للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تأصيلات دعوية

الوحدة بين المسلمين

ودورها في بناء الكيان الحضاري للأمة الإسلامية

لؤي عباس الهزايمة

إن موضوع الوحدة بين المسلمين، موضوع قديم حديث، ينبغي على الأمة

ألا تمل طرحه لما له من أهمية في بناء حياتها وكيانها، وسأعرض للموضوع

بشكل سريع دون الدخول في ثناياه وتفاصيله المترامية؛ فالموضوع يستقي أهميته

من عدة جوانب:

الجانب الأول: تركيز القرآن الكريم والسنة النبوية على هذه القضية،

واعتبارها هدفاً وغاية من غايات هذا الدين وأصلاً من أصوله.

والجانب الثاني: هو المنظور التاريخي، الذي يتمثل في بيان دور هذه

الوحدة في بناء حضارة الإسلام المجيدة؛ فالحديث عن الوحدة حديث عن عوامل

بناء دولة الإسلام في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتي تمثلت في المؤاخاة

بين المهاجرين والأنصار، والتي شكلت بدورها حضارياً أرسى دعائم هذه

الحضارة لقرون متتالية.

أما الجانب الثالث: فهو منظور الواقع، الذي يتمثل في حاجة المسلمين في

هذا الزمان إلى هذه الوحدة حتى يستعيدوا ريادتهم في قيادة الأمم، فالحديث عن

الوحدة بأشكالها وألوانها هو حديث عن مستقبل الإسلام، وحديث عن الحضارة

الإسلامية المقبلة؛ إذ لن يتسنى للمسلمين في زمننا هذا استعادة هويتهم وشهادتهم

على الناس إلا بتوحدهم؛ لأن مخالفة هذا التيار تيار الوحدة إنما يعني التشرذم

والتفكك ومن ثَمّ الانهيار الحضاري، والله سبحانه وتعالى يقول: [وَلا تَقْتُلُوا

أَنفُسَكُمْ..] [النساء: ٢٩] ، والقتل هنا قد يراد به المعنى الحقيقي ويراد به

المعنى المجازي الذي يعني التشرذم والتفكك المنافي للوحدة والذي يشكل معولاً من

معاول انهيار الحضارة الإسلامية، وعقبة من عقبات المسيرة الحضارية.

وإننا إذ نسعى إلى تحقيق الوحدة في واقع المجتمعات الإسلامية، نسعى إلى

تحقيقها ضمن مفهومها الواسع والشامل، بكل أشكالها وألوانها، فنريد [١] :

الوحدة الفكرية أو التصورية: وتعني اتفاق الأمة على الأسس المنهجية وعلى

وحدة النظر في شؤون الكون والحياة للوصول إلى الحقائق.

ونريد الوحدة الثقافية: والتي تعني اتفاق الأمة على الآليات التي يتم من

خلالها إنجاز الأمور النظرية علمياً في أرض الواقع.

ونريد الوحدة السياسية: والتي تعني وجود كيان سياسي واحد تتوجه إليه

أنظار المسلمين كافة، والذي يشكل المرجعية لتمكين منهج الله في واقع الناس.

ونريد الوحدة الوجدانية: والتي تمثل المشاركات العاطفية التي يحس بها

المسلمون تجاه بعضهم، فيفرح المسلم لفرح إخوانه المسلمين، ويحزن لأحزانهم،

ويتألم لآلامهم.

بهذه الوحدة وبمفهومها الواسع، قام الكيان الحضاري للأمة الإسلامية في عهد

النبي.

ومما تجدر الإشارة إليه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى رأسه

الجهاد في سبيل الله والذي يمثل العامل الأكبر لصيانة هذا الكيان، ما كان لتقوم له

قائمة لولا الوحدة، ولذا اعتبرها القرآن الكريم شرطاً من شروط القيام بمهمة الأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، يظهر ذلك

من تقديم قوله تعالى: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ... ] [آل عمران: ١٠٣] ،

على قوله تعالى: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ

عَنِ المُنكَرِ] [آل عمران: ١٠٤] .

السبيل إلى الوحدة:

لقد وجه الخطاب الإلهي أتباعه إلى سبيل الوحدة، فقال سبحانه وتعالى:

[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ... ] [آل عمران: ١٠٣] ، فالسبيل هو الاعتصام

بحبل الله المتين، والتمركز حول العقيدة الإسلامية، واعتبار نصوص الوحيين هما

المرجعية في تحديد الغايات، والمنطلق، والمسيرة (آليات العمل) ، للوصول إلى

الأهداف المرسومة.

وإن هذه الأمة لن تجتمع حتى تتوحد نظرتها العقدية، وفق فهم السلف الصالح، وتختط منهجاً يتفق ونهج النبي -صلى الله عليه وسلم-، مع مراعاة أوجه التغيير

ومواكبة تطورات الزمان والمكان، يقول تعالى: [إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا

رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ] [الأنبياء: ٩٢] .

وإننا بقدر ما نؤمن بحاجة الأمة إلى التغيير الفاعل في واقعها للخروج من

أزمتها الراهنة، بقدر ما نؤمن بأن العامل الأمثل للتغيير هو (تغيير الذات) ، [إنَّ

اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: ١١] ، ومن مقتضيات تغيير

الذات: التعالي عن معاني الحقد والتحاسد والبغض والكره للمسلمين، وتخلية النفس

من شوائب الازدراء والسخرية لأفراد المجتمع المسلم. وبالمقابل فإنه ينبغي تحلية

النفس بالمعاني النبيلة، والمعاني السامية: بمعاني الحب والود والعطف والشعور

بالرحمة والرأفة نحو المسلمين، وتبني قضاياهم وهمومهم، والسعي على ضعافهم

ببذل المعروف والمال، والصبر على إيذائهم والدعاء وبذل النصيحة لهم، فإن هذا

بمجموعه يولد مجتمعاً مترابطاً متماسكاً متآخياً، وهي الحالة التي أشار إليها النبي -

صلى الله عليه وسلم- بحالة الجسد الواحد في قوله: (مثل المؤمنين في توادهم

وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر

الجسد بالسهر والحمى) [٢] .

وحينما شرع الله سبحانه وتعالى الوحدة ودعا إليها، ووجه المسلمين نحوها،

شرع ما يؤدي إلى تحقيق هذه الوحدة ويعين عليها، ويعمل على صيانتها، فشرع

صلاة الجماعة التي يصلي فيها المسلمون ضمن حركات متناسقة تنساب كأنها أمواج

البحر، لا يشوبها تضارب أو تضاد، وبألفاظ واحدة، خلف إمام واحد، متجهين

إلى قبلة واحدة، يدعون إلها واحداً، وشرع الزكاة التي تمثل أكبر مظاهر التكافل

الاجتماعي في الإسلام، والتي تظهر فيه معاني التراحم والتعاطف، وشرع الصيام

الذي تظهر فيه معاني الشعور نحو الآخرين، والحج الذي يمثل بحق المؤتمر

العالمي الإسلامي السنوي، الذي يظهر فيه المسلمون بمظهر واحد يلبون نداء رب

واحد.

الفرقة وأثرها في الانهيار الحضاري:

إن للفرقة دوراً كبيراً في تعطيل مسيرة الأمة نحو غاياتها المثلى، وأهدافها

النبيلة، لتحقيق كيانها الحضاري للقيام بأمر الله، وتبليغ دينه، وتنزيل منهجه في

أرض الواقع لإسعاد البشرية في الدنيا والآخرة.

فالفرقة تبدد الطاقات وتنأى بها عن استثمارها في مساربها الصحيحة، وتثني

النفس عن عزيمتها وهمتها، وتجعل نظرة الأمة قاصرة، بعيدة عن التطلع نحو

آفاقها ومراميها، منشغلة بوضعها الداخلي، دون الانتباه إلى ما يحوم حولها ويحاك

ضدها من الدسائس والمؤامرات التي يقوم بها أعداء هذه الأمة، ومن هنا فقد حذر

القرآن الكريم المسلمين من الفرقة؛ يقول تعالى: [وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ

رِيحُكُمْ] [الأنفال: ٤٦] .

وبما أن المثال الواقعي والمترجم عملياً في أرضية الواقع، هو أبلغ في التمثل

والتأسي والاقتداء والاعتبار، ركز القرآن الكريم على هذا الجانب الذي يمثل

الجانب القصصي والتاريخي من الكتاب العزيز، فضرب القرآن لنا أمثلة واقعية

من واقع التاريخ الإنساني من واقع أهل الكتاب ليبين لنا دور الفرقة وخلخلة الصف

في زوال الأمم وانهيارها وذهابها، يقول تعالى: [وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا

وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ] [آل عمران: ١٠٥] ، ويقول: [إنَّ الَذِينَ

فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ] [الأنعام: ١٥٩] .

وإن نظرة إلى واقع المجتمعات الغربية، بما فيها أمريكا وأوروبا، يرى

الفاحص المدقق أنها مجتمعات آيلة إلى السقوط وفق هذه السنة الإلهية؛ فهي

مجتمعات مريضة من داخلها وإن استحسن الناس ظاهرها، مجتمعات منهارة،

متفككة، خربة، وخاصة على الصعيد الاجتماعي. وصدق الله القائل: [تَحْسَبُهُمْ

جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ] [الحشر: ١٤] .

ولا شك أننا بحاجة إلى دراسات جادة تشخص لنا أسباب الفرقة وعوامل

انهيار الوحدة، حتى يتسنى للعاملين في الحقل الإسلامي مواجهتها والتصدي لها

وإيجاد الحلول المناسبة. إلا أنه يمكن الإشارة إلى أبرز هذه الأسباب؛ فمنها:

١- الخلل العقدي: الذي يعتبر أكبر العوامل في انهيار الوحدة بين المسلمين؛

لأن من مقتضيات وجود خلل في التصور، وجود خلل في السلوك واضطراب في

وحدة الصف، وخذ مثلاً: هزيمة المسلمين وتفرقهم يوم حنين [٣] .

٢- الغزو الاستعماري: بأشكاله وألوانه، الذي عمل على تمزيق الأمة فكرياً

وثقافياً وسياسياً وجغرافياً ...

ومن العوامل أيضاً: العصبية والعنصرية، والأطماع الشخصية التي تولد

الأحقاد والضغائن والسعي إلى تحقيق الذات ولو على حساب الآخرين، وهذه

الأخيرة تمثل في الحقيقة انعكاساً للخلل العقدي والغزو الاستعماري.

الاختلاف الفقهي هل ينافي الوحدة؟

إن الاختلاف الفقهي وتعدد الآراء ووجهات النظر ضمن إطار الدليل الشرعي

وضمن ضوابط الشريعة، وفي إطار مسوغات وحجج مقبولة؛ لا يناقض الوحدة،

ولا يعاديها؛ بل على العكس من ذلك؛ فإنه يساندها ويعاضدها ويقويها.

وتعتبر هذه القضية ميزة تتحلى بها الأمة المحمدية؛ لأن الإسلام يمثل الدين

الخاتم الصالح والمصلح لكل زمان ومكان، فجاءت نصوص الوحيين تحمل في

طياتها إمكانية تعدد الأفهام لمراعاة التغير على مر العصور، ولمواكبة التطورات

والتغيرات المستحدثة.

فإن الاختلاف يصبح مذموماً، إذا كان بعيداً عن ضوابط الشرع، وبما يؤول

إليه من التشرذم والتحزب والتناحر والتحاقد، وإن نظرة إلى واقع التاريخ الإسلامي، نجد أن هذا الاختلاف في مراحل معينة قد استنفد طاقات الأمة، وعطل مسيرتها

الفكرية والثقافية والحضارية، وللأسف فإننا ما زلنا نعيش بهذه العقلية إلى الآن،

وأعداء الإسلام والمسلمين قد توحد شملهم للنيل من هذه الأمة ومنهجها الرباني.

ومما تجدر الإشارة إليه أن وجود تيارات إسلامية في الساحة الإسلامية، ليس

من الاختلاف والفرقة المشار إليها في الحديث: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين

أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين

فرقة..) [٤] ، بل هو من تعدد الآراء والاجتهاد وتنوع آليات العمل ووسائله مع

الاتفاق على القواعد العامة والمبادئ الكلية، ما دامت تلك الاتجاهات في إطار

الاختلاف التنوعي لا اختلاف التضاد.

كما أن لحرية الرأي دوراً كبيراً في الوحدة الفكرية بين المسلمين؛ يقول

الدكتور عبد المجيد النجار [٥] : (وقد جعل القرآن الكريم حرية الرأي بمعنى

الصدع به وإفشائه بين الناس، أساساً من أسس الاجتماع في قيام الأمة، والحفاظ

عليها، وتمكين وحدتها، وذلك في قوله تعالى: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى

الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا

تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ] [آل عمران: ١٠٤، ١٠٥] ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو صميم حرية الرأي في تبليغه والاحتجاج له، وقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن تعطيل هذه الحرية أو الزهادة فيها يفضي إلى الانقطاع في وحدة الأمة، والانقطاع في صلة العباد بالله، فقال في ذلك: (لتأمرن بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنّه على الحق أطراً؛ أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم تدعون فلا يستجاب لكم) [٦] .


(١) انظر: عبد المجيد النجار، دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين، ص٧٥ وما بعدها.
(٢) رواه مسلم، رقم (٢٨٥٦) .
(٣) انظر تفاصيل المعركة: سيرة ابن هشام ٤/٧٠.
(٤) رواه الترمذي، رقم (٢٦٤٥) ، وقال: حسن صحيح.
(٥) دور حرية الرأي، ص ٤٧.
(٦) رواه أبو داود، رقم ٤٣٣٦.