للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضايا ثقافية

تقويم العلوم الاجتماعية المعاصرة

والأسلوب الإسلامي البديل

د. محمد منظور عالم

[وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ولا تَنسَ نّصِيبكَ مِنَ الدُّنْيَا وأحْسِنْ كَمَا

أحْسَنَ اللَّه إلَيْكَ ولا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأرْضِ إنَّ اللَّه لا يُحِبُّ المفْسِدِين]

[القصص: ٧٧] .

في وقت يمر فيه العالم بمرحلة حرجة من التغيير الاقتصادي، والنمو

السكاني، والصراعات المسلحة وموازنة القوى والأمن الوطني (في إطار تقليدي

من التفكير) وعدم الاستقرار ... من جهة، والنمو التحوّلي السريع والتدهور البيئي، والطفرات التقنية العالية، وارتفاع في درجة الحرارة العالمية من جهة أخرى،

أضف إلى ذلك أن القرن العشرين يودِّعنا ونحن نستقبل الآن القرن الحادي

والعشرين؛ حيث تتوقع البشرية أن تعيش تغيرات هائلة في التقنية وتحوّل أعداد

كبيرة من اللاجئين الاقتصاديين من المناطق الفقيرة في العالم إلى المناطق الغنية؛

فالعالم في مفترق طرق حيث يمكن أن تسيطر الفوضى وتنفصم عرى الأخوة ولا

يسود العدل في المجتمع.

إذن: فإن عبء التحديات والمسؤوليات يقع على كاهل العلماء الاجتماعيين

عموماً والمسلمين منهم على وجه أخص؛ وحتى نتمكن من الاستيعاب الجيد للوضع

فإننا نعرضه في ثلاثة أقسام: نستعرض في القسم الأول تقويماً من منظور تاريخي، وفي القسم الثاني: نتناول بعض المتغيرات التي يحتمل أن تحدث في المستقبل،

أمّا في المرحلة الأخيرة: فإننا نحاول تقديم بعض البدائل.

مما لا شك فيه اليوم: أن العلوم الحديثة جزء لا يتجزأ من الحضارة

الأوروبية (والطريقة الغربية في الحياة) ، وهي تعكس أخطاءها وكذلك فضائلها

[راريت ١٩٧٥، ص ٣٧٥] ، إن أي معالجة للطريقة في العلوم كما يقول (جوذ

قلترنغ) (١٩٧٧م) (دون الرجوع للهيكل الاجتماعي الذي يشكل الأساس، إنما هو

خطأ وديكتاتورية..) (ص ١١٣) .

وقد أصاب (بيرقن) (١٩٨٠م) حين قال: لقد فقد العلم سلطته السابقة كمصدر

مسيطر على الحقيقة، وينعكس هذا التغيير على التحليل الذي يوضح العلم كشكل

ثقافي محسوس وقيمة ناقلة؛ وعلى الرغم من وجود قناعة بأهمية الأسلوب العلمي

إلا أن هناك خداعاً عاماً من حيث الطريقة التي استخدم بها هذا الأسلوب العلمي

وعدم القناعة بأنه هو العلاج لأمراض الإنسانية.

إننا إذا أجرينا تحليلاً دقيقاً لمفهوم الطرق (العلمية) في إطار الإنسانية فربما

نصل مباشرة إلى (التجريبية المنطقية والإيجابية) كما أن التعريف القياسي للطريقة

العلمية التقليدية توضح أسسها الإيجابية التجريبية، والطريقة العلمية كما يعرفها

(ثيرودورسان) هي: (بناء جسم من المعرفة العلمية من خلال الملاحظة والتجربة

والعموميات والتحقق) . ودون الدخول إلى تفاصيل الانحيازات وتحديد (الطريقة

العلمية) (التجريبية المنطقية) و (الإيجابية) فيمكن أن يقال: إنها تتجاهل وتقصي

نهائياً جميع المصادر الأخرى للحصول على المعرفة وامتلاكها، وبالأخص الوحي.

وهكذا يبدو أن هناك اتفاقاً عاماً اليوم على أن ظهور ذلك التقليد المنحاز من

الإيجابية والتجريبية بتركيزها ذي العقلية الأحادية على تجربة الحس الإنساني،

كان هو الثمرة المرّة لذلك الصراع بين الكنيسة والعلم أثناء ما يسمى بعصر النهضة

وحركة التنوير الفلسفية، وفيما صمّم العلماء على الانعتاق من سلطة الكنيسة مهما

كلف الأمر فقد كان يبدو أنهم قرروا (إلقاء الجنين الوليد مع ماء الغسيل)

[ليفي ١٩٧٥، ٢٦١، تاولمن ١٩٧٥، ٣٧٨، إبراهيم رجب ١٩٩٣] .

وكان من المؤسف أن العلماء الاجتماعيين أيضاً تبنوا ما يعرف بـ (الطريقة

العلمية) عند دراستهم للإنسانية ويكفي أن نورد ما يلي:

(تعد أساليب العلوم الطبيعية الوسائل الوحيدة الدقيقة للحصول على المعرفة؛

لذا ينبغي أن تقتصر العلوم الاجتماعية على استخدام هذه الأساليب وتقتدي بالعلوم

الطبيعية) [ثيودورسون ١٩٦٩، ٣٠٦] .

لا أحد ينكر الأثر العميق للأسلوب (العلمي) على العلوم الاجتماعية، وقد

استخدمت (أساليب البحث وتعميماته مما يعكس الادعاءات المتكررة نفسها

وادعاءات نظرية المعرفة [فورد ١٩٨٤] كل هذا قد جرى دون توجيه نقد حقيقي؛

فقد اختلف موضوع مسألة العلوم الاجتماعية بطريقة متميزة جداً عن العلوم

الطبيعية) [ويكي ١٩٨٧، ٢٢٢] وقد كانت التأثيرات موهنة للغاية.

ولسنا بحاجة إلى الاستمرار في توثيق إخفاق العلوم السلوكية والاجتماعية في

فهم الإنسانية وتقويم سلوكياتها؛ لأن ذلك موثق جيداً ومعروف، وهناك نقد يوجه

الآن نحو الربط بين هذه لإخفاقات؛ وفائدة تلك النظرة العتيقة للعالم والعلوم التي لا

تزال تهيمن على العلوم الاجتماعية [إبراهيم رجب ١٩٩٨: ٤٨١] وقد قال

(هوارد) في ذكاء لماح: (إذا امتلك الإنسان خصائص تختلف عن خصائص

موضوع المسألة التي تدرس بواسطة العلوم الأخرى فعندها ربما تكون العلوم

الملائمة بحاجة لأن تكون مختلفة إلى حد ما عن العلوم الموجودة الآن)

[١٩٨٥: ٢٥٩- ٢٦٠] .

ومن المفيد أن نذكر هنا أن الطفرة في الفيزياء وعلوم الأعصاب وعلم

الكونيات وعلم النفس تؤثر في نشاط علماء الاجتماع أيضاً؛ وذلك في تغيير

نموذجهم نحو ثقافتنا ومعرفتنا، يقول (كابري) (١٩٨٢) : لقد تسببت التغييرات

المثيرة في المفاهيم والآراء التي حدثت في الفيزياء وفي نظرياتنا المعاصرة للمادة،

في إحداث تغيير ملحوظ في رؤيتنا العالمية من الميكانيكية إلى رؤية روحانية وبيئية، وبقدر كبير من التبصر نحو طبيعة المادة وعلاقتها بالعقل الإنساني.. وقد أجابتنا

رؤية العالم بالفيزياء الحديثة التي تتناقض مع مجتمعنا الحاضر. وسوف تكون

هناك حاجة لشكل اجتماعي واقتصادي يختلف جوهرياً: ثورة ثقافية بالمعنى

الحقيقي للكلمة [الصفحات ١٧- ١٨] .

لا يسعنا المكان ولا الزمان للاستمرار في مدح التقدم المدهش الذي يحدث في

مجال الفيزياء وغيرها من العلوم، فنحن نحتاج هنا لأن نتوقف لحظة لتلخيص

التحليلات السابقة؛ فمن الواضح أننا نلج إلى عصر ما بعد الإيجابية في العلوم

الاجتماعية، وإن النموذج الجديد يضع اعتباراً للدور المهم الذي تلعبه الظواهر

الإدراكية وغيرها من الوعي الداخلي في تحديد السلوك الإنساني؛ وبهذا نجد أن:

(التجريبية في مكانها الصحيح؛ بمعنى أنها واحدة من أساليب كثيرة للمعرفة)

[ويك ١٩٨٧، ٢٢٣] .

إننا على قناعة بأن العوامل الروحية والبصيرة الدينية فوق كل ذلك ولها موقع

مهم تستحقه في المؤسسة العلمية، وسوف نتناول ذلك في القسم الأخير.

نحن لا نهدف إلى الخوض في تفاصيل النمو السكاني والتطور التقني

المتسارع، والطفرة في وسائل الاتصالات وفي الأموال، وظهور المؤسسات متعددة

الجنسيات، والصراعات العسكرية وعدم الأمان، والتطور المذهل في التقنية

الحيوية وفي تقنيات الإنسان الآلي، والطفرة الصناعية الحديثة والمخاطر التي تهدد

البيئة الطبيعية، والتهديد الكبير غير العسكري للسلامة ولشعوب هذا الكوكب،

ولكننا على كل حال قد نشير إلى بعض التغييرات في مجال الانفجار الديموغرافي

والتطور التكنولوجي والطفرة المالية وظهور المؤسسات متعددة الجنسيات وغيرها

في مقابل العدالة الإنسانية والاستقرار.

هناك جدل حول مسألة زيادة السكان وتبديد الموارد بالمعدل نفسه حول العالم. ويختلف الناس بأعراقهم ومجموعاتهم في أساليب الحياة؛ وذلك كله مجتمعاً

يتسبب في مسألة شائكة ذات صلة بالسياسة العالمية والمحلية والنسيج الاجتماعي

وسياسات الغذاء والطاقة والهجرة.

ودون الدخول في تفصيلات ما سبق فلننظر إلى الحقيقة المؤلمة وهي: أنه

بحلول عام ٢٠٢٥م وعام٢٠٥٠م ربما يصل تعداد سكان العالم إلى ٨. ٥ أو ٩. ٥

بليون نسمة على التوالي وهو أمر مرعب من منظور تاريخي، فقبل عام ١٩٢٥م

كان تعداد سكان العالم بليونين؛ ولكنه تضاعف عام ١٩٧٥م إلى ٤ بلايين، وفي

عام ١٩٩٠م وصل التعداد إلى ٥. ٣ بلايين نسمة [الإيكونمست ٢٠/١/١٩٩٠م،

ص ٩٠] . وعلى الرغم من انخفاض النمو السكاني في البلدان النامية وركوده

وانخفاضه الحاد في بعض البلدان المتقدمة إلا أن عدد السكان الهائل سوف يتزايد

على ظهر هذا الكوكب.

ويرى معهد (مالثوزيان) للاقتصاديين والديموغرافيين أن (العبء الذي سوف

يقع على هذه المدن والتي تفتقر أصلاً إلى الإسكان الملائم (أو أنه غير متوفر

أصلاً) وإلى التصريف الصحي، والنقل، وتوزيع الغذاء، ونظم الاتصالات إذا

تضاعف عدد السكان مرتين أو ثلاثاً ... فكيف يمكن توفير الغذاء للسكان خاصة في

أوقات المجاعات؟ وماذا يحدث لتلك العلاقات الحساسة وغير الواضحة بين المدن

والبلدان؟ وحتى إذا توفر الغذاء: فهل يمكن توفير الصحة والتعليم لهذه البلايين من

الشباب وبعد ذلك توفير الوظائف بمعدل يمنع البطالة وعدم الاستقرار الاجتماعي؟

[كنيدي ١٩٩٣م، ص ٢٧] .

وإذا أخذنا مصطلحات الاقتصاد الضخم مع القيم والمبادئ الاجتماعية الغربية

فإننا سوف نواجه مشكلة حقيقية لأولئك الذين تعدّت أعمارهم الخامسة والسبعين،

فإن (معدل استغلال الكبار) سوف يتسبب في معاملة غير إنسانية نظراً للاعتبارات

الاقتصادية التي تدعو إلى توظيف أفضل للموارد في الصناعة والتصنيع.

وربما يتفاقم الوضع بزيادة الاتصالات وبوجود المؤسسات متعددة الجنسيات،

إننا نعلم أن منتجي التقنية والذين يتحكمون فيها هي المؤسسات متعددة الجنسيات

التي تتزايد أحجامها واتصالاتها العالمية؛ ناهيك عن وضع الحلول للفجوة بين عالم

يملك وآخر لا يملك، وربما تتسبب الهياكل المتغيرة للتجارة الدولية والاستثمار في

تفاقمها [كنيدي، ص ٤٩] .

ونحن جميعاً نعرف أن تطور الاقتصاد العالمي كان دائماً في مصلحة الاقتصاد

الصناعي المتقدم وليس مصلحة البلدان النامية؛ ونتيجة لذلك وبعد حوالي خمسين

سنة من النمو الاقتصادي العالمي الذي ليس له مثيل: يستقبل العالم القرن الحادي

والعشرين بأكثر من بليون شخص يعيشون في حالة الفقر وهو رقم مخيف؛ خاصة

إذا اتضح أن هذا البليون يكابد ليبقى على قيد الحياة بأقل من (٣٧٠) دولاراً في

السنة.

إن هذا السعي نحو الرخاء العالمي قد حدث في الوقت نفسه الذي ظهرت فيه

الشركات الكبيرة ذات الجنسيات المتعددة وتفاعل معها وهي التي لا صلة لها

بمصالح أو قيم بلدانها الأصلية، وحيث إنها تتنافس مع غريماتها المماثلة لها في

الحصول على النصيب الأوفر من السوق العالمية؛ فقد ابتدعوا استراتيجية لتوجيه

الاستثمار والإنتاج من مكان إلى مكان آخر في العالم؛ وقد ساعدها على ذلك تلك

الطفرة الهائلة في وسائل الاتصال والتقنيات المالية التي وفرت سوقاً عالمية

للبضائع والخدمات [ب. كنيدي، ص ٤٩] .

إن التحرر المالي لم يكتف بتوسيع التجارة العالمية بل فتح أيضاً مجالاً

للاستثمار المباشر في التصنيع والخدمات من خلال التخصص في عملة معينة أو

في أدوات مالية أخرى، إن هذا الاندفاع في تدفق رؤوس الأموال العالمية يقود إلى

ظهور شيئين: إعادة ترتيب الأسواق المالية العالمية، وطفرات هائلة في

الاتصالات العالمية نتيجة للتقنيات، وبدون الزيادة الهائلة في طاقات الكمبيوتر

وبرامجه، والأقمار الصناعية والبصريات العصبية والكابلات والناقلات الإلكترونية

عالية السرعة والأسواق العالمية؛ فلم يكن من الممكن أن تعمل في وحدة اقتصادية

واحدة، كما أن المعلومات والسياسة والأفكار والتقدم الهائل الثقافي وتوجهات

الاستهلاك لم يكن من الممكن توفيرها فوراً لما يزيد على ٢٠٠. ٠٠٠ مؤشر

متصلة كلها بنظام الاتصال العالمي، وكل هذا حسب بعض آراء العلماء ربما يكون

فقط المرحلة الأولى.

ولا تكتفي المؤسسات متعددة الجنسيات بتمتعها بالمعايير الاقتصادية؛ ولكن

مؤسيسها أيضاً يضعون الحماية لأنفسهم من التقلبات غير المتوقعة للعملات،

ومختلف أشكال النمو الاقتصادي والتدخلات السياسية، ولن يهمهم أي نوع من

الركود الاقتصادي أو تراجع معدلاته، والشركة التي ترغب الاستثمار في بضائع

محظورة ببعض البيروقراطيات (خاصة في الصناعات البيوكيميائية) تستطيع أن

تحوّل صناعتها إلى جزء آخر من العالم لا توجد فيه مثل هذه القوانين، والمؤسسة

متعددة الجنسيات التي تقلق من الرقابة التطوعية التي تفرضها الحكومات لحماية

الشركات المحلية من المنافسة المفتوحة تستطيع دوماً أن تدور حول تلك الموانع

وأن تضع مشروعات داخل تلك المنطقة المحمية، وعندما يجدون ثغرة في

المعوقات التي يضعها المخططون فإنهم في الأغلب يجدون فرصاً طيبة للربح،

على الأقل في السنوات الأولى للسوق التي استطاعوا دخولها حديثاً

[ب. كنيدي، ص ٥١] .

لقد اشتهرت العالمية كثيراً ولكنها في الحقيقة ذات آثار عكسية على المصلحة

الوطنية والسوق المحلية وعمل العمال والمحليات التي تنكمش فيها العمالة الماهرة.

ومن الواضح أن الطفرة في علم التقنية الحيوية تتضمن احتمالاً لإعادة توزيع

أماكن إنتاج المحاصيل الزراعية (أو بدائلها) خارج العالم النامي؛ مما يتسبب في

تدهور الموقف التجاري والدخول في ديون، والاعتماد بشكل عام على الأقطار

الغنية، وهكذا فإن من غير الواضح مدى استطاعة المجتمعات العالمية على معالجة

النتائج الاقتصادية والاجتماعية ذات الحجم الكبير عندما تتحول إلى الزراعة بالتقنية

الحيوية وكذلك معالجة الأغذية) [ص، ٨١] .

ولنوجز هذا القسم في أن الانفجار الديموغرافي مع التطور السريع في التقنية

في مجالات الاتصالات والمؤسسات المالية والمستوى الراقي للتقنية في مجال

الزراعة من خلال التقنية الحيوية واستخدام الآلات سوف يتسبب في مشكلة خطيرة

لبقاء الجنس البشري.

إن البطالة والوظائف والنسيج الأخلاقي مسؤوليتنا؛ وواجبنا أن نتناول هذه

القضايا بالمناقشة والبحث حتى نجد لها الحلول.