للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات في الشريعة والعقيدة

[الابتداع بين العصيان والتبديل]

مجدي حمدي الأبار

أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) [١] .

هذا حديث عظيم وأصل من أصول الإسلام، وهو مع حديث: (إنما الأعمال

بالنيات) ، وحديث: (إن الحلال بيّن والحرام بيّن) ثلاثة أحاديث هي القواعد التي

بنى عليها الإمام أحمد رحمه الله أصول مذهبه [٢] .

وقد أخرج مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصدق الحديث كتاب الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) [٣] .

فحديث جابر وحديث عائشة رضي الله عنهما كل منهما يدل على الآخر،

ويفسر معانيه.

معنى البدعة:

قوله: (من أحدث) أي ابتدع؛ إذ الحديث ضد القديم، والأمر المُحْدَثُ هو

المبتدع، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (كل محدثة بدعة) وقوله صلى الله عليه

وسلم: (إياكم ومحدثات الأمور) [٤] أي ما ابتدعه أهل الأهواء من الأشياء التي لم

يكن عليها السلف الصالح.

و (الابتداع) لغةً: هو الاختراع على غير مثال سابق، قال الشاطبي:

(وأصل مادة بدع للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: [بَدِيعُ

السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] [الأنعام: ١٠١] أي فاطرهن على غير مثال سابق، وقوله

تعالى: [قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ] [الأحقاف: ٩] أي ما كنت أول من جاء

بالرسالة إلى العباد؛ إذ تقدمني كثير من الرسل. ويقال: ابتدع بدعة يعني: ابتدأ

طريقة لم يسبقه إليها سابق، وهذا أمر بديع، يقال للشيءِ المستحسن الذي لا مثال

له في الحسن؛ فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما يشبهه. اهـ) [٥] .

إذاً فالقدر المشترك بين مادتي (حدث) ، و (بدع) هو الشيء الذي لم يكن له

مثال سابق ثم كان، فإذا تعلق الإحداث بشيءٍ للنبي صلى الله عليه وسلم فيه حكم

أمر أو نهي فهو بدعة الشرع، وهذا وصف أخص من وصف اللغة. وبكل حال

فمادة بدع تستعمل للدلالة على عكس الأمر العتيق المعهود، ومن ذلك قول ابن

مسعود رضي الله عنه: (إياكم والتبدع والتنطع، وعليكم بالعتيق) [٦] .

فقه الحديث:

قوله: (من أحدث) (مَنْ) اسم شرط جازم، و (أحدث) فعل الشرط، ويدخل

فيه من ابتدأ البدعة ومن تبعه عليها، كما دل عليه لفظ مسلم: (من عمل عملاً)

وقوله: (في أمرنا) المراد به أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو سنته وشريعته، وهو قيد خرج بمفهومه الإحداث في غير أمره صلى الله عليه وسلم من أن يكون

مراداً بجواب الشرط الآتي، وقوله: (ما ليس منه) أي يخالفه سواءً كانت المخالفة

في أمر الاعتقاد أو العمل.

وقوله: (فهو رد) جواب الشرط، وهو مصدر بمعنى اسم المفعول أي هو

مردود، ولفظ (رد) أعم من المحدث؛ فقد يكون الرد للإحداث وهو الابتداع، وقد

يكون الرد لعموم المخالفة، بل قد يتوارد على الأمر الواحد الجهتان بحسب الصورة

التي وقعت عليها المخالفة.

وكلّ ما كان (رداً) فهو باطل وإن اصطلح الناس على إمضائه، مثل ما جاء

في قصة العسيف، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمّا الوليدة والغنم فرد

عليك) [٧] .

ومثلُ هذا العقدُ على تبادل المنافع المحرمة، وتنزيلها منزلة البيع؛ فقد قال

تعالى في إسقاط ما يحصل للمرابي من الزيادة بعقد الربا: [وَإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ

أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ] [البقرة: ٢٧٩] ، فلم يعتبر ما تراضى عليه

المتعاقدان، بل أسقط حرمة عقدهما؛ إذ تراضيا على ما حرم الله ورسوله صلى الله

عليه وسلم، وفي الصحيحين من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان

الكاهن) [٨] .

وهذا إن جرى على وجه طلب حطام الدنيا؛ فهي المعصية التي توعد الله

عليها بالعذاب، وإن جرى على وجه الرضا والإقرار؛ فهو النقض لطاعة الرسول

صلى الله عليه وسلم، وهو من باب قياس المشركين في قولهم: [إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ

الرِّبَا] [البقرة: ٢٧٥] ؛ إذ أقروا أنه ربا ثم نزّلوه على وجه القياس منزلة البيع

الحلال.

وقوله: (فهو رد) دليل على أن حكم الحاكم الذي وقع على خلاف أمر الله

وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، منقوض في حقيقة الأمر وإن سلم في ظاهره،

كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له

على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له

قطعة من النار) [٩] .

قال الحافظ: (فيه دلالة ظاهرة جداً على أن حكم الحاكم لا يحل ما حرمه الله

ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لنهيه عن أخذه، إذا كان يعلم أنه في نفس الأمر

لغريمه) اهـ.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (فهو رد) فيه دلالة ظاهرة على نقض الحيل

التي يتوصل بها إلى إسقاط قصد الشارع من شرع أحكامه، مثل استعمال الحيلة في

إسقاط الزكاة في المال بهبته قبل أن يدركه تمام الحول لمن يرده عليه مرة أخرى،

ومثل المحلل الذي يتزوج المرأة لا بقصد استدامة النكاح ولكن ليحلها للزوج الأول

الذي طلقها ثلاثاً من قبل.

ومثل الطلاق لغير العدة، كطلاق الرجل امرأته وهي حائض أو في طهر قد

جامعها فيه، يطيل عليها العدة، على خلاف قصد الشارع، وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا

النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ] [الطلاق: ١] . ونحو ذلك كثير.

وقد ناقش الشاطبي رحمه الله دخول هذا النوع من المخالفة تحت حد البدعة.

والأصل أن قصد الشارع لا يسقط بالحيلة، ومن أصول الباب قوله صلى الله

عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) .

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله يهوداً حُرّمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا

أثمانها) [١٠] .

وقوله: (حرمت عليهم الشحوم) أي شحوم الميتة [١١] ، أي أن يقتربوا منها

على جهة التموّل، كما في الحديث: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه) [١٢] ،

فاحتالوا على قصد الله عز وجل (فجمّلوه) أي أذابوه؛ ليغيروا هيئته، ويستحلوا

ثمنه؛ فلعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (فهو رد) فيه دليل ظاهر على أن الأصل في النهي الفساد.

وقد قرر العلائي رحمه الله أن (الرد) قد يأتي على معنى نفي الصحة، أو نفي

القبول، ثم عقّب قائلاً: (إن الحمل على نفي الصحة أوْلى) ؛ وقال رحمه الله:

(سلّمنا أن نفي القبول لا يلزم منه نفي الصحة، ولكن لا نسلّم تعيّنَ الحمل عليه في

قوله: فهو رد، بل حمله على نفي الصحة أوْلى لوجهين:

أحدهما: أنه حقيقة اللفظ، أو هو أقرب للحقيقة.

وثانيهما: أنه أكثر فائدة؛ لأن الحمل على نفي الصحة يلزم منه نفي القبول

دون العكس، والحمل على الأكثر فائدة أولى أو هو المتعين) [١٣] اهـ.

وهذا التقرير منه رحمه الله معناه أن نفي الصحة (البطلان) هو الأصل في

النهي، وما عداه على خلافه؛ وما كان كذلك فالنية على النافي للأصل. وللفقهاء

تفصيل في العلاقة بين النهي والفساد مرده إلى ورود النهي على محرم الأصل أو

غير محرم الأصل [١٤] .

وجوب إنكار المنكر:

قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا) (مَنْ) من ألفاظ العموم؛

ففيه دليل على أن الإحداث في الدين ينكر على كل أحد: الأمراء، والعلماء،

والعامة، ومن ذلك ما أخرج مسلم من حديث طارق بن شهاب قال: أول من بدأ

بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة.

فقال -أي مروان-: لقد تُرك ما هنالك، فقال أبو سعيد الخدري: أما هذا فقد

قضى ما عليه؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم

منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف

الإيمان) [١٥] .

وفي الصحيحين إنكار أبي سعيد رضي الله عنه على مروان [١٦] .

والمخاطرة بالنفس في هذا المقام مستحبة كما ذكر النووي رحمه الله [١٧] فهذا وجه

من وجوه الفقه في هذا الخبر الجليل.

ذم الإحداث في الدين:

وجه آخر من الفقه في الحديث يتعلق بذم الإحداث في دين الله عز وجل؛ إذ

وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه (رد) ، ووصفه في حديث جابر بأنه (بدعة)

فقال: (كل محدثة بدعة) ، ووصفه بأنه (ضلالة) فقال: (كل بدعة ضلالة) .

وأكد النبي صلى الله عليه وسلم: ذم الإحداث بالنهي عنه، والذي لا يتحقق

امتثال المكلف فيه إلا بالكف عن جميع أفراد المنهي عنه، فقال صلى الله عليه

وسلم: (إياكم ومحدثات الأمور) وهي صيغة تحذير، ورتب الوعيد فقال صلى الله

عليه وسلم: (كل ضلالة في النار) ، ثم أكد هذا النهي بعمومات الألفاظ: (من) ،

و (ما) و (كل) .

وكفى بهذا ذماً للبدعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه

العمومات مؤكدة كذلك بالكتاب والسنة وقواعد الشريعة.

قال تعالى: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي] [المائدة: ٣] .

ونقل الشاطبي عن مالك استدلاله بهذه الآية فقال: (قال ابن حبيب: أخبرني

ابن الماجشون أنه سمع مالكاً يقول: التثويب ضلال، قال مالك: ومن أحدث في

هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

خان الدين؛ لأن الله تعالى قال: [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] فما لم يكن يومئذٍ ديناً،

لا يكون اليوم ديناً) .

قال الشاطبي: (وإنما التثويب الذي كرهه أن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس، قال بين الأذان والإقامة: قد قامت الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح،

وهو قول إسحاق بن راهويه: إنه التثويب المحدث) [١٨] .

وأخرج مسلم من حديث سلمان رضي الله عنه قال: قيل له: قد علمكم نبيكم

صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة، قال: فقال: (أجل! لقد نهانا أن

نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة

أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم) [١٩] .

فهذه الإحاطة في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته تقضي ببطلان الإحداث

في الدين، سواء بالزيادة أو النقصان.

وجه بطلان الإحداث:

أمّا باعتبار شهادة الأصول لبطلان الإحداث في الدين؛ فالابتداع فيه مضاهاة

لفعل الشارع، واستدراك على الشريعة، وهذه كذلك أوصاف المبتدع. قال

الشاطبي: (الرابع أن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع؛ لأن الشارع

وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سننها، وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حكم

بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون، وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم

تنزل الشرائع، ولا احتىج إلى بعث الرسل عليهم السلام، وهذا الذي ابتدع في

دين الله قد صير نفسه نظيراً ومضاهياً للشارع؛ حيث شرّع مع الشارع، وفتح

للاختلاف باباً، وردّ قصد الشارع في الانفراد بالتشريع وكفى بذلك ... ) [٢٠] .

وقوله: (ردّ قصد الشارع في الانفراد بالتشريع) هو جوهر قضية البدعة

ومدْرَك الفرق بين البدعة ومطلق المعصية؛ فإن في البدعة محظورين:

الأول: رد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع.

الثاني: تفويت المصالح الشرعية، دنيوية كانت أو أخروية، والتي قصدها

الشارع من وضعه التكاليف السنية، وذلك بعمل المبتدع على إسقاط قصد الشارع،

فيسن التشريعات الرديّة.

فأما المحظور الأول فتجده عامّاً في كل البدع صغارها وكبارها، وهذا هو

المعنى الذي استحقت به البدعة وصف الحرمة مهما كان صغرها.

أمّا باعتبار المحظور الثاني؛ فالبدعة متفاوتة المراتب، وذلك بقدر ما يلحق

الشريعة من خرق؛ فقد تكون مكفرة كالقول بخلق القرآن، ونفي رؤية الله عز وجل

في الآخرة، وبدعة منكري العلم من القدرية، ثم إذا قامت الحجة على من قال

بشيءٍ من هذا أو نحوه في الكُفْر كَفَر، ولا كرامة.

وقد تكون البدعة غير مكفرة كبدع الصلوات، والأذان، وإحداث هيئات للذكر، مثل ما أحدثه أهل التصوف من الرقص في الحلقات وغير ذلك. وعلى هذا

فالبدعة فيها محظوران:

الأول: العدوان على الآمر، وذلك برد قصده في الانفراد بالتشريع.

الثاني: العدوان على الأمر والنهي بتفويت المصالح المتعلقة بنفس التشريع.

الفرق بين البدعة والمعصية:

الفرق ظاهر بين البدعة وبين مطلق المعصية. قال الشاطبي: (وأما البدع

فثبت لها أمران:

أحدهما: أنها مضادة للشارع ومراغمة له؛ حيث نصب المبتدع نفسه نصب

المستدرك على الشريعة لا نصب المكتفي بما حُدّ له.

الثاني: أن كل بدعة وإن قلّت تشريع زائد أو ناقص، أو تغيير للأصل

الصحيح، وكل ذلك قد يكون على الانفراد، وقد يكون ملحقاً بما هو مشروع أو

قادحاً في المشروع، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامداً لكفر؛ إذ الزيادة

والنقصان فيها أو التغيير قلّ أو كثر كفر، فلا فرق بين ما قل منه وما كثر؛ فمن

فعل مثل ذلك بتأويل فاسد أو برأي غالط رآه أو ألحقه بالمشروع إذا لم تكفره لم يكن

في حكمه فرق بين ما قل منه وما كثر؛ لأن الجميع جناية لا تحملها الشريعة بقليل

ولا بكثير، ويعضد هذا النظر عموم الأدلة في ذم البدع من غير استثناء في الفرق

بين بدعة جزئية وبدعة كلية) .

وحتى تقف على قدر هذا الذم للبدعة والمبتدع تأمّل ما قاله الإمام أحمد رحمه

الله فقد أخرج الخلال قال: قيل لأبي عبد الله: الرجل يفرح بما ينزل بأصحاب ابن

أبي دؤاد. عليه في ذلك إثم؟

قال: ومن لا يفرح بهذا؟ قيل له: فإن ابن المبارك يقول: الذي ينتقم من

الحجاج هو ينتقم للحجاج من الناس؟

قال: وأي شيء يشبه هذا من الحجاج؟ هؤلاء أرادوا تبديل الدين [٢١] .

فتأمل كيف فرق الإمام أحمد بين ابن أبي دؤاد المبتدع، وبين الحجاج الظلوم

الغشوم قاتل الألوف من المسلمين، فجعل جرم ابن أبي دؤاد أشد.

وأخرج الخطيب بسنده إلى الرجل الصالح يونس بن عبيد رحمه الله (أنه

وقف ومعه ابنه على عمرو بن عبيد [القدري المبتدع] فأقبل على ابنه فقال: يا بني

أنهاك عن السرقة وأنهاك عن الزنا، وأنهاك عن شرب الخمر، والله لأن تلقى الله

بهن خير لك من أن تلقاه برأي هذا وأصحابه، يشير إلى عمرو بن عبيد) [٢٢] .

وقول الإمام أحمد: (هؤلاء أرادوا تبديل الدين) هو المعنى الذي بلغت به

البدعة من الذم ما بلغت؛ فالمبتدع مبدل، والمبدل إن تعمد التبديل يكون كافراً،

يستوي في هذا القليل والكثير كما تقدم من قول الشاطبي رحمه الله، وإنما المانع

من تكفيره هو التأويل.

فالمقصود أن التبديل هو الوصف العام للبدعة؛ إذ ليس للإمام أن يقتل كل من

امتنع عن الزكاة إذا أمكن أن تؤخذ قهراً، وكان مقراً بوجوبها.

ثم يعتبر كل باب بحسبه؛ فالبدع المتعلقة بأبواب المعرفة بالله عز وجل أو رد

معلوم من الدين بالضرورة بخلاف تلك المتعلقة بفروع الشريعة، ثم هذه قد تتفاوت

بقدر ما يحصل في الشريعة من خرق، وهذا مدرك تقسيم الشاطبي البدع إلى: كلية

وجزئية، وصغائر وكبائر، وإن أثبت لها جميعها وصف الحرمة اعتباراً بعموم

قوله صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة) ، وأنّ جميع البدع يتحقق فيها وصف

التبديل للدين [٢٣] .

الجانب التشريعي في البدعة:

ومن وجوه الفقه في هذا الخبر ضبط معنى قوله: (من أمرنا) على وجه لا

يدخل فيه ما ليس منه، ولا يخرج منه ما هو داخل فيه، فنقول: على معنى

المضاهاة لفعل الشارع بنى الشاطبي رحمه الله تعريفه لمعنى البدعة فقال رحمه الله: (البدعة طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة

في التعبد لله سبحانه) [٢٤] .

وقوله رحمه الله (تضاهي الشرعية) يعني: (تشبه الطريقة الشرعية من غير

أن تكون كذلك؛ بل هي مضادة لها من وجوه) .

قلت: ومما يجدر التنبيه عليه أن للشاطبي رحمه الله تعريفاً آخر كثيراً ما

يُغفل عن إيراده، وهو مثل التعريف الأول، لكن قال فيه: (يقصد بالسلوك عليه ما

يقصد بالطريقة الشرعية) [٢٥] .

وهذا أضبط وأجمع من الأول في نظري.

إذن فحقيقة البدعة ترجع إلى إسقاط قصد الشارع من وضع الدّين، وذلك

بوضع تشريع آخر يضاهيه، ولو لم يقصد به المبالغة في التعبد، وهذا معنى قول

الشاطبي: (أو وُضِعَ وَضْعَ التعبد) وإلا فما وجه قولهم: (طلاق بدعي) ؟ ولا يقصد

بالطلاق المبالغة في التعبد، لكن من حيث خالف المكلف بفعله موضع الأمر والنهي

في ذلك الأمر الذي لا يتعبد به الطلاق فأطال العدة على خلاف قصد الشارع فسُمي

فعله بدعة، ولأجل ذلك ناقش الشاطبي أن الاحتىال على قصد الشارع من الأمر

والنهي بدعة، كما في المحلّل، والحيلة لإسقاط الزكوات، وكما في بيع العينة

لإسقاط وصف الربا عن المعاملة؛ إذ المكلف قد وضع الحيلة لإسقاط ما للشارع

قصد في تحريمه، وهذه محاكاة للشارع في التحليل والتحريم، أي في وضعه

للتشريع.

قال الشاطبي: (فهذه النكتة التي يدور عليها حكم الباب، ويتبين ذلك بالأمثلة: فمما أتى به القرافي: وضع المكوس في معاملات الناس؛ فلا يخلو هذا الوضع

المحرم من أن يكون على قصد حجر التصرفات وقتاً مّا أو في حالةٍ مّا لنيل حطام

الدنيا على هيئة غصب الغاصب وسرقة السارق، وقطع القاطع للطريق، وما أشبه

ذلك، أو يكون على قصد وضعه على الناس كالديْن الموضوع، والأمر المحتوم

عليهم دائماً، أو في أوقات محددة على كيفيات مضروبة بحيث تضاهي المشروع

الدائم الذي يُحمل عليه العامة، ويؤخذون به، وتُوقع على الممتنع منهم العقوبة كما

في أخذ زكاة المواشي والحرف وما أشبه ذلك. فأمّا الثاني فظاهر أنه بدعة؛ إذ هو

تشريع زائد، وإلزام للمكلفين يضاهي إلزامهم الزكاة المفروضة، والديات

المضروبة، والغرامات المحكوم بها في أموال الغصاب والمتعبدين، بل صار في

حقهم كالعبادات المفروضة واللوازم المحتومة وما أشبه ذلك؛ فمن هذه الجهة يصير

بدعة بلا شك؛ لأنه شرع مُستدرَك، وسنٌ في التكليف مهيع [٢٦] ، فتصير

المكوس على هذا الفرق لها نَظَران:

نظر من جهة كونها محرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم، ونظر

من جهة كونها اختراعاً لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت كما يؤخذون بسائر

التكاليف، فاجتمع فيه نهيان: نهي عن المعصية، ونهي عن البدعة) .

ومن هذا يتضح أن كل تشريع يوضع بالمخالفة لقصد الشارع من وضع

التكاليف الشرعية هو بدعة، وإن لم يقصد به التعبد، أو لم يصفه المبتدع بحل أو

حرمة، وهذا يبين معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا)

ويتحقق به معنى قوله: (أمرنا) وصفة الإحداث فيه، بأنه الإحداث في كل موضع

لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه حكم، سواءً كان من العبادات المحضة، أو من

العاديات التي لم تخل من التعبد، ويستوي في هذا حكمه صلى الله عليه وسلم أمراً

كان أو نهياً؛ فقد اجتمع فيه مع المعصية وصف البدعة لمّا وضعه المبتدع على

صفة المضاهاة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم من محاكاة الهيئات، والكيفيات

ووضع التقديرات الشرعية.

فهذا كله بدعة، وإن لم يوصف فعل المبتدع بالتعبد، وإن لم يوصف بحل أو

حرمة؛ إذ يكفي أنه قد وضعه موضع التعبد؛ لمّا حاكى فعل النبي صلى الله عليه

وسلم وضاهاه، وردّ قصده في الانفراد بالتشريع.

التشريع الوضعي والابتداع:

إذن، فهذا كله داخل في معنى الإحداث في أمره، والذي هو سنته وشريعته.

وعليه فيصح دخول القوانين الوضعية في مسمى البدعة؛ إذ هي موضوعة على

خلاف قصد الشارع من سنه التشريعات السنية العالية القدر الرفيعة، وهي كذلك

موضوعة على صفة المضاهاة للشريعة؛ باعتبار تحديد الأوقات، وضرب

الكيفيات، وتوجيه العقوبات. وعلى هذا فهي بدعة وتبديل للدين.

وكلام الشاطبي رحمه الله فيه نقض لما قرره بعض الناس؛ إذ قرروا:

أن الحكم بغير ما أنزل الله على وجه التشريع لا يوصف بأنه بدعة إلا إذا

وصف بالحل أو الحرمة، ثم فرع على ذلك:

أن الشرع المبدل هو الشرع الموصوف بالحل أو الحرمة فقط، وجعل ذلك

قيداً فيه ولم يجعله تقسيماً.

وقرر كذلك أنه لا فرق بين الحكم بغير ما أنزل الله على وجه المخالفة

والمعصية، وبين ما إذا قارنه تشريع مضاد، فجعل التشريع وصفاً غير مؤثر في

هذه القضية.

وهذه ثلاث عجائب فيها حصر غير مُسلّم به، وإسقاط لوصف دل على

اعتباره الكتاب والسنة وأقوال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

ووجه الخلل الذي طرأ على هؤلاء اقتصارهم على ظاهر التعريف الأول

للبدعة دون تحقيق لمعانيه التي تتعلق بصفة الإحداث في أمره صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: [فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ

أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [النور: ٦٣] ، قال: (أي عن أمر

رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته؛

فتُوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله؛ فما وافق ذلك قُبل، وما خالفه فهو مردود

على قائله كائناً من كان؛ لما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله

عليه وسلم أنه قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: فليحذر وليخش

من خالف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم باطناً أو ظاهراً أن تصيبهم فتنة،

أي: في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة) [٢٧] .


(١) البخاري (٢٦٩٧) ، ومسلم (١٧١٨) .
(٢) انظر فتح الباري (١/١٦) ، و (١٢/٣٥٧) وانظر شرح النووي لمسلم (١٢/٢٤) .
(٣) مسلم (٨٦٧) ، والنسائي (١٥٧٨) وابن خزيمة (١٧٨٥) .
(٤) طرف من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وسيأتي سياقه وتخريجه.
(٥) الاعتصام (١/٤٩) ، وانظر لسان العرب (مادة بدع ٨/٦ ٧) .
(٦) انظر الدارمي (المقدمة ١/٥٤) .
(٧) أخرج البخاري (٢٦٩٥) ، ومسلم (١٦٩٧) من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله فقام خصمه فقال: صدق، اقض بيننا بكتاب الله، فقال الأعرابي: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، فقالوا لي: على ابنك الرجم، ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم فقالوا: إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأقضين بينكما بكتاب الله: أمّا الوليدة والغنم فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وأما أنت يا أنيس لرجل فاغد على امرأة هذا فارجمها فغدا عليها أنيس فرجمها) والعسيف الأجير، وجمعه عُسَفَاء (انظر لسان العرب ٩/٢٤٦) .
(٨) البخاري (٢٢٣٧) ، ومسلم (١٥٦٧) ، مهر البغي: أي ما تأخذه الزانية مقابل زناها، وسماه مهراً لكونه على صورته؛ إذ أخذته مقابل التمكين من نفسها وحلوان الكاهن: ما يأخذه على كهانته، وشبه بالشيء الحلو؛ لأنه يأخذه سهلاً بلا كلفة أو مشقة.
(٩) أخرجه البخاري (٩٩٦٧) ، ومسلم (١٧١٣) .
(١٠) البخاري (٢٢٢٤) ، ومسلم (١٥٨٣) .
(١١) كما في حديث جابر رضي الله عنه أخرجه البخاري (٢٢٣٦) ، ومسلم (١٥٨١) وفيه: (قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم عليهم شحومها [اي الميتة] جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه) .
(١٢) أخرجه أحمد (١/٢٤٧، ٢٩٣، ٣٢٢) وأبو داود (٣٤٨٨) من حديث خالد الحذاء عن بركة عن ابن عباس مرفوعاً: (لعن الله اليهود حرم عليهم الشحوم فباعوها فأكلوا ثمنها، وإن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه) وبركة هو ابن عريان أبو الوليد المجاشعي ثقة، وصدر الحديث متفق عليه من حديث ابن عباس أخرجه البخاري (٢٢٢٣) ، ومسلم (١٥٨٢) .
(١٣) تحقيق المراد، ص ٣٢٢، والمقصود بنفي الصحة البطلان، ويلزم منه إعادة العبادة كحل المبيع للمشتري ووجوب الثمن للبائع، والمقصود بنفي القبول ههنا ثبوت الحرمة دون البطلان.
(١٤) انظر الرسالة للشافعي، ص ٩٣٠: ٩٥١.
(١٥) مسلم، ح (٤٩) .
(١٦) انظر البخاري (٩٥٦) ، ومسلم (٨٨٩) .
(١٧) انظر شرح النووي لمسلم (٢/٢٩) ، وانظر هنالك كلاماً حسناً للماوردي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٢/٣١ ٣٤) .
(١٨) الاعتصام (٢/٥٣٤ ٥٣٥) .
(١٩) مسلم، (٢٦٢) .
(٢٠) الاعتصام (١/٦٦) .
(٢١) السنة للخلال/ ف ١٧٦٩٠، وابن أبي دؤاد هو أحمد وهو مسعر حرب المعتزلة، وحامل لواء بدعتهم، دعا المأمون إلى امتحان العلماء في خلق القرآن، فأحدث فتنة عارمة، كسره أهل السنة في المناظرات، فغلبه أحمد بن حنبل، وأبو عبد الرحمن الأذرمي، فاحتمى بسيف السلطان وسوطه، حرض على نعيم بن حماد فحبس مقيداً حتى مات في محبسه، فأُلقي في حفرة، وكان قد أوصى أن يدفن في قيوده وقال إني مخاصم يوم القيامة، وحرض المعتصم على ضرب الإمام أحمد، وحرض الواثق على قتل الإمام الشهيد أحمد بن نصر الخزاعي، ومخازيه كثيرة؛ عليه من الله ما يستحق، وكان الإمام أحمد يدعو عليه فيقول: (حشا الله قبره ناراً) وأصحاب التاريخ يذكرون له أدباً وفضلاً وجوداً، قلت: فضائل أهل البدع حبائل الشيطان، وبكل حال ففضائلهم مشروطة بألا تنكأ لهم بدعة فإن فعلت فلا دين لهم ولا خلق ولا خير، وإن أحدهم لينصر بدعته بالفعل المشين الذي يتعفف عنه عتاة المجرمين وسفلتهم، فاللهم إسلاماً في سنة.
(٢٢) تاريخ بغداد (١٢/١٧١) .
(٢٣) انظر الاعتصام (٢/٥٣٥ ٥٥٩) .
(٢٤) انظر الاعتصام (١/٥٠) .
(٢٥) انظر في العلاقة بين الأحكام والمصالح: الفتاوى (٨/٤٣٤ ٤٣٦) .
(٢٦) مهيع أي: واضح بين، لسان العرب (٨/٣٧٩) .
(٢٧) انظر تفسير ابن كثير (٣/٣٠٧) .