للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات في الشريعة والعقيدة

الظلم حقيقته والتحذير منه

(٢/٢)

عبد العزيز الجليل

الحمد لله وحده، وبعد:

تقدم الحديث في الحلقة السابقة عن الظلم وحقيقته، وما ورد في ذمه وسوء

عاقبته وعاقبة أهله من الآيات والأحاديث والآثار، كما سبق التعرف على أقسامه

الرئيسة. وفي هذه الحلقة سنتعرف إن شاء الله تعالى على بعض صور الظلم

المختلفة لكل قسم، وبخاصة ما يتعلق منها بمظالم العباد.

القسم الأول: ظلم النفس بالظلم الأعظم:

وهو الكفر بالله تعالى والإشراك به سبحانه: قال الله تعالى: [وَالْكَافِرُونَ هُمُ

الظَّالِمُونَ] [البقرة: ٢٥٤] ، وقال عز وجل: [إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]

[لقمان: ١٣] ، وهذا النوع من الظلم لا يغفره الله عز وجل لو مات صاحبه بلا

توبة، وهو مخلد في النار. وكونه أعظم الظلم؛ لأنه وضعٌ للعبادة في غير موضعها، وصرفها عن الله عز وجل الخالق الرازق رب العالمين إلى مخلوق ضعيف لا يملك نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

ومن صور هذا الظلم العظيم ما يلي:

أ - الشرك في الربوبية: وهو اعتقاد أن غير الله عز وجل يخلق أو يرزق

أو يدبر شيئاً في هذا الكون من دون الله عز وجل أو مع الله عز وجل تعالى الله عن

ذلك علواً كبيراً كشرك أهل التعطيل والفلاسفة ومن يقولون بقدم العالم، وكشرك

النصارى الذين يقولون: إن الله سبحانه ثالث ثلاثة، وكشرك المجوس القائلين

بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة ... إلخ.

ب - الشرك في الألوهية: وهو اعتقاد شريك لله تعالى في الإلهية والطاعة

والعبادة، وهو شرك الجاهليين في القديم والحديث، وهذا النوع من الشرك له

صور كثيرة لا تخرج في مجملها عن الأنواع الآتية:

* الشرك في العبادة والنسك: ومنها الخوف والرجاء والنذر والذبح والركوع

والسجود والدعاء، وغير ذلك مما يصرفه المشركون إلى أوليائهم من الأحياء

والأموات.

* الشرك في الطاعة والاتباع: قال الله تعالى: [وَإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ

لَمُشْرِكُونَ] [الأنعام: ١٢١] وقال تعالى: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن

دُونِ اللَّهِ] [التوبة: ٣١] وقد جاء في تفسير الآية أنهم أطاعوهم في تحليل ما حرم

الله تعالى، وتحريم ما أحل الله تعالى فكانوا بذلك متخذين أحبارهم ورهبانهم أرباباً

من دون الله تعالى، وأوضح مثال لذلك في زماننا، ما يقوم به الطواغيت

المشرعون من دون الله تعالى من وضع دساتير يظلمون بها عباد الله ويحكمون بها

في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وفيها ما يضاد شرع الله عز وجل فمن رضي بها

وأطاعهم فيها بعلم فقد أشرك، واتخذهم أرباباً من دون الله عز وجل.

ج - الشرك في الولاية والمحبة: وذلك بعدم البراءة من الشرك وأهله، أو

محبتهم محبة قلبية لدينهم، أو نصرتهم على المسلمين، كل ذلك مما يوقع في

الشرك الأكبر والظلم الأعظم، قال الله تعالى: [قُلْ أََغَيْرَ اللَّهِ أََتَّخِذُ وَلِياً فَاطِرِ

السَّمَوَاتِ وَالأََرْضِ] [الأنعام: ١٤] ، وقال تعالى عن اليهود والنصارى: [وَمَن

يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] [المائدة: ٥١] .

د - ومن صور الظلم الأعظم الوقوع في ناقض من نواقض الإسلام التي

ذكرها العلماء في كتبهم، والتي لا تخرج في جملتها عن أن تكون تكذيباً بخبر الله

عز وجل وخبر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو رداً لأمر الله سبحانه وأمر

رسوله. وراجع إن شئت ما كتبه الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى عن

بعض هذه النواقض. في رسالة مطبوعة بهذا الشأن.

القسم الثاني: ظلم النفس بوقوعها في مظالم العباد:

وهذا النوع من الظلم أخف من سابقه في كونه لا يخلد صاحبه في النار لو

دخلها، ولكن الخطير فيه إثمه وعقوبته التي لا تزول إلا برد المظالم إلى أهلها، أو

استباحتهم منها وإلا كان القصاص يوم القيامة بالحسنات والسيئات وليس بالدينار

والدرهم، وكفى بهذا حاجزاً عن الظلم، وكفى به رادعاً وواعظاً للعبد المسلم في أن

يتخفف من حقوق العباد، ويخرج من هذه الدنيا سالماً لا يطلبه أحد من العباد

بمظلمة في دين أو نفس أو مال أو عرض. وهذه الأمور لا تكاد تخرج مظالم العباد

عنها.

وظلم الناس إنما ينشأ من الإضرار بهم في دينهم أو دنياهم ويكون ذلك بأمرين:

١- إما بمنعهم حقوقهم.

٢-أو بفعل ما يضر بهم؛ وهذا ما يشير إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى

بقوله:

(وإضرار العبد في دينه ودنياه هو ظلم الناس؛ فالظلم للغير يستحق صاحبه

العقوبة في الدنيا لا محالة لكف ظلم الناس بعضهم عن بعض، ثم هو نوعان:

أحدهما: منع ما يجب لهم من الحقوق، وهو التفريط.

الثاني: فعل ما يضر بهم وهو العدوان [١] .

وتحصل لدينا من هذه القاعدة أن ظلم الناس يصدق على أي إضرار يقع

عليهم في إحدى ضرورياتهم الخمس: (الدين، أو النفس، أو العقل، أو العرض،

أو المال) سواءً بمنع ما يجب لهم من الحقوق أو فعل ما يضر بهم. ومن الأمثلة

الواضحة في ذلك ظلم الوالدين أو الأولاد أو الأزواج والزوجات بمنع ما يجب لهم

من الحقوق أو فعل ما يضر بهم في دينهم ودنياهم.

وبعد هذه المقدمة التي لا بد منها في الحديث عن مظالم العباد نتعرف الآن

على بعض الصور لهذه المظالم على سبيل الاختصار.

أ- من صور ظلم العباد في دينهم:

* التسبب في صرف الناس عن دينهم وعقيدتهم وأخلاقهم، سواءً بإثارة

الشبهات التي ينحرف بها العبد عن عقيدته الصافية فيقع في الكفر أو البدعة، أو

بإثارة الشهوات التي توقع العبد في الرذيلة والفسق والفجور. فهذا كله من الظلم

العظيم للناس في دينهم وأخلاقهم، وممن يتولى كِبَرَ هذا النوع من الظلم الأصناف

الآتية من الناس:

* الذين يسنون الأنظمة الجائرة والفاجرة التي تمكن للمفسدين في الأرض من

نشر فسادهم والسماح لهم بل ومنحهم الإذن بما يخوّلهم تشييد صروحهم الإعلامية

التي يفسدون من خلالها عقيدة الأمة وأخلاقها، سواءً بكلمة مقروءة أو مسموعة أو

مرئية. وهذا من أعظم الظلم.

* الناشرون الذين يبثون من خلال كتبهم ومجلاتهم وأشرطتهم كل ما من شأنه

إثارة الشبهات والانحراف في أفكار الناس، أو إثارة الشهوات والانحلال سواء

بالكتابات الهابطة أو الصور الساقطة، وكل هذا من ظلم العباد في دينهم.

* الإعلاميون الذين تصدروا أماكن التوجيه في الوسائل الإعلامية المختلفة

من تلفاز وإذاعة وقنوات، فنسوا دينهم ونسوا يوم الحساب؛ فوجهوا سمومهم إلى

دين الأمة وأخلاقها بما يبثونه من شبهات ومغالطات، وبما يبثونه من أفلام قذرة

وأغان خليعة تثير الشهوات وتقتل الغيرة والفضيلة. وكل هذا أيضاً من ظلم العباد

في دينهم.

* التجار الذين لا يهمهم دين ولا خلق وإنما همهم الدينار والدرهم، ولا يهمهم

المصدر الذي يجلب لهم المال أمن حلال هو أو من حرام. فراحوا يتاجرون بما فيه

إفساد للدين ونشر للرذيلة وقتل للفضيلة؛ وذلك بما نراه اليوم من تجارة الكتب

الهدامة التي تضلل الناس وتحرفهم عن دينهم أو التي تنشر أسباب الخنا والفجور

من كتب الغرام وعرض صور النساء الفاجرات على غلاف المجلات وفي ثناياها،

كما يلحق بهذا من يتاجر ببيع الوسائل المروّجة لذلك، وغير خافٍ على أحد ما

ينشر في هذه الوسائل اليوم من شر وفساد، وكل ذلك من ظلم العباد في دينهم.

* أولئك الآباء أو الأبناء، الذين يسعون لملء بيوتهم من هذه الوسائل المدمرة

للدين والأخلاق، فيخربون بيوتهم بأيديهم ويظلمون أنفسهم ومن تحت أيديهم بما

يسببونه لهم من الانحراف والفساد والضياع بجلب الكتب والمجلات وأجهزة الفساد

إلى أهليهم، فيحملون أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم.

* الذين يسهمون في الدلالة على الشر وأهله، والصد عن سبيل الله،

والتنفير من أهل الخير وتشويه سمعتهم عند الناس.

* كما يدخل في ظلم الناس في دينهم كل من أسهم في ذلك بندوة أو محاضرة

أو مقالة أو كتاب أو مسرحية ... مما فيه تضليل للناس أو إفساد لأخلاقهم. قال الله

تعالى: [لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ

أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ] [النحل: ٢٥] .

* من يُقَصّر من العلماء وطلبة العلم في تعليم الأمة أمر دينها فيتركها في

لهوها وفسادها لا تؤمر ولا تنهى، أو تركها حائرة فيما ينزل عليها من النوازل

دون هدايتها إلى وجه الحق في ذلك، كما أن من الظلم المبين كتم الحق عنها أو

لبسه بالباطل.

* كما يلحق بمن سبق أولئك الذين يُقَصّرون في تعليم أبنائهم أو آبائهم أو

زوجاتهم فروض العين وما ينجون به من عذاب الله تعالى؛ فترك هؤلاء على

جهلهم مع القدرة على تعليمهم يعد ظلماً في دينهم.

ب - من صور ظلم العباد في النفس والعقل:

* التعدي على كل نفس معصومة بقتل أو ضرب أو سجن أو تعذيب ... إلخ. ويدخل في ذلك كل من باشر الاعتداء بنفسه أو أمر به أو أعان عليه أو أشار به

أو فرح به أو شمت أو قعد عن نصرة المعتدى عليه وهو يقدر على ذلك. قال:

(من ضَرَبَ بسوط ظلماً اقتُصّ منه يوم القيامة) [٢] . وقال: (لتؤدن الحقوق إلى

أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) [٣] .

فإذا كان هذا حال العجماوات فيما بينها فكيف الحال بما يقوم به اليوم

طواغيت الأرض وأعوانهم من سجن وتعذيب وتشريد لصفوة عباد الله تعالى. إنه

والله الظلم المبين.

ووقوع القتل العمد الصريح للمعصوم قد يكون قليلاً، لكن الذي يقع كثيراً هو

القتل بشبهة أو تأويل؛ وهذا يكثر أيام الفتن والقتال بين طوائف المسلمين أعاذنا الله

من ذلك وهذا هو الذي حَذِرَهُ جماعة من السلف واعتزلوا فيه الطوائف المتقاتلة

وتذكروا قوله: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) [٤] .

* القعود عن إنقاذ من يتعرض لهلاك كالغريق والحريق والجريح مع إمكانية

إنقاذه.

* ترويج المخدرات والخمور والدخان والإغراء بتناولها، ومعلوم ما في ذلك

من الأضرار المعلومة

* التطبب في الناس بجهل وشعوذة ونحوها مما ينشأ عنه موت المريض أو

استفحال مرضه.

* الإسهام في بيع المطعومات التي تضر بصحة الناس كالميتة والخنزير

ومشتقاتهما أو بيع المغشوش من الأطعمة والأشربة الضارة بالصحة والعقل.

ج - من صور ظلم العباد في أعراضهم:

* كل ما سبق ذكره في الاعتداء على الدين، من شأنه هتك الأعراض

وإشاعة الفاحشة بين الناس، ومحاربة الشريعة الغراء التي من مقاصدها حفظ

الأعراض.

* قذف المحصن من المسلمين والمسلمات دون بينة شرعية؛ مما يلحق الأذى

والعار بالمقذوف، ولا يخفى ما جاء من الآيات والأحاديث في النهي عن ذلك.

* المتاجرة في الملبوسات والأزياء النسائية المحرمة التي تصف الجسد أو

تكشف بعضه تشبهاً بالكافرات، ويدخل في ذلك من يشتري مثل هذه الأزياء لأهله

ويأذن لهم بالخروج فيها والتبرج بها، كما أن المرأة المتبرجة تعد هي الأخرى

ظالمة للناس بتعريضهم للفتنة.

* التجارة بفتح المؤسسات السياحية المتخصصة بتسهيل السفر إلى بلاد الكفر

بقصد ارتياد أماكن الفجور.

* الاعتداء على أعراض العباد بالغيبة والنميمة والفحش والسخرية

والاستهزاء، والكذب عليهم، ويشتد الإثم في ذلك عندما توجه هذه الآفات إلى أهل

الخير من العلماء والدعاة والمصلحين.

د - من صور ظلم العباد في أموالهم:

* الاعتداء على أموال المعصومين سواء بسرقة أو إتلاف أو بالتحايل

والخداع، وسواء كان المسروق عيناً أو نقداً. ويدخل في ذلك السرقة من الأموال

العامة للمسلمين كبيت المال والصدقات وغنائم المجاهدين. قال الله عز وجل:

[وَمَن يَغْلُلْ يَاًتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ] [آل عمران: ١٦١] . وقال: (إن رجالاً يخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة) [٥] . ويلحق بذلك كل من استُؤمن على مال لحفظه أو استثماره ثم خان صاحب المال أو فرط في حفظه وتنميته، ويشتد الإثم إذا كان الاعتداء أو التفريط في حفظ المال العام والأوقاف وأموال اليتامى.

* الاستيلاء على أموال المعصومين بالغصب والقوة؛ ويتضح هذا جلياً في

ظلم الأرض والعقار حيث يُستولى على الأراضي وتغير المنارات، وفي هذا جاء

الوعيد الشديد؛ حيث قال: (من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوّقه الله يوم القيامة

من سبع أرضين) [٦] .

* التسبب في قطع حق المسلم من مال أو غيره إما بشهادة زور أو يمين كاذبة

أو وجاهة ... إلخ. قال: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة) فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ فقال: (وإن

كان قضيباً من أراك) [٧] .

* أخذ الرشاوي من الناس ومنعهم حقوقهم إلا بها، وهذا من أكل المال

بالباطل، ويدخل في أكل المال بالباطل التعامل بالقمار والميسر.

* السماح بإنشاء البنوك الربوية أو المساهمة في إنشائها، وتنمية المال من

خلالها، ويلحق بذلك كل من تعامل بالربا فرداً كان أو مؤسسة، فكل ذلك من أكل

المال بالباطل، ومن التعاون على الإثم والعدوان.

* ومما يدخل في ظلم الناس في أموالهم ما يقع بينهم من البيوع المحرمة التي

يتضرر فيها أحد المتبايعين أو كلاهما، وهي كثيرة ومتنوعة منها بيوع الغرر أو

بيع ما لا يملك أو بيع النجش ...

* إنكار المدين ما عليه من الحق للدائن أو المماطلة بالوفاء مع القدرة على

ذلك فهذا من الظلم البين لقوله: (مطل الغني ظلم) [٨] .

* منع الزكاة وعدم إيصالها لمستحقيها، وأخذ كرائم أموال الناس عند جباية

الزكاة منهم لقوله: (وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم..) [٩] .

وبعد هذه الجولة السريعة المختصرة في إيراد بعضٍ من صور الظلم يبقى

سؤال مهم لا بد من الإجابة عليه لتكمل الفائدة ويعم النفع، وليكون مخرجاً لمن أراد

التخلص من تبعات العباد قبل يوم الفصل والحساب، وهو: هل من سبيل إلى

التوبة من حقوق العباد؟

والجواب: نعم، فباب التوبة مفتوح للتائبين الصادقين، ومن ذا الذي يحول

بين العبد والتوبة والله عز وجل يقول: [إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً]

[الزمر: ٥٣] . لكن التوبة من حقوق العباد أصعب بكثير من تلك الذنوب التي بين العبد وربه وليس للمخلوق فيها حق؛ ذلك أن حق الله عز وجل مبني على المسامحة، وحق المخلوق مبني على المشاحّة؛ لذا فإن التوبة من حقوق العباد يُشترَط لها شرط إضافي على شروط التوبة المعروفة ألا وهو: التحلل من أصحاب الحقوق، سواء برد المظالم إلى أهلها أو مسامحة أهل الحقوق لمن ظلمهم وتنازلهم عن حقوقهم عليهم، ومن هنا تأتي صعوبة التوبة من حقوق العباد ...

ومشقتها. والموفق من جنبه الله تعالى الوقوع في الظلم أصلاً، أما من وقع منه الظلم للعباد في دين أو نفس أو عرض أو مال فإنه يحتاج إلى عزيمة قوية وزهد في الدنيا ورغبة في الآخرة يدفعه إلى رد الحقوق إلى أهلها والتحلل منهم قبل يوم الفصل والقضاء.

وفيما يلي عرض سريع لما ذكره العلماء عن كيفية التوبة من ظلم العباد في

ضرورياتهم الأساسية التي جاءت الشريعة للحفاظ عليها وحمايتها من المعتدين:

أولاً: التوبة من ظلم العباد في دِينهم:

من كان له دور في إضلال الناس في عقيدتهم أو شريعتهم أو أخلاقهم فإن من

تمام توبته أن يقلع بنفسه عن ضلاله وإضلاله، وأن يندم على ما فعل، ثم لا بد له

بعد ذلك أن يبذل جهده ووسعه في إصلاح ما أفسد، وأن يعلن توبته للناس ويبين

لهم ضلال ما كان عليه لقوله تعالى: [إلاَّ الَذِينَ تَابُوا وَأََصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ

أََتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأََنَا التَّوَّابُ الرَّحِيم] [البقرة: ١٦٠] وبدون ذلك فإن التوبة غير تامة. ويذكر أهل السّيَر دائماً في هذا المقام توبة أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى ...

وكيف أنه بين للناس ضلال ما كان عليه وأنه رجع إلى مذهب السلف وما كان

يقول به أحمد بن حنبل [١٠] .

ثانياً: التوبة من ظلم العباد في أبدانهم وأنفسهم:

ما كان من هذه المظالم مما هو دون القتل كضرب أو جرح ونحوهما فالتوبة

تكون بالندم على الفعل واستغفار الله عز وجل وهذا مما يتعلق بحق الله عز وجل،

ويبقى حق المظلوم فلا يسقط إلا بأن يعفو عن الظالم أو يأخذ بالقصاص منه؛

فحينئذ تبرأ ذمة الظالم؛ وبدون ذلك يبقى الحق معلقاً إلى يوم القصاص يوم القيامة. أما جريمة القتل فالتوبة منها شاقة لموت المقتول وفوات نفسه دون أن يستدرك

ظلامته، ولذلك يرى بعض العلماء أن لا توبة له ولا بد من القصاص يوم القيامة.

ويرى طائفة من العلماء أن الحق يسقط إذا سلم نفسه للقصاص في الدنيا وصدق في

توبته مع الله عز وجل، ومن هنا نرى عظم جرم الاعتداء على النفس بالقتل، وأن

القصاص ينتظر المعتدي يوم القيامة (بالحسنات والسيئات) حتى ولو اقتُص منه في

الدنيا على أحد القولين [١١] .

ثالثاً: التوبة من ظلم العباد في أعراضهم:

* إن كان الظلم بالنيل من أعراضهم بالغيبة والنميمة والسخرية فإنه لا بد مع

استغفار الله من التحلل من أصحاب الحقوق، وطلب المسامحة منهم ما داموا على

قيد الحياة، فإذا تعذر هذا لموت صاحب الحق، أو خوف المفسدة من الملامة فيرى

بعض العلماء الإكثار من الاستغفار له والثناء عليه في المجالس التي أساء فيها إلى

المظلوم.

* وإن كان الظلم بالقذف والتهم الباطلة فعليه التوبة النصوح بشروطها مع

إصلاح ما فسد؛ ومن ذلك تكذيبه لنفسه حتى ينتهي العار عن المقذوف.

* وإن كان الظلم بإشاعة الفاحشة وترويجها بين الناس بكلمة أو كتاب أو فيلم، أو غير ذلك من الوسائل التي تثير الشهوات وتهتك الأعراض؛ فإن من تمام

التوبة منها الإقلاع عنها، والندم على ما حصل، وإصلاح ما نشأ من فساد بسببها،

وذلك حسب الجهد المستطاع، بأن يتبرأ هؤلاء الظالمون من أفعالهم ويبينوا للناس

بطلانها، وأن لا يفتُروا عن الإصلاح وبذل النصح للأمة. قال تعالى: [إلاَّ مَن

ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ] [النمل: ١١] .

رابعاً: التوبة من ظلم الناس في أموالهم:

الأصل في التوبة من حقوق الناس المالية أن ترد إلى أهلها في الحياة الدنيا،

فإذا تاب الظالم توبة نصوحاً وندم وأقلع ثم رد الأموال المسروقة أو المغصوبة إلى

أهلها فقد برئت ذمته.

أما إذا لم يهتد إلى أصحاب الأموال لموتهم أو جهله بهم فإنه يردها إلى ورثتهم، فإن لم يتوصل إليهم فإن بعض العلماء يرى أن يتصدق بها عن أصحابها؛ وبذلك

تبرأ الذمة إذا صدقت التوبة، وطائفة من العلماء لا يرى أنها تبرأ إلا بإرجاعها إلى

أربابها؛ وإلا فقد تعذرت عليه التوبة، والقصاص أمامه يوم القيامة بالحسنات

والسيئات ليس إلاّ [١٢] .

وختاماً: أسأل الله عز وجل أن يجنبنا الظلم بشتى صوره، وأن يخرجنا من

هذه الدنيا خفاف الظهور من دماء الناس، خُمصَ البطون من أموالهم، سالمي

الألسنة من أعراضهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


(١) (مجموع الفتاوى ١٠/٣٧٣) .
(٢) البخاري في الأدب المفرد (١٨٥) ، صحيح الجامع الصغير (٦٣٧٤) .
(٣) مسلم (٢٥٨٢) .
(٤) البخاري في الديات (٦٨٦٢) .
(٥) البخاري في فرض الخمس (٣١١٨) .
(٦) البخاري، ك المظالم ٣/١٠٠.
(٧) مسلم، كتاب الإيمان (١٣١) .
(٨) البخاري في الحوالة (٢٢٨٧) ، مسلم (١٥٦٤) .
(٩) البخاري في الزكاة (١٤٥٨) .
(١٠) انظر وفيات الأعيان، ٣/٢٨٥، الإبانة لأبي الحسن الأشعري، ص٨.
(١١) انظر تفصيل القولين في مدارج السالكين، ١/٣٩٨.
(١٢) ارجع إلى تفصيل القولين في مدارج السالكين ١/٣٨٧، ٣٨٨.