للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

طالبان.. وقدر أفغانستان

(٣/٣)

طالبان.. في الميزان!

عبد العزيز كامل

هناك قاعدة ذهبية، أشار إليها الإمام أحمد بن تيمية رحمه الله مستخلصاً إياها

من مجمل نصوص الشريعة، وقد نص عليها في مواضع عديدة من مؤلفاته، يقول

رحمه الله: (إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وبر وفجور، وطاعة

ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير،

واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر) [١] . وما قاله رحمه الله عن

الفرد، يصدق على الجماعات وعلى المجتمعات.

ونحن في حاجة دائمة إلى استصحاب تلك القاعدة في تقويمنا للأشخاص

والأفكار والمناهج النظرية، وأنواع السلوك العملية لكل الطوائف الإسلامية، ومنها

طالبان أو غيرها؛ فكل من يتصدى للعمل لدين الله، نزنه بميزان هذا الدين الذي

لا يعرف التطفيف أو البخس أو الميل، [وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا

المِيزَانَ] [الرحمن: ٩] .

لسنا إذن أمام مواقف مطلقة، ولا مواقف مسبقة، فما أكثر ما جنت تلك

المواقف المرتجلة على روح الحقيقة، وما أكثر ما تسببت أيضاً في اضطراب كفتي

الولاء والبراء.

وفيما يتعلق بتقويم (التجربة) الطالبانية، هناك أمور ينبغي التنبيه إليها قبل

إجراء هذا التقويم:

أولاً: أن هذه التجربة صغيرة جداً في عمرها (لا تتجاوز أربع سنوات) وهذه

مدة لا تكفي أبداً لظهور نتائج مواقفها سلباً أو إيجاباً بشكل متكامل.

ثانياً: أن هالة الاتهام المحيطة بطالبان كان لا بد أن تخضع للمنطق العادل

وهو أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وليس المتهم مداناً حتى تثبت براءته!

ثالثاً: أن الحركة عملت ولا تزال تعمل في ظروف استثنائية غير طبيعية

(حرب، فقر، معارضة داخلية، حصار، دمار) فلا بد من مراعاة ذلك عند التقويم.

رابعاً: أن الصورة المرسومة لها في الأذهان، خطّت معالمها اليد الإعلامية

الغربية بخبث مقصود، وحاكتها في ذلك بعض أجهزة الإعلام العربي بتحامل مبيت؛ فمهمة استخلاص الحقيقة من بين براثن ذلك التشويش ليست يسيرة.

خامساً: أن حركة (الطالبان) ظهرت في ظرف ضرورة، بمعنى أن أكثر ما

قامت به للآن كان القيام به ضرورياً فلا يسع عاقل منصف فضلاً عن ناصح

مخلص أن ينكر هذا الفضل لهم.

وهذه النقطة الأخيرة بالذات لنا معها بعض الوقفات.

* لقد كان استنقاذ ثمرة الجهاد الأفغاني الباهظة التكاليف ضرورة ... وقد

استنقذوها بإجهاض مخططات الأمم المتحدة ومن وراءها لفرض العلمنة على

أفغانستان.

* وكان إنهاء الحرب الأهلية (الكارثية) بين الفصائل ضرورة ... وقد نجحوا

في إنهائها بكف الأيدي التي تسببت فيها.

* وكان لمّ شمل أقاليم أفغانستان المبعثرة تحت سلطة واحدة ضرورة ... وقد

قاموا بذلك فوحدوا معظمها تحت حكومة رضيتها القاعدة الشعبية.

* وكان الإجهاز على بقايا الشيوعيين وكسر صلبهم ضرورة ... وقد نفذوا

ذلك بشكل تام بإخراج دوستم وأتباعه من مزار الشريف.

* وكان تحجيم الوجود الشيعي المدعوم والمتنامي ضرورة ... وقد تم هذا

التحجيم بفتح معقلهم الرئيسي القوي في مدينة (باميان) .

* وكان نزع سلاح المدنيين لإنهاء فرص العودة إلى الحرب الأهلية ضرورة.. وقد تم لهم ذلك في كل الولايات التي سيطروا عليها.

* وكان القضاء على ظاهرة الفساد المتفشي والجريمة المنظمة ضرورة، وقد

خطوا في سبيل ذلك خطوات واسعة، بالشروع في تطبيق الشريعة وتنفيذ الحدود.

ولا شك أن هناك ضرورات وتحديات أخرى كثيرة تنتظر الحكومة الناشئة

داخلياً وخارجياً، وقد أشرت إلى جانب منها في المقال السابق.

وإذا سألنا أي مهتم بأمر المسلمين: هل هذه المصالح كانت مطالب أم لا؟

لأجاب على الفور: لا شك أنها كانت مطالب تبحث عن منفذ لها؛ لأنها

تصب في مصلحة الإسلام في هذه البلاد، سواء قامت بها طالبان أو غيرها.

وأنا لا أشك في أن ما قامت به (الطالبان) لو كان قام به رباني عندما كان

رئيساً للجمهورية، أو حكمتيار عندما كان رئيساً للوزراء، أو مسعود عندما كان

وزيراً للدفاع، لصفق لهم المسلمون في العالم..! ! ولكن طالبان جاءت بعد أن

رفع الناس أيديهم وانفضت الوليمة ... ولعل في ذلك حكمة إلهية عليمة.

لا أظن الدعوة إلى الإنصاف ستكون غريبة في أوساط الإسلاميين؛ صحيح

أنه ليس أندر في الدنيا من الإنصاف كما قال الإمام الشافعي ولكني أظن أن هذه

الندرة محلها هؤلاء المسلمون الصادقون وحدهم.

إن الإنصاف لا يعني بداهة التعامي عن الأخطاء أو تزيين العيوب، بل يعني

اقتسام الحق نصفين: حق يُعطى، وحق يؤخذ.

فإذا أعطينا مسلماً حق الولاء والنصيحة، فعليه أن يعطينا حق الوفاء

بموجبات هذا الولاء وقبول النصيحة، وجرياً على قواعد هذا التناصف؛ نناقش

بعضاً من أبرز القضايا المتعلقة بسياسات طالبان الداخلية بعد أن استعرضنا في

مقال سابق ملابسات أوضاعها الخارجية.

أولاً: طالبان والمنهج:

لعل أول ما يعني المسلم الحريص تجاه أي طائفة إسلامية، هو النظر في

منهجها الإصلاحي، وخاصة فيما يتعلق بالاعتقاد، فإصلاح عقائد الناس هو أكبر

عمل إصلاحي يمكن أن تقوم به فئة ولاّها الله أمر العباد، والأمر المشهور: أن

الشعب الأفغاني كغيره من غالبية الشعوب الإسلامية وقعت طوائف منه فريسة

للدعوات الخرافية، وقد نشأ بسبب ذلك تنوع في الانتماء العقدي، يشتمل بلا شك

على انحرافات خطيرة في الاعتقاد، وهذا أمر متوقع خصوصاً في ظل غياب

حركات علمية إصلاحية قوية.

والآن وقد سيطرت على أفغانستان حركة تنسب نفسها للعلم ولطلب العلم،

فأول ما يتوقع منها وما يظن بها هو أن تنشر في البلاد أنوار العلم لتقضي به على

ظلمات الخرافة والجهل والانحراف، والطرح الاعتقادي لحركة طلاب العلم أو

(طالبان) والمجهود المبذول في نشره، قد لا يكون على المستوى المطلوب الآن،

ولا شك بأنّ هذا تقصير، فالدعوة إلى تصحيح التوحيد، ونبذ الشرك والخرافة،

من أولى الأولويات، وعلى رأس الواجبات. ولكن المصادر الشحيحة المتوافرة عن

انتمائهم العقدي تستبعد كثيراً من الاتهامات الفجة الموجهة إليهم كدعوى انتسابهم

للقبوريين أو غلاة الصوفية، وباطلاعي على عدد من النشرة الرسمية لطالبان

والمعنونة بـ (مجلة الطالب) وجدت فيها دعوة صريحة لنبذ القبورية، ونبذ التوسل

بغير الله عز وجل [٢] .

وذلك لا يعني بالضرورة أن هذا اتجاه عام داخل الحركة، ولكنه تيار موجود

على كل حال ويحتاج إلى التشجيع.

كما وجدت سلسلة في المجلة المذكورة بعنوان (عقيدة أهل السنة والجماعة) ،

وكاتبها هو (مولوي بير محمد) المتخرج من جامعة أم القرى بمكة المكرمة، تكلم

صاحبها عن معتقد أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات، بما لا يُشم منه أي

رائحة للخروج عن المعتقد الصحيح فيها [٣] .

لا شك أن هذه الكتابات غير كافية في بيان معالم المنهج لدى طالبان، ومع

هذا أقول: إن العلم بالتعلم، والفهم بالتفهم، وليت الحركة تستفيد من الإنتاج العلمي

الغزير من الأبحاث المتعلقة بالعقيدة لعلماء موثوقين في أنحاء العالم الإسلامي،

وتستغل فرصة ثقة الشعب الأفغاني وحبه للعلماء ولطلاب العلم، لعل الله يحقق

على أيديهم هذا الأمل الكبير، وهو تربية شعب كامل على المنهاج الصحيح لأهل

السنة، وهذا ليس بالأمر المستحيل؛ فكم من أمم عبر التاريخ تغيرت مذاهبها من

باطل إلى حق، أو من حق إلى باطل.

إن أمام طالبان معركة جديدة ضد الخرافة والبدعة، تتطلب نفساً طويلاً،

وحكمة بالغة، تجيّش فيها كافة إمكاناتها العلمية والدعوية لنشر السنة ومنهج السلف

الصالح، ونسأل الله تعالى أن يعينهم على تحمل هذه المسؤولية العظيمة.

ثانياً: برنامج الحركة الإصلاحي:

لن نطالب الحركة بإبراز هذا البرنامج فقد أبرزوه ولكنا نحاكمهم إليه؛ لأنه

حجة لهم أو عليهم، وقد مكنهم الله من الأخذ بناصية البلاد، فلا عذر لهم في

التقاعس بعد ذلك عن التنفيذ، وقد ذكرت حركة طالبان على لسان أحد أنصارها

وهو الدكتور (شير علي شاه) أستاذ علوم الحديث والتفسير بجامعة (منبع العلوم)

هذه الأهداف العملية فيما يلي:

١- إعلان دستور للبلاد ينطلق من الشريعة الإسلامية وحدها.

٢- إشاعة العدل والأمن.

٣- المساواة في الحقوق في جميع الولايات.

٤- التمكين للوحدة الإسلامية ومحاربة القومية والعصبية العنصرية.

٥- التعاون مع الدول الإسلامية وتعميق الروابط الإسلامية.

٦- إقامة الحياة السياسية والاقتصادية وفق الشريعة الإسلامية.

٧- تطبيق نظام الحسبة، وتشكيل هيئة مسؤولة عن الأمر بالمعروف والنهي

عن المنكر.

٨- الاهتمام بالجيش وتحديث القوات المسلحة، وتقديم الكفاءة على الولاء في

تولية المناصب.

٩- الاهتمام بمجالات الزراعة والصحة والتعليم، مع الاهتمام بترويج العلوم

الإسلامية في كافة المراحل [٤] .

وهذا البرنامج يحتاج إلى صدق في التزامه، وقوة في تنفيذه، وهذان معياران

سيحددان مع الأيام مدى صدقية القائمين عليه.

ثالثاً: الاختلافات العرقية والقبلية:

طالبان حركة ينتمي معظم أفرادها إلى قبائل البشتون التي تمثل معظم الشعب

الأفغاني، ولهذه القبائل تقاليدها الخاصة المحافظة التي ميزت الأفغان على مر

العصور، وهي تقاليد اختلطت بالهوية الدينية والظروف البيئية لهذا الشعب، وهي

تميل إلى البساطة والتلقائية والغيرة واحترام الملكية الشخصية، ولكن هل يمكن أن

يكون لهذا الانتماء تأثير على طريقة طالبان في إدارة البلاد؟ يخطئ من يظن أن

هذا الانتماء لن يكون له تأثيره بالمرة، ولكن السؤال المهم هو: هل سيكون هذا

الانتماء معياراً للولاء والبراء كما كان الشأن مع كثير من الأحزاب السابقة في

تقديمها هذا الانتماء العرقي على الولاء الديني؟ هذا في الحقيقة مكمن خطورة،

ومحك اختبار؛ خاصة في بلاد مثل بلاد الأفغان التي يمكن أن تستثار فيها العصبية

بسهولة، والأيام وحدها هي التي ستجيب عن هذا التساؤل، وهي التي ستبين على

مدى صدق الطالبان في تحرير معتقد الولاء والبراء من أدران رانت عليه عبر

قرون. إن موقفهم المعلن ينفي أن تكون لهذه القبلية آثار على طريقتهم في التعامل

مع الآخرين، ولكن الأمل في العمل. وقد ذكر الدكتور محمد المستيري المبعوث

السابق للأمم المتحدة في أفغانستان أنه أثار هذا الموضوع مع بعض قياديي طالبان

فقال له ذلك القيادي: (كيف نتحدث عن البشتونية ونحن لا نعترف بالأفغانية؟ بل

ننادي ببلد إسلامي واحد، ومن ثَمّ فلا فرق بيننا وبينك أنت الرجل القادم من بلد

مسلم وبعيد عنا آلاف الأميال) [٥] .

رابعاً: الموقف من المرأة:

انتماء معظم الطالبان إلى العرقية البشتونية، يبدو أنه كان له تأثيره على

قضية المرأة في أفغانستان، ونذكر هنا أن المجتمع الأفغاني البشتوني في معظمه

مجتمع أشبه بمجتمعات القرى والأرياف؛ فالأمية بين الرجال تصل إلى ٩٠%،

والمتعلمون منهم يركزون على العلم الديني، هذا بين الرجال، فما بالنا بنسبة ذلك

التعليم بين النساء؟ إن هذا التعليم بحكم واقع الشعب لا فلسفة طالبان لا يغطي إلا

شريحة نادرة جداً من الإناث في الشعب الأفغاني؛ هذه واحدة، وتنبني عليها أخرى

وهي: أن عمل المرأة الأفغانية بسبب ذلك لا يمثل إلا شريحة أندر وأندر؛ لأن

تقاليد ذلك المجتمع أن الرجل وحده هو المسؤول عن أعمال التكسب والإعاشة،

والمرأة تتفرغ لعملها الأصلي في خدمة بقية الأسرة، ومن هنا؛ نستغرب

ونستعجب من تلك الضجة الكبرى التي أثارها ولا يزال يثيرها الإعلام الغربي

وصداه العربي عن موقف الطالبان من تعليم المرأة وعمل المرأة، وكأن ما حدث

في أفغانستان كان تسريحاً لطبقة تشمل الملايين من العاملات، وإغلاقاً لمدارس

تضم الملايين من الطالبات!

إن الأمر وباختصار هو أن المرأة الأفغانية في الأصل لا تعمل خارج البيت،

كما هو الشأن في كثير من المجتمعات المحافظة، ولكن ظروف الحرب اضطرت

كثيراً من النساء للخروج والعمل بعد فقد الرجال أو أسرهم أو انشغالهم. فخروج

المرأة للعمل كان ضرورياً لتوفير مبلغ بسيط من المال، تستطيع به أن تنفق على

أسرة غاب عائلها، ولا توجد حكومة تهتم بأمرها، فلما جاءت طالبان، أذنت

للمرأة العاملة المترملة أن تعود إلى بيتها على أن تدفع لها راتباً وهي في بيتها،

وإذا اختارت العمل على المكث في البيت، فلها ذلك على ألا تعمل إلا في عمل

يناسب المرأة كعمل الطبيبات والمعلمات والممرضات.. فهل في هذا العمل جريمة

تستحق كل تلك الضجة الإعلامية العالمية؟ ! لقد ثار (أنصار المرأة) في العالم لهذا

الإجراء، وتباكوا على بضع مئات أو حتى بضعة آلاف من النساء أقعدتهن حكومة

في حالة حرب، بين شعب في حالة فقر، ولم تتحرك سواكن هؤلاء للبطالة التي

يعاني منها ملايين الشباب والرجال في ظل حكومات تتوالى استمراراً وتدعي

استقراراً! هذا عن عمل المرأة، فماذا عن تعليمها؟

نسأل أولاً: ما هو التعليم الذي منعت منه الفتاة الأفغانية المسلمة؟

إنه التعليم الذي وضع مناهجه فلاسفة حفيظ الله، ونجيب الله، وبابراك

كارمل، إنها مناهج شيوعية صرفة، لم يتمكن رباني ولا حكمتيار ولا غيرهما من

تغييرها لانشغالهم على مدى سنوات يما يرونه أهم! !

فمن يقول: إن منع أو بالأحرى إيقاف هذا التعليم مؤقتاً جريمة لا تغتفر وعار

لا يزول؟ ! إن الجريمة الكبرى والعار المخزي هو استمرار التضحية بالأجيال في

ظل تلك المناهج الكفرية الإلحادية؛ فتلك الفتاة التي ستتعلم في ظل دولة إسلامية

فلسفة ماركس، أو تعاليم لينين، هل ستُخرج للأمة بعد ذلك إلا أجيالاً من أمثال

دوستم وبهلوان؟ !

إن الأمر فقط يحتاج من أرباب الإعلام المزوّر إلى شيء من الحياء!

طُرح سؤال على الملا محمد حسن وزير الخارجية في حكومة طالبان هذا

نصه: (لا زالت قضية تعليم وعمل المرأة، وبعض إجراءات (طالبان) الشغل

الشاغل للصحافة العالمية ولجان حقوق الإنسان، وحتى بعضُ علماء المسلمين

ومؤسساتهم لا يقرون حرمانها من التعليم والعمل ضمن ضوابط الشرع الحكيم، فما

هي رؤيتكم؟) .

فأجاب: (جاهد الشعب الأفغاني أربع عشرة سنة، كي يقيم الإسلام ويعطي

الحقوق بموجبه، ورغم أن بعض المفسدين قد ضيعوا ثمرته، وباعوا بثمن بخس

دماء الشهداء والأيتام والأرامل حباً في السلطة؛ فهؤلاء الآن ومن والاهم بتباكون

على حقوق المرأة في عهد طالبان، نحن لم ننكر ولن ننكر حقوق المرأة وخاصة

حقها في التعلم والتعليم والعمل، ولم نقل إننا لن نعطيها حقها، ونؤكد أننا سنعطيها

حقها الذي أعطاه الله لها في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولن نخترع لها حقوقاً

كي نرضي الآخرين، وهؤلاء الذين يتباكون على المرأة وحقوقها يريدوننا أن نحتكم

إلى قوانين البشر في هذه المسألة، ونعمل على إفساد المرأة وتحررها بمعناه السلبي، ولكننا على قناعة أن قوانين الله عز وجل فوق قوانين البشر والمرجع إليه) [٦] .

خامساً: شعيرة الحسبة وإنكار المنكرات:

هناك قضية أخرى، لم تكن أقل إثارة للقيل والقال من قضية المرأة وعملها

وتعليمها، وهي القضية المتعلقة بمسلك طالبان في إنكار المنكرات، لقد كانت بداية

الحركة أنها نشطت في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ولاية (قندهار) ، فلما دانت لها البلاد، فرّغت فرقاً لممارسة شعيرة الحسبة. والحسبة كما هو

معلوم من الشرع ومن التطبيق العملي لها في البلاد التي تقيمها، لا تكتفي بالوعظ

النظري والتوجيه الكلامي فقط، بل تصل إلى حد الإلزام. والحسبة التي تقوم بها

طالبان من هذا النوع، وهي متعددة في مناحيها، ولكن الإعلام الغربي المغرض

ركز على نواحٍ محددة فيها، صادفت استهجانه، بل أثارت غليانه؛ باعتبار أن

الموازين عندهم مختلفة، أو قل مختلة، وكذلك أثارت المتباكين على حريات

الانفلات من المفكرين والصحفيين العلمانيين العرب وغيرهم من تجار الكلام.

فإلزام الناس بصلاة الجمعة وإغلاق المحلات وقتها.. أو أمرهم بصلاة

الجماعة ... هذا أمر غريب! وإلزام الناس رجالاً ونساءً باحترام الهدي الظاهر

للإسلام ومنع المرأة من السفور والتبرج.. هذا شأن عجيب ومريب! وأما إنكار

القمار والميسر ومنع الوسائل التي تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.. فهذا عند هؤلاء

أمر لا يحتمل ولا يتصور!

وقد خلط الإعلام الغربي والعربي الخيال بالحقيقة، والشك باليقين، والكذب

بالصدق في كل هذا عبر سنوات أربع لكي يصنع من الحكم الإسلامي أضحوكة

وأمثولة يسخر منها كل رويبضة من التوافه الذين يتحدثون في أمر العامة.. ووجد

المغرضون ضالتهم في التصريح بمهاجمة شعائر الإسلام بدعوى نقد طالبان.

ومع هذا نقول: لا دفاعَ عن الانحراف في تطبيق الإسلام؛ فالانحراف في

التطبيق أمر وارد، وقد يحدث من طالبان أو غيرها، فقد تستبد الحماسة بأهلها في

بعض الأحوال، فيختل ميزان الأولويات.. هذا جائز الوقوع، ونموذج طالبان في

ذلك ليس معصوماً، فنقده أو حتى نقضه أمر وارد ومقبول ممن ينقد بعلم وعدل،

أما ما لا يقبل ولا يعقل فهو أن يتولى هذا النقد أرباب الفساد والإفساد المنهجي

المبرمج من أدعياء الفكر (الحر) المتسنمين قمم الأهرامات الإعلامية في كل مكان؛

فهؤلاء لن يرضيهم أي برنامج للإصلاح ما دام مستمداً من الإسلام، وسواء كان من

طالبان أو غيرها.

إن هناك ألسنة تطاولت بالهمز واللمز في سُنّة إعفاء اللحية وتحريم حلقها،

بجرأة وفجور، لكنا لم نجد لها تلك الجراءة في نقد الأنظمة العسكرية التي يعتبر

فيها (تلميع) اللحية يومياً هو أول الواجبات وأهم الطقوس العسكرية الوطنية، حتى

إن القائد ليمر بـ (كارت) معه على ذقون الجنود في طابور الصباح، ليعاقب من

طالت شعيراته فزادت على جزء من الجزء من السنتيمتر! ! فأين الحرية

الشخصية يا دعاة الليبرالية؟ !

سادساً: إقامة الحدود:

لما اتجه الرئيس السوداني الأسبق (جعفر النميري) إلى اجتزاء قدر من إقامة

الدين بإقامة الحدود، قامت ضده حملة إعلامية واسعة، ولم تخفّ تلك الحملة إلا

بعد أن نكص النميري عن ذلك وعاد إلى ما كان عليه، واليوم تعاد تلك الضجة،

كلما سمع الغرب حديثاً عن إقامة الحدود الإسلامية في أي بلد من بلاد الإسلام،

وأفغانستان اليوم، لن تكون استثناء من هذا؛ فإقامة الحدود فضلاً عن إقامة الدين

كله أمر سيغضب أعداء هذا الدين في كل مكان.

ولكن حتى لا تكون إقامة الحدود (ديكوراً) يزين واجهة الدولة الجديدة فقط،

وحتى لا يقع النكوص بسبب الضعوط الدولية، فعلى طالبان أن تعمل على إقامة

الدين كله وجمع الأمة عليه، وألا تخشى في ذلك لومة لائم، وسوف يكون هذا إن

وقع أوضح برهان على صدق النوايا. [أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى

المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ] [الشورى: ١٣] وأول ما يُطلب إقامته من الدين في حياة

الناس إقامة الصلاة، فهذا شرط بقاء شرعية الولاية؛ وإن في الناس فطرة تستجيب

لهذه الدعوة لو صدقت في إقامتها النوايا، وبذلت من أجلها الجهود، كما قال سبحانه: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ

ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ

وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ] [الروم: ٣٠، ٣١] .

سابعاً: قضية المخدرات:

من إقامة الدين، أن يُعرض على الناس في صورة نقية بهية، تدعو الناس

إلى قبوله واعتناقه. والسلوك العملي للأفراد والجماعات وكذلك الدول، هو أحد

الأسباب الأساسية في نجاح الدعوة إلى الله، أو انتكاس تلك الدعوة إلى صد عن

سبيل الله.. ونحن أمة دعوة، وإنما جعل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن

المنكر لخدمة الدعوة.. لهذا فإن صورة الداعين للإسلام سواء كانوا أفراداً أو

جماعات أو دولاً، لا بد أن تعلو عن مستوى الشبهات، فضلاً عن الاتهامات

والإدانات.

وقضية المخدرات في أفغانستان تأتي في صميم هذا الموضوع، صحيح أن

زراعة المخدرات والاتجار فيها موجودة في أفغانستان منذ أزمنة بعيدة، حتى شبت

وشابت عليها أجيال وأجيال، إلا أن هذا لا يعني أن القضاء على هذه الظاهرة أمر

مستحيل، فتطهير أفغانستان من حقول الأفيون ليس أكثر صعوبة من عملية نزع

السلاح فيما أظن. والكلام المعلن لمسؤولي طالبان عن مقاومة المخدرات ليس كافياً، واعتذارهم عن استمرار وجود هذه الظاهرة ليس مقنعاً، وفي رأيي: أن هذه

القضية، يمكن أن تصيب الطالبان في المقاتل، وأن تسقطهم من الأعين، وأن

تجلب عليهم سخط الله وسخط الناس، إن تهاونوا فيها أو ساوموا بها، فكيف يمكن

أن يقال عن (الإمارة الإسلامية) إنها أولى دول العالم انتاجاً للأفيون؟ ! هذا عار

نربأ بهم وبالمسلمين عنه، ونناشدهم الله والدين أن يمسحوا عن جبين أفغانستان

المجاهدة، بل عن المسلمين جميعاً هذا العار، والأمر لا يحتاج إلى تلكؤ وتعلل؛

فالفقر مع النزاهة غنى، والغنى بالحرام ضياع.

ولكن الله تعالى لن يضيّع من آمن به، واتقى محارمه كما قال: [وَلَوْ أَنَّ

أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]

[الأعراف: ٩٦] هم يقولون: نحن نحرّم في فتاوينا الشرعية الرسمية زراعة المخدرات وتعاطيها والاتجار فيها، ولكن ظروف الفقر واتساع البلاد تعيقنا عن إتمام القضاء عليها.

نقول: هذا كلام يضيق عن الطموحات العريضة التي ترفعها طالبان،

وتضيق به قلوب المتطلعين إلى عزة الإسلام. فلتُقِمْ حركة طالبان حركة جهاد

أخرى ضد هذا اللون من الفساد الذي لا يقل إضراراً بالبلاد عن الحروب الأهلية

والاختلافات العرقية والمذهبية، بل إن ضرره يتعدى إلى المسلمين في العالم الذين

يعانون من هجمة عالمية جائرة، تريد أن تلصق بهم كل مذمة وتنسبهم إلى كل

نقيصة؛ ولا يصلح هنا أن يقال: لا نهتم بكلام الناس ما دمنا ننوي العمل، هذا لا

يصلح؛ لأن نظرة الناس معتبرة في الشرع، وقد كف النبي -صلى الله عليه

وسلم- عن قتل من يستحق القتل حتى لا يقول الناس إن محمداً يقتل أصحابه،

فامتنع عن أمر جائز، لمنع كلام الناس، فما بالنا إذا كان الأمر مقطوعاً بتحريمه؟

نحن في انتظار معركة سقوط مراتع المخدرات على أيدي الطالبان، كما

سقطت قبل ذلك على أيديهم مواقع المليشيات المتهمة بالإفساد.

ولئن كسب الشعب الأفغاني رضى الله، وعاد إلى الحياة في ظل شرع الله،

وعادت إليه ولاءات المسلمين، فهذا خير له من حيازة البلايين بما لا يجوز في

الدين.

وليستبشر بالنصر والغلبة بكسب ولاية الله وولاية أوليائه [وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ

وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ] [المائدة: ٥٦] .


(١) مجموع الفتاوى (٢٨/٢٠٩) ، وانظر (٢٨/٢٢٩) ، (١١/١٣ - ١٨) ، (٤/١٧ - ٢٠) .
(٢) مجلة الطالب، العدد ١٠، ١١ ص.
(٣) المصدر نفسه ص ١٢.
(٤) جريدة المسلمون (٢٩ / ٥ / ١٤١٧هـ) .
(٥) جريدة الاتحاد، (٢٤ / ٥ / ١٤١٧هـ) .
(٦) مجلة الإصلاح، (١ / ٥ / ١٩٩٧م) .