للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البيان الأدبي

[دماء وأشلاء وصمت]

السيد علي إسماعيل

في يومٍ بكت شمسه، واغتمّت سماؤه، واختنق قمره، واختفى نهاره،

وتساقطت نجومه، واحترقت أشجاره، وذبلت أزهاره، وساد الصمت الأسود

أجواءه، إثر العناقيد الغاشمة التي نظمها العالم الجديد ليضعها تحت سيطرة من

يسودونه ليجزروا بها رقاب العرب المستسلمين ... وقف (صابر) وسط أنقاض بيته

والبيوت الأخرى التي دمرتها قذائف الطائرات الكاسرة، وولت إلى حضن أمها

الحاقد المجنون.. إلى الدولة التي صافحها المستسلمون لتعود بين أصابع الزعيم

(النتن) أو تحت إمرة بطل السعار المغوار (شارون) يوجهونها لنا متى شاؤوا.

وقف (صابر) هذا الشاخص الحزين والدموع تتحجر في عينيه.. مشدوهاً لا

يستطيع التفوه ... حوله القليل ممن بقي من الأهالي يصرخون ويستغيثون ... وهو

لا زال متحجراً في مكانه كعمود لم تستطع القذائف أن تثنيه ... يسرع رجال الإنقاذ

ومن أتى معهم من المارة ... ينتشلون الجثث المتماسكة والأخرى المتهالكة ...

وربما الأقدام، أو الرؤوس، أو حتى قطع اللحم المتناثرة ... يجمعون ذلك كله في

صناديق ... يحملونها ... يسرعون لعربات الإسعاف، وغيرها من عربات الشرطة

والجيش والعربات الخاصة ... يمرون من أمامه، ومن خلفه، معهم الصناديق،

يبصرها ... يتأملها ... لكنه أبداً لا يتحرك ... كان منتصباً متجهماً شاحباً كهيكل

مرت عليه عصور ... تمتلئ عيناه الداميتان دموعاً.. لكنه لا يبكي:

(كانوا هنا يلعبون ويمرحون ... تناديهم أمهم للغداء فلا يأتون ... وحين

يشاهدونني قد افترشت الساحة الخالية بين جدران بيتي الذي لم يكتمل، وأمامي

الطعام؛ يهرولون ... يتسابقون ... الولدان حولي، والصّبِية الصغيرة تمهد ثنية

قدمي لتصعد جالسة عليها) ... ثم يصرخ ويصرخ:

(أسرتي.. أين أسرتي؟ ! أبنائي ... عودوا ... لقد أتيت متأخراً اليوم،

لكنني أتيت، هذه هداياكم أحضرتها كما عودتكم ... أبنائي ... أبنائي) ، لا أحد

يجيب ... صرخات متعددة مدوية، تزلزل الأنقاض ... لكن لا أحد يجيب!

التهمتهم نيران الصهاينة، اختطفتهم القنابل المستعرة، لكي تأخذ الأطفال

والكبار، ومن تبقيه يكون عاجزاً ... حتى عن الكلام، و ... نلهث ... نلهث لنفوز

بالاستسلام ... هكذا سرت هذه الكلمات في وجدانه ... وهو لا زال يصرخ ...

ينادي أبناءه وزوجته، منهاراً ... مع أنقاض بيته ... إلى أن يصيح به أحدهم من

بعيد ... (يا (صابر [، يلتفت تجاه النداء، ويتماسك لينصت للذي كرر اسمه

مرات عديدة.

يصيح: (يقولون إن ابنك الأكبر ما زال حياً، وهو في المستشفى) . صيحة

الحياة اخترقت مسمعه، فتفتحت خلاياه، وانتعشت أعضاؤه ... لا يدري كيف

وصل إلى المستشفى؟ ... أو متى؟ غير أنه عادت إليه روحه، وصاحبها بقايا

جسده عندما رأى ابنه وحوله جمع من الأطباء والممرضات (يحيطون به) ، يحمد

الله.. ويجمع أنفاسه ليتساءل بصوت منخفض: (ألم تر إخوتك؟ ! ألم تر والدتك؟!) ويسود الغرفة صمت رهيب، ويعلو الوجوم وجوه الجميع، ويزداد الصمت،

يزداد ليقطعه صوت طفولي بريء، يخرج من بين الجراح الهامدة: (استشهدوا

يا أبي) . وتصيب الصاعقة الجميع فتجري أنهار من الدموع على وجوههم ... من

ثبات ذلك الطفل وذكائه. ويشق الأب صفوفهم ليصل إلى ابنه المسجّى بجراحه ...

فيعتنقه، ويلصق صدغه إلى صدغه. ويجلسونه على الكرسي بجواره ... :

(كيف يا بني كيف استشهد إخوتك ... وأمك) ؟ ! .

يهمس إليه الطبيب: (لا تثقل عليه؛ فنحن نعده لعملية أخرى) .

(لا أدري كيف يا أبي فإنه بعد دوي الانفجارات والقذائف التي جاءت من كل

الاتجاهات، والنيران التي اشتعلت في بيتنا والبيوت المجاورة؛ أغمضت عيني من

الخوف ووجدت نفسي في المستشفى بين القتلى والجرحى، ثم نقلوني إلى هنا،

وليس على لسان الجميع سوى (الاستشهاد) كلمة واحدة يرددونها عن القتلى حيثما

كانوا ... فماذا يقصدون بها يا أبي ... ) ؟ ! . والتفت إلى أبيه، فوجد وجهه قد

فاض بفيوض من ماء عينيه الداميتين:

(إنها منزلة في أعلى الجنة قد أعدها الله يا بني لمن يقتلون في سبيل الله ...

إن للشهيد منزلة عظيمة مع النبيين والصديقين وحسن أولئك رفيقاً) .

(إذن فما يبكيك يا أبي؟ إنهم هناك، ونحن سنظل ندافع عن ديننا وأرضنا

إلى أن نصل إليهم، لا تبك يا أبي، لا تبك، إنني أرى أمي وإخوتي هناك ...

هاهم أمام عيني يمرحون ويتسابقون كما كنا نفعل لكنهم في واحة خضراء فسيحة ...

أراهم سعداء ... إنهم ينادوننا ... ينادوننا يا أبي) ، ثم يمتص ريقه بصعوبة وهو

يتكلم، ويشعر الأب بعطشه، فيناوله كوباً من الماء لكنه لا يأخذه ...

(أتذكُرُ يا أبي (العصير) الذي كنت تحضره لي يومياً، إنني أشتاق إليه الآن) ، ويجزم له الأب أنه كان معه ضمن الهدايا التي أحضرها عندما عاد، لكنه لا

يعرف أين تركها حين فجعته الحادثة (لكن لا بأس سأشتري لك غيره، وأعود

سريعاً) ... قالها وهو ينهض مسرعاً ... يسابق الزمن ليحضر لابنه (العصير) الذي

طلبه، وحين اشتراه، اشترى معه أيضاً بعض الألعاب المفضلة التي كان يلعب بها، وأغراضاً أخرى، ثم تركها تتساقط ... تتساقط الواحدة تلو الأخرى على عتبة

الغرفة التي كان بها ابنه ... بعد أن رآهم يحيطون به مرة أخرى يتقدمهم الطبيب

الذي يخبره بأنه إن شاء الله قد انضم إلى قافلة الشهداء! !