للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

متابعات

لطفي الخولي

شاهد على محنة اليسار العربي

جمال سلطان

مآلات ثلاث انتهت إليها تيارات اليسار العربي في ربع القرن الأخير،

خاصة بعد الانتكاسات المتعددة التي واجهتها الماركسية بفصائلها المختلفة عبر انحاء

العالم كله، في أعقاب السقوط المدوي للاتحاد السوفييتي وما تبعه من تداعيات

السقوط لمنظومة الكتلة الشرقية كلها الواحدة تلو الأخرى، هذه الانكسارات المتتالية

جعلت اليسار العربي يمر بمرحلة انعدام الوزن، فالنموذج الكبير للشيوعية الدولية

(الاتحاد السوفييتي) سقط بشكل مزر وفاضح.

ورغم كل ما يقولونه الآن عن أن الاتحاد السوفييتي لم يكن النموذج الأمثل،

إلا أن الحقيقة أن الاتحاد السوفييتي كان الداعم الأكبر والأساس لليسار العربي، بل

إن الوثائق التي تم نشرها في الصحف الروسية من الأوراق السرية لجهاز

المخابرات السوفييتية الشهير (الكي جي بي) كانت تمثل فضيحة مدوية، حيث

نشرت بالأسماء والأرقام الأموال المشبوهة التي كانت تدفعها المخابرات السوفييتية

للأحزاب والتنظيمات الشيوعية في العديد من الدول العربية، وقد نشرت صحيفة

الأهرام المصرية طرفاً من هذه الفضيحة واكتفت بنشر الأحرف الأولى فقط من

الأسماء للتخفيف من وقع الفضيحة , حيث إن بعضاً من أبطالها هم الآن أعضاء

كبار في الأحزاب والمؤسسات الصحافية أو مجلس الشورى وغيره، هذه

الانتكاسات المتتالية ولدت حالة من الإحباط الشديد في أوساط اليسار العربي،

ضاعف من قسوتها صحائف الحساب الختامي لنصف قرن من النشاط الشيوعي في

العالم العربي، حيث عجز عن أن يحقق أي وجود فعال في المجتمع، بل إن الأمة

لفظته تماماً كما كانت تقرن الشيوعية بالإلحاد والإباحية والانحراف.

ورغم أن بعض اليساريين العرب حاولوا أن يزينوا وجه الشيوعية الكئيب

مؤخراً بالتقريب بينها وبين الإسلام وحضارته، وظهر التيار الذي ينسب نفسه إلي

الاستنارة، وبعضهم أراد أن يحمل صفة (المفكر الإسلامي المستنير) إلا أن

التجربة انتهت بالاخفاق أيضاً، لأن التكلف كان بادياً عليها، كما أن الوجوه هي

الوجوه، ثم إنهم في النهاية لم يستطيعوا صبراً علي احترام الإسلام ومقدساته؛

فسرعان ما عادوا إلي الطعن فيه وفي رموزه، حتى القرآن الكريم لم يسلم من

كيدهم، والصحابة والجيل الراشد.

هذه الانتكاسات كانت نتيجتها هي المآلات الثلاثة التي أشرنا إليها.

أما المآل الأول فقد كان الاتجاه إلي احتراف لعبة حقوق الإنسان، حيث

أصبحت هناك (دكاكين) عديدة تحمل هذه الصفة، وجميعها أسسها شيوعيون

سابقون، وفي مصر علي سبيل المثال أكثر من عشر منظمات أهلية تعمل في

مجال حقوق الإنسان، وهي جميعاً يهيمن عليها اليسار بتياراته المختلفة، وهذه

الوجهة الجديدة كان الدافع إليها أمورٌ عدة، أهمها أن هذه المنظمات تفتح علي الفور

جسوراً من الصلات مع بعض السفارات! والمؤسسات الغربية التي تزعم الاهتمام

بهذا الجانب، وتدفع بسخاء لهذه المنظمات، ومعظم أنشطة هذه المنظمات شكلية

وورقية، وفواتير تقدم علي الورق في مقابل مئات الآلاف من الدولارات التي

تتدفق في جيوب القائمين عليها حيث أصبحت مظاهر الثراء والترف لا تخطؤها

العين في العديد من (المناضلين) في هذه المنظمات، ولعل القارئ يذكر الضجة

التي أثيرت مؤخراً عن الشيك الذي كُشف النقاب عنه من السفارة البريطانية

بالقاهرة بما قيمته خمسة وعشرون ألف دولار للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان،

وكانت مأساة حقيقية أن يصبح (المناضلون ضد الإمبريالية) مجرد متسولين علي

أبواب المؤسسات التي كانوا يتهمونها سابقاً بأنها واجهات الإمبريالية الغربية،

والسبب الآخر لهذا الاتجاه أنه يحقق إعلامياً فى الدوائر الدولية دون أن يكون مقابله

أي حضور شعبي في المجتمع، وهذه هي عقدة الشيوعيين العرب.

أما المآل الثاني الذى آل إليه اليساريون العرب فهو امتهان حرفة هجاء

الإسلام والإسلاميين، إذ أصبح بعضهم لا يوجد له أي جهد علي الإطلاق إلا في

الطعن في الإسلام، وتجريح مقدساته والسخرية من شرائعه والاستهزاء برموزه

التاريخية من الأنبياء فالصحابة فنازلاً، هذا بالإضافة إلى محاولات تشويه الصحوة

الإسلامية الحالية ودعاتها وحركاتها وجهودها كافة. وكان الدافع لهذا المآل أنه

أصبح أشبه بقرابين التقرب من بعض الدوائر الأجنبية ذات النفوذ خاصة في مجال

الثقافة، وكان مثيراً للريبة أن توجه جامعات غربية كبري الدعوات المتتالية لهذه

الرموز للمحاضرة أمام طلابها أو ترجمة أعمالهم إلى اللغات العالمية، ويذكر القارئ

احتضان إحدى الجامعات الهولندية للباحث الماركسي المصري نصر حامد أبو زيد،

كما أن هذه الوجهة تمثل مدخلاً سهلاً للانتشار محلياً في أجواء الصراع السائد بين

بعض الأنظمة والحركات الإسلامية فيها.

أما المآل الثالث الذي انتهى إليه اليساريون العرب فهو السير في ركاب مسيرة تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، واصطناع جسور من العلاقات مع ما تسمي بقوى اليسار الإسرائيلي، أو قوى السلام، وكان الدافع لهذا الاتجاه الجديد هو البحث عن موقع مرموق لدي السلطات السياسية الجديدة التي تتجه بقوة في هذا السبيل وتراهن عليه، في الوقت الذي لا تجد فيه دعماً شعبياً يؤيدها، فتقدم اليساريون لانتهاز الفرصة للظهور عبر المؤسسات الرسمية القوية في الإعلام والثقافة وغيرها حيث كانت المكافأة التي قدمت لهم أن تبوأ معظمهم مواقع مرموقة في الصحافة والإعلام، فعلي سبيل المثال وُهِب لطفي الخولي صفحة أسبوعية كاملة في الأهرام هو الآمر الناهي فيها تحت اسم

(الحوار القومي) تحولت في الأوقات الأخيرة إلي منبر يكتب من خلاله بعض الكتاب الصهاينة موجهين خطابهم إلي الجماهير المصرية عبر أكبر صحيفة مصرية علي الإطلاق، أيضا منح الدكتور عبد العظيم رمضان مساحة كبيرة أسبوعية في صحيفة الأهرام يكتب فيها مقالاته كما تنشر هذه المقالات فى نفس اليوم فى مجلة (أكتوبر) المصرية، وهذا الأمر لا يحدث مع أي كاتب مصري آخر على الإطلاق، ومن قبل كان عبد الرحمن الشرقاوي وصلاح حافظ وفتحى غانم وغيرهم، وقد حكى الدكتور عبد العظيم رمضان أن فكرة تشكيل قوى مصرية شعبية للسلام تتحاور مع القوى الإسرائيلية هو الذي طرحها على الرئيس المصري حسني مبارك، الذي رحب بها (وشجع) علي تكوين مثل هذه الحركة، وعلي ضوء ذلك قام (لطفي الخولي) بتكوين مجموعة ما أطلق عليهم

(مجموعة كوبنهاجن) التي عقدت جلسات غامضة مع بعض الشخصيات الصهيونية وهو ما أثار ضجة كبيرة في مصر، وانتفضت قواعد المثقفين هجوماً عليها وفضحاً لها مما أدي إلي عزلتها التامة ومحدودية أثرها في الواقع المصري، ورغم هذه الخلفية إلا أن الحقيقة المؤكدة أن (لطفي الخولي) كان هو فارس هذا التوجه الكبير ومهندسه وقائده، ولطفي الخولي نموذج لمحنة الماركسية العربية في نشأتها وتحولاتها.

يعد لطفي الخولي أحد أهم قادة الحركة الشيوعية المصرية منذ الأربعينيات من

هذا القرن، ولد في ١٢ أغسطس من عام ١٩٢٩ بمحافظة القليوبية من دلتا مصر،

وحصل علي ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة في العام ١٩٤٩، عمل محامياً منذ

ذلك التاريخ وحتى العام ١٩٦٥، وقد انتظم منذ حداثة سنه في التنظيمات الشيوعية

السرية التي كان يوجهها بعض اليهود المقيمين في مصر أمثال اليهودي الخطير

(هنري كورييل) الذى كان قائداً لأكبر هذه التنظيمات، وكان هذا سبباً مباشراً في

دفاع الشيوعيين المصريين عن الكيان الإسرائيلي أيام قرار التقسيم في ١٩٤٨، بل

إنهم كانوا يهاجمون الجيوش العربية التي تحارب إسرائيل، وما زالت هذه المرحلة

تمثل عاراً لا يمحى في تاريخ الشيوعية العربية، وبعد توتر وبطش من قبل السلطة

الناصرية بالشيوعيين -حيث نال (لطفي الخولي) ما نالهم- بدأت مرحلة

الاستقطاب، حيث استقطبه الكاتب المعروف محمد حسنين هيكل إلي جريدة الأهرام

منذ العام ١٩٦١، حيث ظل يعمل فيها حتى العام ١٩٦٦ حيث أشرف خلالها علي

صفحات الرأي فيها، ثم أنشأ مجلة (الطليعة) اليسارية في العام ١٩٦٥ بمباركة

من عبد الناصر وتسهيل من (هيكل) ورأس تحريرها وظلت تصدر بانتظام حتى

العام ١٩٧٧، حيث وقعت انتفاضة ١٧، ١٨ يناير الشهيرة، فقرر السادات إغلاق

مجلة الطليعة بوصفها منبراً للحركة اليسارية التي حركت الأحداث الخطيرة في ذلك

الوقت، وقد اعتقل لطفي الخولي مرتين في عهد عبد الناصر، حيث كانت علاقة

عبد الناصر بالشيوعيين تتراوح ما بين الضرب والتحجيم والاحتواء، ولذلك كان

بعض رموز الشيوعية أحياناً يخرج من السجن إلى رئاسة تحرير صحف رسمية

كبري، مثلما حدث مع القطب الماركسي الكبير محمود أمين العالم، وكذلك مع

(لطفي الخولي) الذي وافق له عبد الناصر على مجلة الطليعة التى جعلها المنبر

الرئيس للماركسية في مصر، كما جعله هيكل مشرفاً على صفحات الرأي في

جريدة الأهرام في أوج مجدها طوال ما يقرب من ست سنوات، وفي السبعينات

شارك لطفي الخولي في تأسيس حزب التجمع اليساري برئاسة خالد محيي الدين أحد

الضباط اليساريين الذين شاركوا فى حركة ٢٣ يوليو ١٩٥٢.

والعجيب أنه بعد أن قام الرئيس السادات بمبادرة الصلح مع اليهود قام لطفي

الخولي بقيادة حملة صاخبة للاحتجاج علي ذلك، وكتب كتابات عنيفة في رفض

هذا الاتجاه، ثم شكل لجنة ضد التطبيع اسماها: (ائتلاف المصريين) ضمت بين

جناحيها عدداً من رموز التيارات السياسية المختلفة في مصر، وهو الأمر الذي

أغضب السادات عليه، وفي ذلك الوقت كان مسلسل انضمام اليساريين إلى موكب

التطبيع قد بدأ، وكان هناك عبد العظيم رمضان الذي قدم استقالته من حزب التجمع

في أعقاب ذلك، وكان الكاتب المسرحي علي سالم أحد مراحل هذا التطبيع، حيث

زار (إسرائيل) ثم عاد وألف كتاباً مشيناً يتغزل فيه بالإسرائيليين الذين أكرموه

بالدعوات لأكل الكباب والكفتة مجاناً (هذا كلامه في الكتاب) وعلي هذا النحو من

الإسفاف العجيب، ثم كانت المفاجأة الأخيرة مع (لطفي الخولي) صاحب ائتلاف

المصريين ضد التطبيع، أن يكون هو علي رأس التنظيم الجديد الذي يتجه بقوة

نحو التطبيع ويدافع عن موقفه الجديد بغرابة شديدة في وجه الطعون القاسية التي

وجهت له ولم يستطع حيالها دفاعاً، وقد عانى لطفي الخولي في أيامه الأخيرة عناءاً

شديداً من قسوة الهجوم عليه وأيضاً من انتكاسة دعوة التطبيع بفعل التوترات

الشديدة التي اعترت العلاقات مع الكيان الصهيوني مؤخراً خاصة مع الحكومة

المصرية، وعودة الأصوات المهاجمة (للعدو) الإسرائيلي مرة أخري، وخفوت

الأصوات التطبيعية وانزوائها.

وفي الواقع فإن موت لطفي الخولي هو موت حقيقي لمجموعة كوبنهاجن،

صحيح أنها لن تكون آخر محاولات التطبيع إلا أنها -بكل تأكيد- نهاية تجربة هذه

المجموعة، كما أنها تمثل درساً قاسياً لكل مغامر جديد في هذه الطريق، لأنها

تنتهى باحتراق أصحابها شعبياً، وعزلتهم عن المجرى العام للنفوس والعقول في

مجتمعاتهم، مما يجعلهم في وضع (المنبوذ) بكل أعبائه النفسية والعصبية.