للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ندوات ومحاضرات

ندوة عن:

هويتنا الإسلامية: بين التحديات والانطلاق

(الحلقة الثالثة)

إعداد: وائل عبد الغني

تناول أصحاب الفضيلة ضيوف الندوة في الحلقة السابقة إيضاح قضية: إلى

أي حد يستوعب المسلمون قضية الهوية؟ وكيف ينظر أعداؤنا إلى هويتنا الإسلامية؟ ثم بيان صور مختلفة لأساليب طمس هويتنا الإسلامية. وهذه الحلقة تتناول

جوانب أخرى من الموضوع نترككم معها. ...

... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -

* نريد أن نتتبع مسيرة التغريب في بلادنا منذ بداية الأزمة، وما العوامل

التي أسهمت في نجاحه؟

أ/ جمال سلطان:

نأخذ مثال مصر باعتباره مثالاً واضحاً وقوي الأثر؛ فقد نشط الإنجليز في

الجانب التعليمي وترجمة القوانين حتى الفرنسية منها.

أسسوا مؤسسات علمية منافسة للمؤسسات الشرعية الموجودة، كدار القضاء

في مقابل الأزهر، والمحاكم المختلطة في مقابل المحاكم الشرعية، مع التضييق

على المحاكم الشرعية، كما أقاموا المدارس الأجنبية كذلك في مواجهة المعاهد

الأزهرية، ثم رُبط النظام التعليمي الجديد بالوظائف.

ثم بدأ بتغذية بعض الحركات الجديدة وإنعاشها، كتبني بعض الشوام، عن

طريق إعطائهم دورات في الفنون، وإرسالهم إلى مصر لإنشاء مؤسسات فنية

تروّج لأفكار جديدة، ورؤى جديدة، لم يكن ينتبه إليها أبناء ذلك الجيل.

وبدأ اللعب على النخب الموجودة والقيادات، وربط مصالحهم بالمصالح

الإنجليزية، ثم تأسيس أحزاب على أسس علمانية.

كما استفادوا من نشر الكتب في بث أفكارهم المنحرفة، لأمثال قاسم أمين

الذي دافع عن الهوية والحضارة والحجاب والشريعة في أول أمره، ثم انقلب بعد

خمس سنوات بزاوية (١٣٠) في كتابه (تحرير المرأة) ثم زادت الهوة فبلغ الانقلاب

إلى (١٨٠) في كتابه: (المرأة الجديدة) ، وكذلك علي عبد الرازق.

وهناك أسلوب أخطر رصده د. محمد حسين هيكل في كتابه: (ثورة الأدب)

في فترة العشرينات، يقول: (إننا كنا نرى في الجامعة أناساً مستشرقين وغيرهم،

يحتكّون بالطلبة ويقيمون صداقات مع بعض الطلبة النابغين، ويغلفون هذه الأنشطة

بالبحث العلمي والأدبي) .

يقول: (ولكني أزعم) والرجل كان رجل فكر وسياسة وأدب يقول: (ولكني

أزعم أن هذه الأمور لم تكن متعلقة بالأدب، بقدر ما كانت متعلقة بأمور أخرى

خطيرة) .

والشاهد أن الاحتلال الإنجليزي قد نجح نجاحاً بالغ الخطورة في مسألة

(التغريب) على حساب الهوية الإسلامية التي ضُيعت جوانب منها كثيرة، حتى

وصل الأمر إلى درجة بالغة من الانهيار في فترة الخمسينات والستينات، قبل أن

يتدارك الله بفضله ورحمته أمتنا بالصحوة الإسلامية، لتنتعش الهوية من جديد.

لعلنا استطردنا في النموذج المصري؛ لأنه كان أسبق في التغريب، كما أنه

كان أخطر؛ لما كانت تمثله مصر من كونها قبلة للكفاءات والطاقات الثقافية

والفكرية في العالم الإسلامي، إلى جانب أنه كان يتم تصدير المشاريع الموجودة بها

سواء الإسلامية أو التغريبية من خلالها، ولكنا نجد أن الأمور سارت بشكل متقارب

في عدة مواضع، كما فعل الفرنسيون في تونس والجزائر، أما تركيا فقد بدأت هذه

الأمور فيها منذ وقت مبكر عن مصر.

الشيخ/ محمد بن إسماعيل:

لديّ إضافة بالنسبة لتركيا وما صنعه أتاتورك لتغريب المجتمع هناك، وكيف

أنه يتكرر بحذافيره في كثير من بلادنا اليوم، فالرجل قد ألغى الخلافة، وعطل

الشريعة، وألغى نص الدستور على أن الإسلام هو الدين الرسمي للبلاد، وألغى

المحاكم الشرعية، والمدارس الدينية والأوقاف، وحوّل الأذان العربي إلى التركية،

واستبدل الحروف العربية باللاتينية، وكان يقول: (لقد انتصرت على العدو،

وفتحت البلاد، هل أستطيع أن أنتصر على الشعب؟) .

وهو الذي قال: (كثيراً ما وددت لو كان في وسعي أن أقذف بجميع الأديان

في البحر) ! ، وهو الذي استدعى وهو على فراش الموت السفير الإنكليزي (بيرس

لورين) ، في قصر الرئاسة بإستانبول، وعرض عليه أن يخلفه في منصب الرئيس، ورفض السفير بلباقة!

وبلغ الشغف بالتغريب إلى حد أن قال أغا أوغلي أحمد وهو أحد غلاة

الكماليين: (إننا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين، حتى الالتهابات التي في

رئاتهم، والنجاسات التي في أمعائهم) .

* نود الحديث عن أهم القنوات التي تُسلل من خلالها لتغريبنا.

د/ جمال عبد الهادي:

أخطر قنوات التغريب التي ركز عليها الاستعمار قناتا: (التعليم، والإعلام) ،

وقد تكلم عن أثرهما (هاملتون جب) في حديثه عن تغيير الهوية الإسلامية، قال:

(ومن ثمّ نستطيع أن نقول حسب سير الأمور: إن العالم الإسلامي سيصبح خلال

فترة قصيرة لا دينياً في كل مظاهر حياته ما لم يطرأ على الأمور عوامل ليست في

الحسبان فيتغير اتجاه التيار) .

لذلك فإن النفوذ الغربي قد ركز في سبيل تفريق وحدتنا الإسلامية على التعليم

كعامل هام في إدخال مفاهيم الكراهية للإسلام، والافتتان بالغرب من أجل خلخلة

الانتماء، والتشويش عليه، ومن ثمّ القضاء عليه مع امتداد الأجيال، وقد جاء ذلك

عن طريق الثقافة الغربية المبثوثة في مختلف العلوم الاجتماعية والسياسية

والاقتصادية على أساس أن هذه المفاهيم لها طابع نصراني.

أما وسائل الإعلام فقد نجحت في تشكيل ثقافة الأمة، والتأثير عليها إلى حد

بعيد جداً، وسر نجاحها أنها استطاعت أن تتخطى حاجز الأمية بالوسائل المرئية

والمسموعة، بل والمقروءة أحياناً والتي أصبحت تُقرأ عبر التلفاز، وتكمن

الخطورة في أنها أصبحت تملك المصداقية لدى رجل الشارع العادي الذي لا يجد

أمامه خياراً آخر سوى تصديقها، أضف إلى ذلك مستوى التقدم المذهل في تقنيات

الإرسال والاستقبال، وبرامج المعلومات، وتقنيات التأثير النفسي على الجماهير،

من خلال الوسائل الإعلامية التي تحاول فرض الهيمنة الفكرية والثقافية عليها،

تحت شعار: (ما أريكم إلا ما أرى) .

* وماذا عن وسائل الإعلام ودورها في أزمة الهوية؟

أ/ جمال سلطان:

يعد الإعلام من أخطر وسائل الاسترخاء، بل والتخدير في العصر الحديث،

فخطر التليفزيون على سبيل المثال أعظم من أن يوصف، لذلك لما وصفه أحد

الباحثين بأنه: (الأب الثالث) للطفل، رد عليه آخر قائلاً: (لا.. بل هو الأب

الأول) .

فالإعلام أصبح موجهاً ومربياً وبرامجه قائمة على دراسات نفسية واجتماعية

عميقة لتحدث الأثر المطلوب.

وأكبر مثال على ذلك هو كيفية تقديم الرئيس الأمريكي عند انتخابه: كم نسبة

من يعرفونه من الشعب إلى من لا يعرفونه قبل الانتخاب؟

الواضح أن الجماهير لم تكن لتعرفه إلا عن طريق الشخصية الإعلامية

الملمعة.

وعليه فإن الذي يصنع آلة الإعلام هو الذي يصنع الرئيس الأمريكي،

ويصنع قبل ذلك العقول والأذواق وأساليب التفكير. ولننظر إلى الصحف كيف

تشكل الرأي العام، وهي مسألة في منتهى الخطورة، وتقف وراءها مؤسسات

متخصصة كاملة.

د/مصطفى حلمي:

يرى (لاتوش) في كتابه: (تغريب العالم) أن أروع نجاحات التغريب يكمن

في انتشار أدوات السلطة التي من أهمها الإعلام، ويستدل على ذلك بما رصده

(كاستورياديس) بفطنة ثاقبة عن تقنيات السلطة، أي (تقنيات الخبل الجماعي) :

(هناك مكبر صوت في كافة القرى يبث خطاب الزعيم، هناك تليفزيون يهتم بنفي

الأخبار.. إلخ، وتنتشر هذه التقنيات بسرعة النار في الهشيم، وقد اجتاحت

الأرض بأسرها، وسرعان ما انتشر في كل مكان أن أيّ أومباشي في أي بلد من

بلدان العالم الثالث، يحسن استخدام سيارة الجيب، والرشاشات، والبشر،

والتليفزيون، والخطب، وكلمات (الاشتراكية) ، و (الديمقراطية) ، و (الثورة) وكل

هذا، قمنا نحن بمنحه لهم، وتلقينه إياهم بسخاء بالغ) ! ! .

* كيف نجح الغرب عبر التعليم في طمس هويتنا من أجل تغريبنا؟

د/ جمال عبد الهادي:

الغرب لم يعد يقنع في تغريب التعليم بما حققه، ولكنه ما زال يطمع في

المزيد؛ لأن التعليم هدف استراتيجي بعيد المدى خطير الأثر.

فبعدما نجح في تغريب النخبة عبر التعليم، إذا بنا نراه يطمح لتغريب

المجتمع كله، عبر وضع المناهج الدراسية العامة! .

فهل يعقل مع هذا أن نستجلب مستشارين من غير جلدتنا، ليضعوا لنا

مناهجنا التربوية، وسياستنا التعليمية؟ ! ..

هل يعقل أن نسلم كل عقول الأجيال القادمة إلى أناس لا يرقبون فينا إلاً ولا

ذمة، ونسلّم لهم في كل ما يقولونه؛ ونطلق أيديهم للعب في المناهج التعليمية بدءاً

من المناهج الدينية إلى العلوم الإنسانية والتطبيقية، وعلوم التقنيات الحديثة؟

وقد ظهر أخيراً إلى أي حد بلغ التآمر على هويتنا؛ فحذف كل ما يعمق الفهم

الإسلامي ويقوي الانتماء، وكل ما يذكر بعدوان الغرب لنا أو حتى انتقاده، أو

بعداوة اليهود والنصارى، ولو كانت نصوصاً من القرآن والسنة، بالإضافة إلى

التسطيح المتعمد للعلوم الإنسانية والتجريبية؛ بحيث تصبح بلا دلالة ولا مضمون،

فيقف الطالب عند الحد النظري منها دون أن يستفيد أي خبرة أو مهارة عملية.

يضاف إلى ذلك علمنة المفاهيم، وتغريب التقاليد والعادات، وإشاعة المساوئ

الأخلاقية من خلال نشر الصور العارية، والقصص المبتذلة الساقطة في مناهج

اللغات الأجنبية، ومحاولة نشر الفاحشة عن طريق ما يسمونه بالثقافة الجنسية،

التي بدأوا يقيمون لها دورات وندوات، تشمل في بعض الأحيان تلاميذ المرحلة

الابتدائية! لنرى إلى أي حد تتأثر سياساتنا بمخططات أعدائنا.

ونحن نسأل: ماذا يريد المسؤولون عن التعليم في بلادنا أن يُخرجوا لنا؟ !

هل سيخرّجون نموذجاً إسلامياً؟ أو حتى قومياً أو وطنياً؟ أو على أقل تقدير

إنساناً لديه أي قيم؟

للأسف! ليس شيئاً من ذلك.

وبدون أدنى تحقيق فإن الناظر فيما يجري، يرى مدى الخطر الداهم الذي

يهدد هويتنا الإسلامية، بل وحتى الهويات البديلة المصطنعة من أجل مزاحمة

الهوية الإسلامية.

الشيخ/ محمد بن إسماعيل:

إذا أحببنا أن نشبه تأثير التعليم الغربي اللا ديني، فيمكن اعتباره (كالحامض)

الذي يذيب شخصية المسلم، وهذا ما عبر عنه المستشرق (جب) : (والسبيل

الحقيقي للحكم على مدى التغريب؛ هو أن تتبين إلى أي حد يجري التعليم على

الأسلوب الغربي، وعلى المبادئ الغربية، وعلى التفكير الغربي ... هذا هو السبيل

الوحيد ولا سبيل غيره، وقد رأينا المراحل التي مر بها طبع التعليم بالطابع الغربي

في العالم الإسلامي، ومدى تأثيره على تفكير الزعماء المدنيين، وقليل من الزعماء

الدينيين) اهـ.

إنه من غير المعقول ولا الجائز، أن تستورد أمة لها شخصيتها ورسالتها،

ولها عقائدها ومناهج حياتها، ولها طبيعتها ونفسيتها، ولها تاريخها وماضيها أن

تستورد نظاماً تعليمياً أجنبياً عنها، ثم تكل وظيفة التعليم والتربية، وتنشئة الأجيال، وصياغة العقول إلى أناس لا يؤمنون بهذه الأسس والقواعد، بل يناصبونها العداء!

أمثلة ونماذج على تخريب التعليم:

* هل يمكن ذكر نماذج واقعية من خلال ما يجري في مناهج التعليم من

تزوير للهوية تحت مسمى التطوير؟

د/ جمال عبد الهادي:

ألغي في مصر التاريخ الإسلامي من المرحلتين الابتدائية والثانوية لحساب

تاريخ الفراعنة والغرب.

فبينما كان التاريخ الفرعوني يدرس في (٧٥) صفحة، وفي المرحلة الإعدادية

فقط، أصبح يدرس في المراحل الثلاث وفي (٣١٧) صفحة.

هذا التوسع جاء على حساب التاريخ الإسلامي الذي كان يدرس في المراحل

الثلاث في (٣٠٧) صفحة، ليختزل في مرحلة واحدة هي الإعدادية إلى (٣٢)

صفحة! .

وبينما نجد أن عصر النبوة كله يدرس في (١٠) صفحات نجد أن الملك (مينا)

وحده يدرّس تاريخه في تسع صفحات، واختزل تاريخ خالد بن الوليد رضي الله

عنه وفتوحاته في (٦) أسطر، في حين يدرس (نابليون) وحملته على مصر في

(٣٤) صفحة.

أما السيرة النبوية الشريفة فتبدو وكأنها تعرض سيرة شخص من عامة الناس، لا سيرة أعظم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو على أقل المفروض سيرة

مصلح أو زعيم تقليدي؛ حيث حذفت مواطن العظمة ونماذج القدوة، فضلاً عن

التشويه المتعمد لكثير من الوقائع التاريخية، مثل ما يثار من شبهات حول الخلفاء

الراشدين والصحابة رضوان الله عليهم.

أما الحضارة الإسلامية فقد طمست أهم معالمها؛ كالنظام السياسي والإداري

والمالي، والقضائي، وشوهت فترات القوة فيها، فصوروا حياة الخلفاء فيها على

أنها حياة لهو ومجون، ووصموا الحضارة بالعنصرية والطبقية، بل وحذفت أي

جملة، أو كلمة تحيي روح الانتماء للإسلام والاعتزاز به.

ومن جوانب المؤامرة كذلك:

ما تم إخفاؤه من حقائق؛ مثل إخفاء حقيقة الحملات الصليبية، تحت

مسوغات مادية أو مصالح غربية لإضعاف حس الولاء والبراء والحمية للإسلام.

كذلك ما يتم في معالجة التاريخ الحديث لبلادنا على ضوء التاريخ الأوروبي

الحديث، وبنظرة ومفاهيم غربية بحتة، لذا لم تبين لنا مثل هذه المعالجة مدى

المصائب التي أضرت باقتصادنا وسلبت ثرواتنا وما زالت، وحرمتنا من إنتاج

رغيف خبزنا، بل ومنعتنا من تطبيق شريعتنا، وذلك منذ بدء الاحتلال الأوروبي

الصليبي وحتى اليوم.

كما أخفت أن سياسة أوروبا الاستعمارية القديمة ما زالت مستمرة، وأن النظام

الدولي الجديد ما هو إلا امتداد للنظام الاستعماري القديم، كما حذفت أي عبارة تشير

إلى دور أمريكا وبريطانيا في غرس الكيان اليهودي في أرض فلسطين.

وهكذا اقترنت الغزوة العسكرية والاقتصادية لديارنا بغزوة فكرية، تعزل

الإسلام تماماً عن حركة التاريخ، ومعترك الحياة.

فلا عجب إذا ما فرّغت كتب التاريخ والجغرافيا من مضمونها، وحُرم النشء

المسلم من معرفة تاريخ أمته العربية الإسلامية وأدوار قوتها وضعفها، ومن هم

أعداؤها في الماضي والحاضر، وما هي أهم واجباته لمواجهة مخططاتهم،

وبخاصة مخطط تمزيق وحدة الأمة، وبعثرة جهودها وسلب خيراتها، ومحاولة

تكبيلها للسيطرة عليها.

تم إغفال إبراز فكرة التعاون والتكامل الإسلامي العربي (الوحدة الإسلامية)

لحساب المشروعات الوافدة، كمشروع الشرق أوسطية، أو البحر متوسطية، لذلك

تم حذف كل ما يشير إلى التضامن الإسلامي، أو الخلافة الإسلامية، أو الجامعة

الإسلامية.

الثقافة والهوية:

* وماذا عن الاختراق الثقافي للعقل الإسلامي، وما مدى تأثير ذلك على

الهوية؟

د/ جمال عبد الهادي:

الاختراق الثقافي أصبح قضية تحدٍ خطيرة؛ لأن القضية دوّلت، ففي عام

١٩٨٧م أعلنت الأمم المتحدة؛ أن السنوات العشر القادمة ستكون للتنمية الثقافية.

ومفهوم التنمية لديهم معروف لذي الفطن! ولكن بعد مضي السنوات العشر ما الذي

جنيناه من جراء هذا الإعلان؟ لم تتحقق أي تنمية، بل على العكس من ذلك؛ إذ

كان تحريفاً وتزييفاً وتضليلاً، ورغم توقيع غالب الدول على هذه الاتفاقية غير أن

ما يمارس اليوم من هيمنة إعلامية وثقافية غربية، وبالذات الأمريكية منها، يمكن

اعتباره حرباً عالمية ثقافية حقيقية تدعمها القوة المسلحة، مصحوبة بالاستخدام

الواسع لوسائل الاستخبارات والتقنية الحديثة، فضلاً عن وسائل الردع والضغط

الاقتصادي، لاستخدام قيم العدو، وهنا يكمن الخطر؛ ورغم هذا يسمونه (البديل

الديموقراطي) .

وتسعى الولايات المتحدة إلى فرض تصورها بالقوة، كما جاء ذلك في خطاب

كلينتون؛ الذي ألقاه يوم تنصيبه رئيساً في ٢٠ يناير ١٩٩٣م: (إن أمريكا تؤمن

بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وإننا نستشعر أن علينا التزاماً مقدساً

لتحويل العالم إلى صورتنا) ! .

لعبة الديمقراطية:

* إذن فالبديل الديمقراطي ما هو إلا لعبة تغريبية، يُمارس من خلالها الخداع، والتسويق الثقافي لفلسفات جامدة.

د/مصطفى حلمي:

هناك الكثير من المصطلحات مثل: (الديموقراطية) ، و (التحرر) ،

و (البحث الحر) ، وأمثالها، هذه الشعارات ارتبطت بالتغريب، وهي في حقيقتها

شعارات خادعة تخفي الواقع المخالف لها تماماً، لذلك لا يسمح الغرب للقيم الحقيقية

أن تنافس قيمه الزائفة، ويقولون بصراحة: (لن نسمح لهذه القيم أن تطبق، إنها

مجرد شعارات) ، فهدفهم هو تغريب العالم ككل، ولو من أقصر طريق. يقول

(لاتوش) : (إذا كان للحضارة أن تختزل إلى الشرطة والجيش، فإن العالمية متحققة

إذن من الآن) فنحن نواجه اليوم (إمبريالية ثقافية غربية) وبالأخص

(إنجلوساكسونية) ، أما دورنا فمجرد مستقبلين! فأين (الديمقراطية) المزعومة إذن؟ !

د/جمال عبد الهادي:

اسمحوا لي بمداخلة بسيطة مع الدكتور مصطفى: هناك صورة من أخطر

صور التغريب والتضليل، أحب أن ألقي عليها بعض الضوء، وهو ما يمارس

لفرض منهج معيب في البحث تحت مسمى (العلم) ، بينما لا نجد هذا المنهج مطبقاً

في بلاده، ولا بين أهله، وهذا يعني أنه منهج مصمم خصيصاً للمستعمرات،

وبالذات لبلادنا الإسلامية للقضاء على كيانها، من أجل الحيلولة بين الأجيال الجديدة، وبين روافد هويتها الحقيقية.

(فالأدب العربي) وفق هذا المنهج: أدبٌ منفصل، نشأ في العصر الحديث،

وارتبط بالحملة الفرنسية، ومعنى هذا؛ أنه أدب منفصل تماماً عن الأدب العربي

والإسلامي في عصوره الممتدة.

و (الفكر العربي) : عبارة عن فكر نشأ في ظروف الاتصال بالغرب؛ وعليه

فإنه لا يمتّ إلى المنهج الإسلامي ومصادره بأية صلة.

و (دراسة التاريخ) تتم من أجل النقد (أو قل: الطعن) في رموز الإسلام، أو

تهميشها، أو التعمية عليها، والمقابل هو إبراز النماذج الشعوبية والتآمرية المنحرفة، بدعوى الحياد في السرد التاريخي.

والدافع الذي يفسر به التاريخ، ليس هو دافع العبودية، أو الصراع الأبدي

بين الخير والشر، أو الحق والباطل، وإنما يفسر بالنفعية أو الذاتية.

ولنا أن نتصور حجم المصيبة إذا نشأت عقول باحثينا، ومن يقرأون لهم على

مثل هذا المنهج المضلل.

ولا غرابة إذا رأينا من يطعن في الإسلام بحجة التطوير، أو في رموزه

بحجة النقد، أو في تاريخه بدعوى الحياد، ولا عجب بعدها إذا ما نظروا إليه على

أنه تخلف وغموض ووساوس، والله المستعان.

مفهوم التنمية:

* قضية التنمية، أو ما يعبر عنه بـ: (التنمية) اليوم، أو (الدول النامية) .

ما صلة هذا اللفظ بحرب الهويات؟

د/ مصطفى:

يمكن لنا أن نضع قذائف التغريب الثقافي في كفة، وما يجتاح (العالم الثالث)

من حمّى الغزو الاقتصادي في كفة أخرى، لا لقوته التي تفوق الغزو الثقافي فحسب، ولكن لخفائه أيضاً وتسربه الخادع إلى العقول والنفوس؛ لأنه يتخفّى تحت عنوان

باهر باسم (التنمية) . يقول د. جلال أمين: (إن هذا الغزو الغربي لاقتصاديات

وثقافة بلاد العالم الثالث هو بالضبط ما يحدث منذ أن رفع شعار: تنمية هذه البلاد،

وإطلاق اسم التنمية على هذا الغزو، وتسمية الدول الخاضعة له باسم (الدول

النامية) ، هو مثال من أسوأ ما يمكن أن يقدّم من أمثلة على الاستعمال الفاسد للغة،

وعلى تسمية الأشياء بغير أسمائها.

ولكن أن نذهب إلى حد وصف تلك المجتمعات الرافضة، أو المقاومة لهذا

الغزو، أو التي لا تخضع له بالسرعة الواجبة، بوصف (الدول المتخلفة) ، فهذا

من قبيل عدم الاكتفاء بإيقاع الأذى، بل وإضافة الإهانة إليه) .

أ/ جمال سلطان:

تعتبر التنمية الاقتصادية جزءاً هاماً من البعد الحضاري الذي يشكل بعداً من

أبعاد الهوية، هذا البعد في مجمله له أثر في غاية الخطورة على قضية الانتماء؛

لأن التغريب استطاع أن يكسب من خلاله أرضية واسعة في غزوه للهويات؛ لأنه

يتعلق بالمناخ الفكري، والثقافي، والمعرفي، والقيمي، والسلوكي، والأخلاقي

الذي يعيش فيه الإنسان، وفي هذا المجال يتلاعب التغريب عبر وسائله بشكل

مباشر، لدرجة أنه يحدد الذوق الشخصي للإنسان، ويملك أن يقنعه بالمتناقضات

في آن واحد.

ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك؛ إدخال نمط الطعام الغربي لحياتنا، حتى

أصبح الطعام بهذه الصورة ثقافة، ونستشعر ذلك في الاحتفال الضخم الذي أقامه

الأمريكان لافتتاحهم أول فرع لـ (ماكدونالد) في القاهرة أو في روسيا، فالربح

الماديّ باعتباره العامل الاقتصادي الأكبر لم يكن هو الدافع الوحيد لكل هذا الابتهاج، ولكن المسألة تتلخص في أنه بافتتاح (ماكدونالد) باعتباره واجهة تغريبية يمكن

نشر مجموعة من التقاليد والسلوكيات الأمريكية، مما يمثل نوعاً من الغزو المستتر، ونموذجاً للحرب الطاحنة للنفاذ إلى العقول والقلوب، التي قد تصل في بعض

الأحيان إلى التلويح باستخدام القوة، من أجل فرض قيم معينة.

ومن نماذج هذا الصراع، ما يجري بين (الأمركة) و (الفرانكوفونية) ، على

النفوذ والوجود الثقافي في القارة السوداء، والمستعمرات الفرنسية السابقة.

* وهل من علاقة بين (التنمية) و (التنصير) على اعتبار أن (التنصير) هو

أعلى غايات (التغريب) ؟

د / مصطفى حلمي:

الغرب من حيث أنه يمثل وحدة تركيبية تتفاعل فيه مجموعة مؤثرات دينية،

وأخلاقية، وعرقية، واقتصادية، والأقرب أنه كيان ثقافي، وظاهرة حضارية.

لكن التنصير يبرز ممثلاً أحد مظاهر نشاطه التغريبي، وأبرز أشكاله

البروتستانتي بزعامة الولايات المتحدة، والكاثوليكية بزعامة فرنسا، ويقدم تحت

ستار (النشاط الإحساني) وفق تعبيرهم المتمثل في المساعدات والإعانات الخيرية

والاجتماعية، أو تحت ستار (النشاط العقلاني) عبر المدارس التنصيرية والنشرات

وجهود المستشرقين، وغالباً ما تقرن مشروعات التنمية بـ (تحت راية الصليب) ،

ويزداد الأمر دهاءً في بعض الأحيان فيطلقون على التنصير نفسه وصف التنمية.

* في أحيان كثيرة يبرز دور الشركات المتعددة الجنسيات فيما يطلق عليه

(التنمية) ، هذه الشركات التي قد تفوق ميزانيتها ميزانيات بعض الدول.

فما صلتها بخطط التغريب؟

د/ مصطفى حلمي:

نعم، لقد أصبح لها دور خطير في توجيه سياسات الدول واقتصادياتها،

وأنماط حياتها، فلم يعد الربح هو الهدف الوحيد، ولكن (السّلطة) أيضاً إلى جانب

تبديل الوعي الثقافي، وهذا يعتبر نقضاً للميثاق الذي يقضي بأنه (لا يجوز من مثل

هذه الشركات، التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد التي تعمل فيها) ، وقد بين لاتوش

سذاجة من يثق في هذا الميثاق.

* مظهر آخر لعله من أخطر مظاهر (التغريب) ، أو (التخريب) ، ما يسمى

بـ (حوار الأديان) ، الذي صار الغرب يلعب من خلاله، على كثيرٍ ممن ينتسب

إلى العلم والتوجيه الشرعي، ويلبّس به على عامة الشعوب.

د/مصطفى حلمي:

تكاثرت في الفترة الأخيرة الدعوة إلى الحوار بين الأديان، ولهذه الدعوات

مغزاها ودلالاتها، وحصادها الخبيث الذي بدأنا نصطدم به في واقعنا.

والمتابع للمؤتمرات التي تعقد تحت هذا المسمى، فإنه يدرك من مجرياتها

مدى الغزو الفكري، والعقدي المقنع، الذي يُدس من خلال التشكيك والاتهام من

جهة واحدة، ضد جهة واحدة، (الأديان الأخرى) ضد (الإسلام) .

د/جمال عبد الهادي:

لا يجوز بأي حال من الأحوال، أن تطرح مسائل العقيدة، والقيم، والأمور

المعلومة من الدين بالضرورة للحوار، أو تكون موضوعاً للتفاوض؛ لأنها من

النظام العام لهويتنا؛ بل هي النظام العام نفسه، الذي لا ينبغي لتعليم ولا لإعلام أن

يخالفها، وإلا كان هادماً لهوية الأمة، معرضاً أمنها للخطر، ومستقبلها للضياع،

وأما ما يجري في مثل تلك المؤتمرات بحجة مسايرة العصر، أو التفاعل مع

الحضارات الأخرى، ففرية تحيل الأمة إلى (قرد) يقلد الآخرين، و (ببغاء) يردد ما

يقال دون أن يعلم له معنى.

وأما الاحتجاج بمصلحة الوطن فوهمٌ؛ لأنه لا قيمة للوطن إذا كان يسكنه

شعب ضائع، مستعبد على أرضه، يعيش ليأكل، ويتمتع كما تتمتع الأنعام.

ما الحل؟

* بعد أن تبين حجم التحدي وقدر المخاطر المحدقة بنا نريد أن نرسم خريطة

تكون بمثابة ورقة عمل تجمع الجهود المتناثرة، وتحدد الأدوار التي يمكن تقديمها

من أجل استعادة الهوية المضيعة.

الشيخ/ محمد:

ابتداءً، نحن لا نبتدع هوية مفقودة، ولكننا نريد استعادة الوعي بالهوية

الموجودة التي صارت كأنها صفحة مكتوبة تراكمت عليها طبقات الأتربة، حتى

صارت غير مقروءة؛ لأن أحداً لم يحاول قراءتها منذ زمن، فالواجب هو إزالة

هذه الأتربة، واستحضار واجترار، وإحياء الأفكار والقيم التي يطلب الوعي بها

من وراء حائط النسيان، وهذا الهدف لا يتم إلا بعد تحديد الوسائل، وتوظيف

الطاقات المتاحة.

وأهم هذه الوسائل:

تدعيم دور الإعلام الإسلامي بكافة أشكاله ليؤدي دوره في:

١- إحياء حركة تجديد الدين بالمفهوم السلفي الواضح، لنعود إلى منابع

الإسلام الصافية متمثلة في (منهاج النبوة) ، بعيداً عن مخلفات القرون.

٢- الدعوة إلى حتمية الحل الإسلامي لمعضلات واقعنا الأليم، وتحرير

الهوية من كل مظاهر الخَوَر والتبعية، والقضاء على العقبات التي تحول دون

تطبيق الإسلام كمنهج شامل للحياة.

٣- التصدي لمحاولات تذويب الهوية الإسلامية، وقطع صلة الأمة بدينها،

والتي تجري اليوم على قدم وساق من خلال تخريب مناهج التعليم، وتشويه التاريخ

الإسلامي، وإضعاف اللغة العربية، ومزاحمة القيم الإسلامية بقيم غربية، وغير

ذلك من أنشطة (التبشير) العالماني والغزو الفكري، وتسميم الآبار الإسلامية، أو ما

يُطِلق عليه الذين لا خلاق لهم عبارة: (تجفيف المنابع) بلا مواربة نسأل الله أن

يجفف الدم في عروقهم، وأن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ويريح البلاد والعباد من

شرورهم.

د/جمال عبد الهادي:

يمكن إضافة هذه النقاط إلى ما ذكره الشيخ محمد، وهي:

٤- بذل الجهد الشخصي في الدعوة إلى الله، ونشر الدين بين الناس؛ مثل

إقامة حلقات تحفيظ القرآن ولو في البيوت: [ ... وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا

الصَّلاةَ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ] [يونس: ٨٧] ، وكذلك في الجامعات والمدارس والمساجد.

٥- فتح المدارس الإسلامية، وتشجيع القائمين عليها، وتحفيزهم،

والإصرار على إنجاح هذه الفكرة من الجميع.

٦- تأسيس الجمعيات والمؤسسات الخيرية، التي تنشر الدين، وتحفّظ القرآن

وتعلّم واللغة.

٧- تنبيه أولياء الأمور إلى خطورة المدارس الأجنبية على دين أولادهم

وانتمائهم.

٨- إعداد خريطة إسلامية في مجالي التعليم والإعلام، ومن ذلك توجيه نظر

المعلمين إلى خطورة المسؤولية الملقاة على عاتقهم؛ لأنه رغم كل ما يجري،

يستطيع المعلم بفضل الله أن يربي النشء على التمسك بهويته الإسلامية، وكذلك

الحرص على إيجاد منافذ إعلامية لمخاطبة الناس من خلال إعلام إسلامي بديل.

٩- الإشادة بالدعاة والعلماء، وتوجيههم إلى أهمية أن يكون الخطاب الدعوي

متكاملاً، يركز في جوانب منه على مقومات الشخصية الإسلامية، وعرض الدين

كنظام حياة متكامل، (كخلافة للإنسان في الأرض) .

١٠- فضح ما يجري في مجالي التعليم والإعلام، تحت مسمى التنوير

لتخدير الأمة، ويدخل في ذلك؛ مقاطعة المجلات والصحف التي تحارب الهوية

الإسلامية، وتشيع أنماطاً للحياة غير الإسلامية.