للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قراءة في كتاب

نهضة أمة.. كيف نفكر استراتيجياً؟ `

عرض: وائل عبد الغني

المؤلف: لواء أركان حرب: د. فوزي محمد طايل.

طبعة: ١، سنة ١٤١٨هـ ١٩٩٧م.

الناشر: مركز الإعلام العربي القاهرة.

عدد الصفحات: ٤١٢ صفحة، قطع كبير.

تدور فكرة الكتاب الرئيسة باعتبارها دراسة استراتيجية حول حال الأمة

الراهن، وكيفية الخروج منه، ومحاولة وضع أسس للنهضة من خلال الاجتهاد في

وضع منظومة قيم عليا مستنبطة من الكتاب والسنة، مع بيان الفرق بينها وبين

القيم الغربية المقابلة لها في الصراع الدائر اليوم والتي يفرضها النظام العالمي

الجديد، وبيان مدى التضليل الذي يمارس في التقريب بينها وبين قيمنا الإسلامية.

لذلك كان لا بد من التفصيل في كلّ من القيم، والنظام العالمي الجديد وآلياته

وأساليبه التي يراد من ورائها تغييب الوعي وإخماد روح المقاومة في الأمة.

والكتاب الذي أهداه مؤلفه إلى النخبة من أهل العلم من المؤمنين وأهل

السلطان يتكون من أبواب خمسة:

الأول: مصادر الأحكام ومراجع الفكر.

الثاني: منظومة القيم الإسلامية.

الثالث: إرهاصات النظام العالمي الجديد.

الرابع: النظام العالمي الجديد.

الخامس: أساليب وآليات إقامة النظام العالمي الجديد.

الباب الأول: ينقسم إلى فصلين:

الأول: يتحدث فيه عن مصادر الأحكام ومراجع الفكر، وأنها منحصرة في

الكتاب والسنة؛ فالقرآن لأنه حق اليقين وما سواه ظنّي؛ فله تخضع كل العلوم؛

والسنة لأنها مصدر مكمل ومبين للكتاب صدرت من أعلم خلق الله تعالى بالقرآن.

الفصل الثاني: ينفي فيه وجود مصادر نقلية أخرى للأحكام والفكر، ويخلص

إلى كون الإجماع مصدر مستقل بشروطه.

ويعتبر الاجتهاد الفكري فريضة تمليها المستجدات والنوازل، وهو ينطلق في

الإسلام من نقطة تمثل مفرق طريق مع المناهج الأخرى؛ وهي حكمة الخلق

واستخلاف الإنسان في الأرض على المنهج السماوي. وتظهر أهمية الاجتهاد

الفكري في كونه النهج الذي يحفظ للأمة القدرة على التطور والتعامل مع متغيرات

الزمان والمكان، والاستعداد لمواجهة الأمور المستقبلية.

وعلى الرغم من وجوب سير المجتهد خلف النص وفي إطاره إلا أن الاجتهاد

يظل عملاً إنسانياً تحده القدرة العقلية للمجتهد الذي قد يفتح الله له بفهمٍ لا يتيسر

للآخرين.

ولا يعني وصول المجتهد مرتبة من العلم مهما علت أنه الأقدر دائماً على

بلوغ الصواب في كل المسائل، وهذا لا يعني أبداً أن يتصدر للاجتهاد من لم

يستجمع آلته وأهليته؛ لأن الأمر مزاج بين علمٍ مكتسب وملكة هي منة يختص بها

الله من يشاء من عباده. ويبرز وفق هذا حاجة الأمة إلى تصور اجتهادي شامل

للأمور (فكر استراتيجي شامل) ، خاصة مع كثرة المستجدات واتساع المعرفة

والتطور السريع.

واقترح أن يتم الاجتهاد على مستويين:

الأول: فردي؛ يتيح المجال أمام المجتهدين.

والثاني: باجتماع العلماء الذين اجتهدوا في كل مسألة بعينها لحسم ما يمكن

حسمه من مسائل الخلاف، وبهذا تتوافق آراء الأمة حول القضايا الاستراتيجية.

وقد حاول المؤلف أن يقدم من خلال تجربته هذه محاولة للفكر الاستراتيجي

الإسلامي، والتي نحتاج إلى تفعيلها، وحدد أسباب التخلف في أربعة أمور هي:

١- انفصال الأمة عن شرعة الإسلام ومنهاجه، وضعف الإيمان في النفوس.

٢- عدم وضوح منظومة القيم الإسلامية في النفوس واختلاطها بغيرها من

القيم الفاسدة.

٣- عدم وجود أي فكر استراتيجي إسلامي شامل يتعامل مع المستقبل.

٤- تغييب إرادة التغيير والنهوض بل والإرادة بشكل عام.

لذا لا بد للأمة أن تجتمع على منظومة قيم عليا مستنبطة من الكتاب والسنة.

وهي كما يراها: العلم، والإيمان، والعمل، وتكريم الله للإنسان، ووحدة

الأمة، والعدل، والشورى.

وهي موضوع الباب الثاني:

ويعني بالقيم جمع قيمة الأمر المعتدل في الوضع الأمثل.. ولم يُصنّف أحد

من العلماء من قبل في هذا الباب بذاته؛ لأن القيم الإسلامية هي الدين كله وعليها

يقوم المجتمع الإسلامي.

هذه القيم ثابتة بثبات مصادرها، ويتفرع عنها قيم أخرى حاجية وتحسينية.

وأول هذه القيم: العلم؛ إذ به كُرّم آدم واستخلف في الأرض.

ويبرز أثر العلم في بناء الأمم والحضارات، مع كون الإسلام يتضمن المبادئ

العامة والأسس التي تحكم العملية التربوية والتعليمية والبحث العلمي، ثم يحاول بعد

ذلك رسم سياسة عامة للتعليم في بلاد المسلمين.

والقيمة الثانية: كما يراها: الإيمان. لأن مطلق الإيمان بشيء ما يعد قيمة

عليا عند غالب البشر، وعلى مقتضاه يتشكل الضمير الإنساني وتتشكل نظرته

لمناحي الحياة.

والإيمان بالله له مدخل محدد منضبط هو الإسلام. وعلى ذلك فهو مفرق

طريق بيننا وبين غيرنا في كل شعبه. وهو أمرٌ فطري بخلاف الفكر الغربي الذي

يعتبره مكتسباً من خلال الملكات العقلية.

وثالث هذه القيم: العمل الذي يمثل قاعدة لمثلث القوى الذي تستقر عليه

المنظومة العليا، وكثيراً ما يوصف العمل بـ (الصالح) في القرآن، ويتحقق به

استخلاف الإنسان في الأرض، وتكتمل به عبادته؛ لارتباطه الوثيق بالإيمان؛ فهو

ليس أمراً مادياً بحتاً، وبهذا يتميز كقيمة إسلامية عليا.

وليحقق العمل نتائجه المرجوة فلا بد من التعليم والتنشئة والانتقاء لتحقيق

أعظم المكاسب للأمة.

وهو متميز في الإسلام؛ لأنه يبدأ من سن التكليف ولا ينتهي إلا بالموت،

وبهذا يتحدد وعاء العمل في الأمة ككل في أثناء التخطيط. ولا يمكن أبداً إهدار

دور النساء لاعتبارهن شقائق الرجال؛ فللمرأة دورها الذي خصها الله به وفق

طبيعتها، وهو بين الندب والكفاية والتحريم، والحل فيما وراء ذلك.

ويستكمل خريطة العمل في هذا المجال بتحديد أهلية التكليف بالعمل (العلم

والكفاءة) وشروط الترقية، وطريقة التعاقد، وطريقة تحديد الأجر على الكفاية لا

الكفاف، والتوازن بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة مع تجنب المحرمات،

ودور التخطيط في مراعاة ذلك في توجيه العمل الذي يعد عبادة كالصلاة؛ لذا تعد

إقامة الشعائر جزءاً من خطة التنمية.

أما القيمة الرابعة فهي تكريم الله للإنسان، وهي هبة ربانية غير معلقة على

شرط ولا حتى الإيمان؛ لهذا فلا يجوز للإنسان التنازل عنها، ولا يجوز لكائن من

كان أن يجرد منها إلا أن يشاء الله [وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ] [الحج: ١٨] .

والتكريم ليس من قبيل الحقوق التي تُرتّب للإنسان مقابل التزام يلتزم به؛ بل

هو من قبيل السنن الإلهية.

وللشارع الحكيم في تكريم الإنسان مقاصد خمسة هي: حفظ العقل، والدين،

والنفس، والعرض، والمال.

أما التطابق بين تكريم بني آدم وبين فكرة حقوق الإنسان فمزعوم؛ لأن الثانية

قائمة على افتراض الخصومة بين الفرد والدولة؛ لذا فهي مجرد دفاع سلبي عن

الأفراد دون تقديمهم لأي مقابل؛ مع أن المفترض أن يقدموا الواجب ليكون مسوغاً

لطلب الحق.

كما تقوم على فكرة المساواة التامة التي تجافي العدل لا سيما أن فكرة المساواة

كانت من صنع اليهود ليدفعوا عن أنفسهم الاضطهاد الأوروبي.

وتستخدم حقوق الإنسان اليوم كوسيلة ردع وتدخل وإكراه من قبل الدول

الأقوى، وأداة للضغط المعنوي لإجبار الدول الضعيفة على انتهاج سياسات داخلية

وخارجية بعينها وإلا تعرضت للعقوبات.

ثم فنّد مخاطر هذه الفكرة على المجتمعات.

أما القيمة الخامسة فهي وحدة الأمة، وهي فريضة معلومة من الدين

بالضرورة. وللأمة أربعة أبعاد لا ينفصل أحدها عن الآخر هي:

١- بعد عقدي: وهو الأصل والمعيار.

٢- بعد إقليمي: يجعل كل الأرض التي سرت عليها أحكام الإسلام يوماً من

الأيام أرضاً إسلامية.

٣- بعد شخصي: يدخل في الأمة كل من دخل في الإسلام.

٤- بعد تاريخي: يفيد استمرارية وجود الأمة دون انقطاع.

ومما حبا الله هذه الأمة من مقومات الوحدة:

١- حفظ الله لكتابه.

٢- التواصل التاريخي والجغرافي لهذه الأمة.

٣- وحدة المصلحة العليا التي تتمثل في إقامة الدين، والدعوة المستمرة إلى

الله، والجهاد الذي لا يفتر إلى أن تقوم الساعة حتى تكون كلمة الله هي العليا.

٤- الحب والود والرحمة الذي جعله الله في قلوب المؤمنين بعضهم نحو

بعض.

٥- وحدة الخطاب القرآني في الأحكام.

وبهذا فإن المجتمع المسلم لا يعرف صراعاً بين السلطة والأفراد، ولا يعرف

الحزبية؛ ولذا ينبغي عدم الخلط بين الحزب السياسي والمذهب الفقهي.

وتقتضي وحدة الأمة عدم جواز إقامة حواجز سياسية تفرق بين المؤمنين؛

لأن الوحدة من الثوابت والفرقة حديثة عهد، وليس للمتغير أن يمحو الثابت.

سادسة القيم: العدل: وهي قيمة لا يمكن لإنسان أن ينكر علوها وإنما

الاختلاف في (ماهية العدل ومعياره) . والعدل باعتباره قيمة فريضة معلومة من

الدين بالضرورة لا تستقيم الحياة إلا بها؛ لذا جعل الله إقامته أمانة، وأعان على

ذلك بالقوة. ويختلف معيار العدل في الإسلام كثيراً عن معياره عند أهل الكتاب؛

لأنه يشمل عندنا العدو والصديق، ولا اعتبار للصلات أو للمكانة الاجتماعية، وقمة

العدل هي في الحكم بما أنزل الله. ويختلف العدل عن المساواة؛ لأن البشر

متفاضلون.

ومن العدل الموازنة بين مصلحة الفرد والمجتمع. وإقامة العدل شعيرة ينبغي

أن تُنصب لإقامتها مجالس القضاء، ويكتمل دورها بالحسبة التي تحول دون وقوع

الظلم والاعتداء، أما الحضارة الغربية فكثيراً ما تلبس الظلم لبوس العدل.

سابعة القيم: الشورى، وهي واجبة الأداء؛ لأنها الطريقة التي شرعها الله

تعالى لصنع واتخاذ القرارات في كل المستويات، ولها مراحل ثلاث هي:

١- مرحلة صنع القرار من خلال الصفوة (أهل الحل والعقد) .

٢- مرحلة اتخاذ القرار (من المسؤول) (أي: العزم) .

٣- مرحلة التنفيذ بعد استنفاد الجهود، والأخذ بالأسباب، مع التوكل على الله، وهذا مستنبط من آية الشورى.

وتتميز في الإسلام من حيث موضوعها: وهو ما لا نص فيه، ومن حيث

مرجعيتها: فإلى منظومة القيم الإسلامية؛ وهي أوجب في القرارات المصيرية مثل

تنصيب الولاة والحكام.

ومن تميز الشورى مباينتها التامة للديمقراطية التي صارت بضاعة بالية تحمل

من العيوب ما لا يمكن لمؤمن قبوله، وما نجاحها في الاستيلاء على ألباب بعض

المفكرين في أمتنا إلا لأنهم [يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ

غَافِلُونَ] [الروم: ٧] .

وفي ختام الباب يرى المؤلف استحالة التنمية الشاملة دون بذلٍ لجهد وأخذٍ

بالقوة مع ما آتانا الله تعالى من الكتاب والحكمة، والتوكل على الله الذي يداول

الأيام بين الناس.

وفي الباب الثالث: يتناول المؤلف إرهاصات النظام العالمي الجديد، من

خلال أربعة محاور. فأشار ابتداءً إلى غموض مصطلح النظام العالمي الجديد،

وأنه قائم على فكرة عقدية (يهودية نصرانية) تقتضي تهيئة الأرض بالسلام لقدوم

المسيح المخلص! وهي فكرة استراتيجية لا يمكن فصلها عن منظومة القيم والعقيدة

وأحداث التاريخ وواقع الجغرافيا.

ثم يعرض لتطور العلاقة بين الإسلام وأهل الكتاب منذ بعثة النبي -صلى الله

عليه وسلم-، وتطور الصراع حتى وصل إلى شكل حروب صليبية عقدية ممتزجة

بأهداف اقتصادية وسياسية تعكس مفهوم الفكر الاستراتيجي الصليبي الغربي.

ومع انتقال مركز الحضارة من الشرق إلى الغرب في منتصف القرن الثامن

عشر، أشار كثير من منظريهم في أدبياتهم إلى أن الحضارة الغربية (يهودية

نصرانية) أو بتعبير أدق (صهيونية صليبية) ، وهو ما يُشعر بأن الحركة الصهيونية

قد تحركت منذ وقتٍ مبكر (القرن السابع) سراً للتأثير في آباء الفكر الأوروبي،

وعملت إلى جانب ركوب موجة النهضة الأوروبية على هدم القوة الإسلامية آنذاك

المتمثلة في الخلافة العثمانية.

وإذا كان اليهود هم الذين نظّروا لليبرالية فإنهم هم مؤسسو الماركسية أيضاً.

ونتيجة لهيمنة اليهود على الحضارة الغربية منذ نشأتها فإن موجات العداء

للإسلام ودولته قد تزايدت؛ إذ استحدثوا لها مسمى جديداً هو (المسألة الشرقية) .

واستطاعوا هدم الخلافة من خلال الاختراق الداخلي لنظم الحكم والاقتصاد

والاجتماع، بالإضافة إلى اقتطاع أجزاء من أطراف الدولة وتشجيع النزعة

الانفصالية القومية في كثير من أقطار الدولة.

وقد لعبت روسيا منذ مطلع القرن العشرين دوراً بارزاً في هذه الجريمة.

ولكن الأخطر من هدم الدولة ذاتها نجاحهم منذ القرن (١٩) في تربية

(مجموعات معينة) ، وإيصالهم إلى مراكز القيادة في كل المجالات، وعلى جهود

هؤلاء ومن تخرج على أيديهم تم نشر العلمانية والماركسية في آن واحد من أجل

طمس الهوية الإسلامية.

وبعد أن نجح اليهود في الغرب والشرق نجحوا كذلك في حماية أقلياتهم بكل

الوسائل بما في ذلك القوة العسكرية التي استخدمت في مناسبات مختلفة للتمكين

لليهود في البلاد الإسلامية.

وبانتهاء العصر الإمبريالي تبنت الحكومات في بلادنا نهج الاشتراكية،

فسارع اليهود بتحويل أموالهم إلى أوروبا وأمريكا.

الباب الرابع: يتحدث عن تكوّن هذا النظام من خلال ثلاثة فصول:

الأول: يتحدث فيه عن بدايات (الفكر الجيوبوليتكي) ويعني به: إعادة ترتيب

الأوضاع الجغرافية باستخدام القوة المسلحة لتتلاءم مع الأهداف السياسية لدولة مّا،

ثم يفرق بين كل من المحتوى الفكري للإمبريالية الأوروبية، وبين نظرية القوة

البرية الروسية، ونظرية البحرية الأمريكية التي بدأت ملامحها تظهر منذ نهاية

القرن (١٩) ، ويكشف التضليل الذي يُمارَس من خلال ترجمة لفظ

(Imperialism) على أنها (استعمار) وهي أبعد ما تكون عنه.

ثم يتتبع الخط التاريخي لكل من النظريات الثلاث السابقة عبر التاريخ التي

أدت إلى صراع أوروبي ثم أمريكي روسي انتهى بانتصار استراتيجية المواجهة

الأمريكية بالتفرد بالسيطرة على العالم، وإذعان أوروبا المبكر، وسقوط الاتحاد

السوفييتي في أوائل هذا العقد.

وفي الفصل الثاني يحدد معالم النظام العالمي الجديد، الذي تقوم فلسفته على

(فكرة الخلاص) التي ظهرت مبكراً.

والمتابع لنشاط الأمم المتحدة والمنظمات المتخصصة التابعة لها، والإقليمية

السائرة في ركابها، يدرك أن استراتيجيتها تسير قدماً نحو المجتمع العالمي الواحد

الذي تهيمن عليه القيم (الصهيونية الصليبية) والتي كان من أخطر أدوارها زرع

إسرائيل في المنطقة الإسلامية وما نتج عن ذلك من أحداث.

وفي الفصل الثالث يستعرض ما قبل النظام العالمي الجديد، وفصول الصراع

الأيديولوجي لليبرالية والماركسية، رغم خروجهما من رحم واحدة، وكيف أنهما

نقلا الصراع بينهما فيما يعرف بالحرب الباردة إلى مسرحين: الأول: في (الشرق

الأوسط) أو ما يطلق عليه دول (العالم الثالث) . وبعد أن حُلت (المسألة الشرقية)

كان اللعب على هذا المسرح هو الأخطر في حسم كثير من الصراعات مبكراً على

عكس الظاهر لصالح الولايات المتحدة والصهيونية العالمية، عن طريق: النفَس

الطويل، والتفكير الاستراتيجي، وتوظيف العملاء، واللعب بورقة الديون،

والخداع العلمي والعسكري، وصناعة الفعل ورده؛ كل ذلك أسهم إسهاماً بالغاً في

إنهاء الجولات لصالح أمريكا إما حالاً وإما مآلاً.

أما المسرح الثاني فكان في أوروبا، وقد مارست القوتان حرباً بالوكالة

حسمت لصالح أمريكا أيضاً، حتى استطاع كيسنجر (اليهودي) أن يعلن في ١٩٧٢ م عن نهاية اللعبة وبداية الانفراج، ومن ثم التوجه نحو النظام العالمي الجديد كي

تنشر قيمه وتزدهر، وهو ما عبر عنه (كلينتون) في حفل تنصيبه قائلاً: (إن

أمريكا تؤمن أن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وإننا نستشعر أن علينا التزاماً

مقدساً لتحويل العالم إلى صورتنا) .

أما الباب الخامس والأخير فذكر فيه المؤلف أهم وأخطر آليات وأساليب إقامة هذا النظام، وقسمه إلى فصول أربعة:

تحدث في الأول منها عن مؤتمر سلام الشرق الأوسط الذي رُوّج له عقيب

قيام النظام وانتهاء حرب الخليج مباشرة؛ وكان يهدف إلى تأمين المصالح الأمريكية

والإسرائيلية في المنطقة، من خلال جر العرب إلى مفاوضات حاصلها سراب.

وفي الفصل الثاني يتحدث عن النظام الشرق أوسطي الجديد، الذي يُستهدف

من ورائه اقتطاع الجزء الأكبر من الأمة الإسلامية وإلحاقها بإسرائيل لتصبح

بالنسبة لها مجالاً حيوياً وسوقاً وقوة مضافة إليها؛ ولتمتلك إسرائيل من ذلك دوراً

أكثر فاعلية على نطاق الحركة الكوكبية؛ باعتبارها والولايات المتحدة جناحي

الصهيونية العالمية، والفكرة وصناعتها كلاهما صهيونيتان على حين تقف الأمة

أمام ما يقع منها موقف المتفرج.

واستعرض المؤلف التصور الإسرائيلي لهذا المشروع وأهم الخطوات التي

اتخذت بهذا الصدد، وذكر أن الخطر على القيم مطرد مع حجم التكامل الاقتصادي.

ثم تناول المشروعين: الأمريكي، ومنافسه الأوروبي (البحر المتوسطي)

وأهداف كل طرف ومدى استجابة المنطقة لهما.

وفي الفصل الثالث: تناول آلية لا تقل خطراً عن سابقتها وهي مركزية

السيطرة على الاقتصاد العالمي من خلال مجموعة من المنظمات الدولية، وعبر

سلسلة من الإجراءات والخطط الاستراتيجية التي من أبرزها:

إقامة تحالف بين الدول الصناعية الكبرى التي تتبع النظام الرأسمالي.

الهيمنة على الموارد العالمية وعلى النشاط البشري؛ بدعوى الحفاظ على

البيئة من التلوث.

إنشاء منظمة للتجارة العالمية؛ لإزالة العقبات أمام السيطرة المركزية على

الاقتصاد.

ضبط المواليد وإحياء نظرية (مالتس) للسكان بحجة الحفاظ على نتائج برامج

التنمية في الدول النامية من وطأة الزيادة السكانية.

أما الفصل الأخير: فتحدث عن الترويج لثقافة السلام كمظلة فكرية للهيمنة

الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وهي تقوم على نزع طاقة التدافع الفطرية

الموجودة لدى البشر، وإعادة توجيه هذه الطاقة إلى أمور أخرى غير القتال، بل

ونزع كل ما من شأنه استثارة الميول نحو التدافع. ولكي تنجح هذه الفكرة فلا بد

من المضي قدماً في السيطرة على التسليح في العالم، بل إلى ما هو أبعد من ذلك:

هدم فكرة الدولة باعتبارها شراً.

هدم نظام الأسرة باعتباره الكيان الباقي الحافظ للقيم.

إزالة الخصومات والثقافة العقدية.

مكافحة ما يُسمى بالإرهاب الذي يعني تصفية أي قوى تقف في طريق

مشروعهم.

وفي الختام..

فإن الكتاب قد حوى أفكاراً لا تقل أهمية عما ذكرت، وفيما ذكرته إشارة إلى

غيره، وهو يعتبر إضافة ثرة جمع فيها المؤلف رحمه الله المسائل الفقهية إلى

جانب السياسة الشرعية، وتفنيد حقائق الواقع والتاريخ مع إدراك عميق لما جرى

ويجري حولنا من أحداث في أسلوب سلس تستشعر فيه صفاء النظرة والحرص

على إظهار الحق واتباعه، ويمثل حصيلة وعيٍ غنية للصحوة الإسلامية بل

وللنخبة في بلادنا. ومما يزيد من أهمية الكتاب كون صاحبه رحمه الله خبيراً

استراتيجياً على درجة عالية من التخصص العلمي وسعة الاطلاع.

غير أن هذا لا يمنعني من أن استدرك أمراً ذا خطورة لعله مرّ على المؤلف

دون أن يقصده لذاته؛ حيث قدّم في ترتيبه لمقاصد الشريعة حفظ العقل على حفظ

الدين، وسوّغ ذلك بقوله: (فلا يكره أحدٌ على دينه حفظاً للعقل) . ويؤخذ على هذا

الكلام كونه ليس له أصلٌ في الشرع؛ لأن نفي الإكراه في الدين لا يعني تقديم حفظ

العقل على حفظ الدين، وإلا لما جاز قتال الكفار لمجرد كفرهم، وفي الحديث:

(أمرت أن أقاتل الناس ... ) ، كما أن الله نفى العقل عن الكافرين، والمقصود به

هنا إدراك الحقائق، فإذا كان العقل معطلاً عن إدراك الحقائق على ماهيتها فهو فاسد

مهدر، فكيف يقدّم على الدين الذي هو سبب فلاح الدنيا والآخرة، كما أنه ثبت من

الشرع تقديم حفظ ما هو أدنى من الدين (النفس) عند إشراف النفس على الهلاك

بجواز تغييب العقل بشرب الخمر حفظاً للنفس، وأنه كما هو متقرر أن لا تناقض

بين العقل الصحيح والدين الحق الذي هو الإسلام، والحق المطلق مقدمٌ عند العقلاء. كما أن الخلاف بين أهل السنة منحصر في أولوية التقديم بين الدين والنفس مع

الاتفاق على تأخر العقل عنهما، ولعل المؤلف تردد في هذا المعنى؛ إذ ذكر بعدها

كلاماً ينافي ما ذكره هنا.