرئيس (ديفاليرا) .

الثاني: (ألمانيا) التي كانت مقاطعات متفرقة متنابذة، إلى أن هبّ (هَرْدِر)

الأديب الألماني الشهير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ينادي بأن (اللغة)

هي الأساس الذي يوحّد الشعوب، والنواة التي تؤلف بينها، فانطلق الأدباء يعكفون

على تراثهم القديم أيام كانوا أمة واحدة، وقاموا بإنعاش تراثهم الأدبي، ونسجوا

حوله قصصاً وبطولات خلبت ألباب الشباب، وتغنوا بجمال بلادهم، وأمجاد

أسلافهم، فتجمعت عواطفهم على حب الوطن الكبير، وتطلعت نفوسهم إلى

الانضواء تحت لواء (هوية ألمانية) واحدة، الأمر الذي مهّد الطريق أمام (بسمارك)

لتعبئة الشعور القومي، وتوحيد ألمانيا، وإقامة (الإمبراطورية الألمانية) التي كان

(بسمارك) أول رئيس وزارة (مستشار) لها.

الثالث: أعاد اليهود اللغة العبرية التي انقرضت من ألفي سنة وبعثوها من

مرقدها، حتى صارت لغة العلم بالنسبة لهم، وألفوا بها أدباً نالوا به ما يسمى جائزة

نوبل، لقد وحدت هذه اللغة لسان الشتات المتفرق بين (٧٠) لغة، وحولته إلى

لسان واحد.

ومن هنا يتضح أن إهمال العربية أو تهميشها أو ترقيعها يصب في خط واحد، هو: هدم الهوية الإسلامية!

والعجب كل العجب من شماتة المستشرق الألماني (كاممفاير) إذ يقول: (إن

تركيا منذ حين لم تعد بلداً إسلامياً) لماذا؟ (فالدين لا يدرس في مدارسها، وليس

مسموحاً بتدريس اللغتين العربية والفارسية في المدارس، وإن قراءة القرآن العربي

وكتب الشريعة الإسلامية، قد أصبحت الآن مستحيلة، بعد استبدال الحروف

اللاتينية بالحروف العربية) .

* د/مصطفى حلمي:

* ومن أساليب طمس الهوية: تزييف التاريخ الإسلامي: والتشكيك في

حوادثه، وإبراز النماذج المنحرفة، والحوادث المؤسفة، وتضخيمها؛ لتتشبع

الأجيال الناشئة بكراهية الإسلام والنفور من تراثهم وتاريخهم.

ومن هذا الباب السخرية من رموز الإسلام من أجل إضعاف التأثر بهم.

* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:

من محاولات تزييف التاريخ الإسلامي؛ محاولة تفسيره تفسيراً قومياً كما

يفعل البعثيون الذين يريدون أن يبتلعوا الإسلام في بطن قوميتهم حين يزعمون أن

الإسلام مرحلة في تاريخ العروبة.

أو تفسيره تفسيراً مادياً كما يفعل الماركسيون حيث يصورونه على أنه تاريخ

صراع طبقي، أو صراع مصالح بين الأمراء والخلفاء والملوك.

والهدف من وراء كل ذلك واضح، وهو الحيلولة بين الأمة وبين اتخاذ

تاريخها الحقيقي منطلقاً للنهوض من كبوتها.

أما المنهج الصحيح والواقعي فهو: فهم التاريخ البشري كله على أساس أنه

تاريخ دين سماوي واحد؛ هو (الإسلام) ، من لدن آدم عليه السلام إلى محمد لله

وحتى يرث الأرض ومن عليها.

ومن تزييف التاريخ أيضاً: طمس المعالم التاريخية، والحفريات التي تصحح

تاريخ العقيدة، وتكشف أن التوحيد هو الأصل وأن الشرك طرأ عليه، وكذا الوثائق

التي تثبت التحريف في كتب أهل الكتاب، والتي تدعم الإسلام وتؤيده.

ويجدر بنا الإشارة إلى مؤامرة تزييف تاريخ (الإبراهيمية الحنيفية) التي هي

جذر الإسلام، وذلك عن طريق نشر فكرة (السامية) التي تركز على القول، بأن

هناك أصلاً واحداً مشتركاً بين العرب واليهود، هو (سام بن نوح) ، في حين أن

القصد الحقيقي من ورائها هو التعمية على انتساب العرب إلى إسماعيل بن إبراهيم

عليهما السلام وعزو تاريخ إسماعيل وذريته إلى مصدر غامض مجهول السند.

وذلك بقصد صرف الأنظار عن هويتنا الحقيقية التي هي ملة إبراهيم عليه

السلام التي أولاها القرآن الكريم أعظم الاهتمام ونسبنا إليها، وحثّنا على اتباعها

وبرّأ إبراهيم عليه السلام من كونه يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً.

ومن أساليب طمس الهوية كذلك: الحرب النفسية المدعمة بالأساليب التعسفية: لقمع وإنهاك رموز الإسلام والدعاة إلى الهوية الإسلامية، وتنحيتهم عن مواقع

التأثير الإعلامي والتربوي، وتسليط الحملات التي تصفهم بالتطرف والإرهاب

والأصولية، مع تركهم مكشوفين في العراء، عرضة لانتقاد وسخرية أعداء الهوية؛ كيلا يشكل الدين أي مرجعية معتبرة للأمة.

ومنها: إشغال المسلمين بالشهوات ووسائل الترفيه التي تستهلك طاقات

المسلمين وأوقاتهم، وتدفع المجتمع إلى السطحية في النظر إلى الحقائق، وذلك

بزيادة معدلات تعرضه للإعلام الترفيهي، مع تقليل الزمن المتاح للتأمل والتفكر

والتدبر في الأحداث اليومية، وبذا تعد وسائل الترفيه آلات الجراحة النفسية

المطلوبة لاستبدال الهوية.

* أ/جمال سلطان:

إذا اعتبرنا وسائل الترفيه بمثابة آلات تخدير واسترخاء فمن المعلوم أنه في

فترات الاسترخاء تضعف (المناعة الاجتماعية) بألوانها المختلفة، مما يعني اتساع

دائرة نفاذ الغزو الخارجي والتأثير على الهوية.

وبالتأمل في تاريخ الأندلس، وبالذات مرحلة السقوط، نجد أن الخطر ظهر

منذ أن غزت مظاهر الترف المجتمع من قمته إلى قاعدته، والترف ناشئ عن

الشعور بالاسترخاء وعدم وجود تحدّّ أو صراع؛ لأنه لا خوف من الصراع؛ إذ

يستنفر الطاقات ويوقظها، كما قال تعالى معللاً أخذ المؤمنين الحذر: [ ... وَدَّ

الَذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً ... ]

[النساء: ١٠٢] ، والحذر واجب ومتأكد حتى في الصلاة. والجسم المستنفر يقظ

قوي يصعب اختراقه، على عكس المسترخي والمستأنس الذي غابت عنده قضية

الولاء والبراء، فبدأت اللوثات في المزاحمة.

* د/مصطفى حلمي:

من هذه الأساليب: اتباع سياسة التصفية العرقية والتهجير: وتعد الهند

أنموذجاً لذلك، فبعد أن كانت قارة مسلمة، حولتها بريطانيا إلى مقاطعات، وفصلت

بين المسلمين وإخوانهم بالهندوس.. ومكّنت الهندوس من الحكم برغم أنهم كانوا

أقلية؛ وقد تم مثل هذا الأمر في أماكن عديدة أقربها ما حدث في البوسنة والهرسك.

* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:

يضاف إلى ما ذكره الدكتور مصطفى حفظه الله ما جرى من طمس للمعالم

التاريخية التي تؤكد الانتماء الإسلامي، كما فعل النصارى في الفردوس المفقود:

(الأندلس) ، وكما فعل (أتاتورك) في تركيا؛ حينما حوّل مسجد (أيا صوفيا) إلى

مُتْحَفٍ وبيت للأوثان، وطمس منه آيات القرآن والأحاديث، وأعاد كشف ما كان

الفاتحون قد طمسوه من الصور التي زعمها النصارى للملائكة، وكذا صور من

يسمونهم القديسين، والصلبان، والنقوش النصرانية.

وكما فعلت الوحوش الصربية في البوسنة، حيث كانت تنتقي بعناية

المواريث الرمزية والتاريخية الإسلامية لتقصفها وتدمرها، من أجل تجريد الذاكرة

الجماعية لشعب البوسنة من رموز الهوية الإسلامية ومعالم حضارتها.

وكما يفعل اليهود لعنهم الله في القدس وغيرها من مناطق فلسطين السليبة.

* د/جمال عبد الهادي:

ومنها: إفساد الأخلاق من خلال إشاعة الفاحشة: وتشجيع الشباب والفتيات

عليها تحت مسمى التحرر وإباحة الاختلاط واللواط والشذوذ، وهو ما يسمونه

(زواج الأفراد) ! ، ويعقد من أجل ذلك مؤتمرات رسمية دولية كمؤتمر السكان،

ومؤتمر السكان والصحة الإنجابية، ومؤتمر المرأة.

* أ/جمال سلطان:

في هذا المجال يبرز دور الأفلام والمسرح المهرج، الذي لعب دوراً خطيراً

في تشويه صورة النموذج الإسلامي وإفساد الأخلاق والسلوك، والتسويق للنموذج

التغريبي بقيمه وعاداته وسلوكياته.

* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:

ومن أخطر هذه الوسائل: استقطاب المرأة المسلمة، والتغرير بها: عن

طريق دعاوى تحرير المرأة ومساواتها بالرجل، والترويج لفكرة (القومية النسائية)

التي تربط المسلمة باليهودية، والنصرانية، وعابدة الأبقار والأوثان، والملحدة،

كأن قضيتهن واحدة! ومعتقداتهن واحدة! ومطالبهن واحدة! ومعركتهن ضد

(الرجل) واحدة أيضاً! !

* د/ مصطفى حلمي:

ومن هذه الوسائل: إقامة دولة لليهود في قلب العالم الإسلامي: وتحويل اسم

المنطقة إلى مسمى (الشرق الأوسط) لتذويب الوجود الإسلامي فيها.

* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:

ومن هذه الوسائل: النشاط التنصيري: الذي يستغل الفقر والمرض، كما

حدث ويحدث في إفريقيا وفي إندونيسيا، وكما كان يحدث في المدارس الأجنبية،

من دعوة صريحة للتنصر، وإن كان تم تطوير أساليبهم الآن بحيث تكتفي بقطع

صلة التلاميذ بالإسلام، وتذويب هويتهم الإسلامية وتحقيرها، وصبغهم بصبغة

غربية، تمهيداً لاعتلائهم مراكز التأثير في المجتمع في المستقبل، وقد قال عميد

المبشرين يوماً: (المبشر الأول هو المدرسة) .

ومنها: استلاب الهوية الإسلامية وتشتيتها: عن طريق ضربها بهويات

أخرى قومية أو وطنية، وكذلك تشجيع النزعات الطائفية والقبلية الاستقلالية،

لتسخيرها لتكون عوامل إثارة وقلقلة لضرب وحدة المجتمع المسلم، وإثارة البلابل

والفتن، وأوضح مثال حي اليوم: قضية البوليساريو في المغرب، والبربر في

الجزائر.

ومنها: تجهيل العلم: بحيث يفقد صلته بالخالق سبحانه ودلالته على توحيده، فإن العلم أقوى مؤيد لدعوة التوحيد ودين الفطرة، بما يكشف عنه من آيات الله

في الآفاق وفي الأنفس، وفي سبيل ذلك يعمدون إلى تجاهل ذكر الله عز وجل

ونسبة الآيات الكونية إلى الطبيعة، ومحاولة عزو أحداث الكون إلى الظواهر

الطبيعية دون ربطها بمشيئة الله وقدرته عز وجل.

ومن هذه الأساليب: تذويب الهوية الإسلامية في الثقافة الغربية: عن طريق

اصطناع عملاء مأجورين، يبيعون كل شيء إرضاءً لساداتهم، فيمارسون جريمة

محو ذاكرة الأمة، وارتباطها بتاريخها المجيد، الذي هو خميرة المستقبل، وتمجيد

كل ما هو غربي، وتحقير كل ما هو إسلامي، ومزاحمة رموز الإسلام برموز

ضلالات التنوير والحداثة والعصرانية، وعرض أنماط الحياة الاجتماعية في

الغرب بكل مباذلها وسوءاتها بصورة جذابة ومغرية.

* د/ مصطفى حلمي:

ومن أكثر الوسائل تأثيراً: التغريب: و (التغريب) كما يعرّفه د. محمد

محمد حسين رحمه الله: (هو طبع العرب والمسلمين أو غيرهم بطابع المدنية

الغربية، وهذا الذي يسميه سماسرته (تطويراً) ، وهو ما يعنونه عندما يتكلمون عن

بناء المجتمع من جديد، وهم ماضون في الهدم، لا يرضيهم إلا أن يأتوا على

بنياننا من القواعد، ولكنهم سوف يعجزون عن البناء فيهدمون مجتمعاتنا ثم

يتركونها وسط أنقاض النظام القديم في فوضى لا سكن فيها ولا قرار.

وحتى نعلم كيف تتم عملية التغريب وفق تصور الغرب أنفسهم نقرأ كلاماً لـ

(لاتوش) إذ يقول في كتابه: (تغريب العالم) : (ينطلق فيض ثقافي من بلدان المركز، ليجتاح الكرة الأرضية، يتدفق على شكل صور.. كلمات.. قيم أخلاقية..

قواعد قانونية.. مصطلحات سياسية.. معايير.. كفاءة، ينطلق كل ذلك، ليجتاح

بلدان العالم الثالث من خلال وسائل الإعلام، المتمثل في إذاعات وتليفزيونات،

وأفلام وكتب، وأسطوانات فيديو، وأطباق استقبال فضائية (دش) ، ينطلق عبر

سوق المعلومات التي تحتكرها الوكالات العالمية الأربع: أسوشيتدبرس،

ويوناتيدبرس (الولايات المتحدة) ، ورويتر (بريطانيا) ، وفرانس برس (فرنسا) ،

وتسيطر الولايات المتحدة على ٦٥% من تدفق هذه المعلومات.

هذا الفيض من المعلومات يشكل رغبات وحاجات المستهلكين، أو بتعبير

آخر: (الأسرى السلبيين) : أشكال سلوكهم، عقلياتهم، مناهج تعليمهم، أنماط

حياتهم) ، وبذلك تذوب الهويات الذاتية في هذا الخضم من الغزو؛ لأن مواد الغزو

تصنع في معامل الغرب وفق معاييره ومواصفاته المعيبة.

ومن هذا الكلام يتضح لنا أن التغريب، والاستعمار، والتنصير ما هي إلا

ثلاثة أوجه لحقيقة واحدة، وأن الاستعمار بدأ يتشكل في أشكال جديدة.


(١) أبو داود: كتاب البيوع، حديث رقم (٣٤٦٢) .