للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات تربوية

المفاهيم التربوية في القيادة

عند ابن حزم الأندلسي

جمال الحوشبي

يُصنّف الإمام أبو محمد: علي بن أحمد بن حزم الأندلسي (٣٨٤ ٤٥٦هـ)

ضمن رواد المدرسة الظاهرية، بل هو المتحدث الرسمي بلسانها. وبعيداً عن

الخوض في المذهب الظاهري سلباً وإيجاباً، فإن أبا محمد رحمه الله يعد من أبرز

أعلام التربية الإسلامية.. وله في هذا الشأن الكثير من روائع الاستدلالات

والاستنباطات التربوية التي تشكل بمجموعها ثروة تربوية هائلة تستحق أن تفرد في

رسائل تربوية مقننة على أيدي الأكفاء من علماء التربية الإسلامية في هذا العصر،

ولقد استعنت عن عمد بآراء هذا الإمام التربوية وملامحه القيادية، غير متجاهل

بعض آرائه التي نازع فيها أهل العلم وشذ عن أقوالهم في تقريرها؛ ذلك أن هذه

الملامح التربوية بعيداً عن الخوض في تلك المسائل المتنازع فيها تعد ثروة تربوية

وكنزاً ثميناً تفخر به تربيتنا الإسلامية ضمن ذخائرها الكثيرة.

وما أحسن كلام الذهبي رحمه الله الذي لا يقل ميزانه في نقد الرجال عن

نفيس نقده وسبكه حين عرض لتلك الآراء الاجتهادية التي انفرد فيها ابن حزم رحمه

الله فأنصفه وبالغ في تعظيمه بقوله: (ولي أنا ميل إلى أبي محمد لمحبته في

الحديث الصحيح، ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال

والعلل، والمسائل البشعة في الأصول والفروع، وأقطع بخطئه في غير ما مسألة،

ولكن لا أكفّره ولا أضلّله، وأرجو له وللمسلمين العفو والمسامحة، وأخضع لفرط

ذكائه وسعة علومه) [١] .

وهي عبارة دقيقة، وإنصاف عادل، وأصل نفيس نفتقده اليوم في خضم

الأهواء والأفكار البشعة في النقد والحكم على الآخرين، وبها تستقيم التربية ويعرف

الحق من الباطل.

لقد تميز الفكر التربوي لدى الإمام ابن حزم رحمه الله بالأصالة والابتكار،

واتسم إلى حد كبير بالاستقلالية ورفض التقليد أو المحاكاة، فجاءت آراؤه التربوية

ذات أسس وقواعد، لها تجاربها وعبرها الذاتية، كما أن لها رحلاتها وشواهدها

القاسية التي خاضها بنفسه، وربما سطّر بعضها في أخريات حياته!

ومما تتميز به لمحات ابن حزم التربوية وتوجيهاته القيادية النظرة الشمولية

لطبيعة الحلول (العملية) المقترحة التي يقدمها للقادة والمربين، ولا يدرك قيمة هذه

المهارة التربوية التي تُعنى بالجانب التكاملي في العلاج إلا من كان له سابق اطلاع

على (النظريات) التربوية الغربية في علاج المسائل التربوية ذاتها التي تطرق لها

ابن حزم أو غيره من علماء التربية الإسلامية قديماً. وأكتفي بضرب مثال واحد

للتوضيح.

لعل أبرز العقبات التي تواجه المربين والمصلحين ما يلاقونه من كلام الناس

وتجهمهم وانتقاداتهم الجائرة جراء الجهالة المطبقة لدى الكثيرين منهم. والقضية هنا

قضية نسبية تختلف باختلاف مفهوم التربية والإصلاح، بل باختلاف العقائد

والأديان قبل كل شيء، غير أن الأمر المشترك فيها هو كونها عقبة تتكرر دائماً

ويشتكي منها (المربون) [٢] إن جاز أن نطلق هذا اللفظ على كل من سلك الطريق

(الإصلاحي) في المجتمع الذي يعيش فيه.

فإذا تصدّى المربي المسلم لسبر هذه العقبة بعينها، وتكلّف البحث الجاد في

كتب التربية لإيجاد العلاج لها فإنه يجد الفرق الواضح ماثلاً أمامه بين المفاهيم

التربوية الإسلامية للعلاج وتلك المفاهيم الغربية. فإذا أخذنا على سبيل المثال كلام

ابن حزم رحمه الله في تقرير العلاج فإنك تجده ينطلق في تسليته للمربي والمصلح

والقائد (المسلم) من قواعد وتأصيلات (إسلامية) ثابتة مبنية على نصوص كلية من

الكتاب والسنة تباين كلياً تلك القواعد والتأصيلات الغربية التي حُرّرت لعلاج هذه

القضية ذاتها. ثم إنك تجد (الصدق) و (النصح) يناغمانك في طيات حديث الإمام

ابن حزم رحمه الله، وتطوّف بك حرارة نصائحه في محيط الحدث ذاته سبراً

وغوراً وحدوداً حتى تخرج منه وقد أرويت الغليل بوصايا هذا الإمام، بخلاف ما

تجده في كثير من توجيهات ونصائح علماء التربية في الغرب ممن يراوحون حول

كلام جاف (مقنن) محلىً بألفاظ آسرة، مفرّغ من الروح، بعيد عن الحدث في كثير

من الأحيان مفتقر لتلك الحرارة الإيمانية الصادقة.

وفيما يلي عرض لجملة من هذه المفاهيم القيادية التي يستخلصها القارئ لواحد

من كتب ابن حزم رحمه الله وهو كتاب (مداواة النفوس) الذي يعد من أواخر كتبه

رحمه الله واستودع فيه خلاصة تجاربه ورحلاته وأظهر فيه لمحات تربوية فذة لا

غنى عنها.

النبوغ والتفوق:

ينطلق ابن حزم رحمه الله في تعريف النبوغ والتفوق من منظورين. أولهما:

تجلية مفردات الإبداع ومهاراته ومتطلباته (المادية) .. والثاني: الأخذ بمعايير

الفضيلة والأخلاق اللازمة لتكوين المبدع وصياغة فكره واتجاهاته، ويرى أن تمثّل

(القدوة) لمبدع في فن بذاته، أو إطلاق صفة (النبوغ) في القيادة وغيرها لا بد أن

تكون وفق الموازنة بين هذين المنظورين معاً؛ بل إنه يرى رحمه الله أن كفة

الأخلاق والفضيلة لا بد أن تنال قسطاً أكبر من اهتمام المبدع ومن تفكيره. ولذا؛

فإن معيار الحكم بالنجاح أو الإخفاق لمبدع أو آخر يعود بدرجة كبيرة إلى نسبة

المحتوى الأخلاقي والتربوي في سيرته الذاتية.. فالنبوغ والإبداع من منظور ابن

حزم التربوي لا يعود بالدرجة الأولى إلى تلك المهارات المكتسبة التي ربما شاركه

فيها غيره من البشر، أو في تلك القدرات التي ربما شاركه فيها الحيوانات

والعجماوات. ولذا يقول رحمه الله: (فالعاقل لا يغتبط بصفة يفوقه فيها سبع أو

بهيمة أو جماد، وإنما يغتبط بتقدمه في الفضيلة التي أبانه الله بها عن السباع

والبهائم والجمادات.. وهي التمييز الذي يشارك فيه الملائكة. فمن سُرّ بشجاعته

التي يضعها في غير موضعها لله عز وجل فليعلم أن النمر أجرأ منه، وأن الأسد

والذئب أشجع منه، ومن سُرّ بقوة جسمه فليعلم أن البغل والثور والفيل أقوى منه

جسماً، ومن سُرّ بحمله الأثقال فيلعلم أن الحمار أحمل منه، ومن سُرّ بسرعة عدوه

فليعلم أن الكلب والأرنب أسرع عدواً منه، ومن سُرّ بحسن صوته فليعلم أن كثيراً

من الطير أحسن صوتاً منه، وأن أصوات المزامير ألذ وأطرب من صوته [٣] ،

فأي فخر وأي سرور فيما تكون فيه البهائم متقدمة عليه؟ لكن من قوي تمييزه،

واتسع علمه، وحسن عمله فليغتبط بذلك؛ فإنه لا يتقدمه في هذه الوجوه إلا الملائكة

وخيار الناس) [٤] .

صلاح العمل:

يؤكد ابن حزم رحمه الله في غير ما موضع من كتبه على أن المفهوم الصحيح

للعمل لا يعود إلى العمل ذاته فحسب؛ بل إن توابعه ولوازمه وشروطه لها درجة

عظمى في الحكم على صلاحه أو فساده، وهو ينطلق كغيره من علماء التربية

الإسلامية في تحديد هذه النظرة الحكيمة للعمل من قاعدة الاهتمام بإصلاح النية بعد

صلاح العقيدة والمنهج قبل الشروع في أداء العمل، ومهما كان العمل بعيداً فإن

النية الصالحة تقرّبه، ومهما كان العمل قريباً فإن فساد النية يبعده.

الوصول إلى الإبداع:

كما يرى رحمه الله أن القائد لا يولد قائداً ولا المبدع مبدعاً كاملاً.. وأن المرة

الواحدة في طريق القيادة أو الإبداع لا تكفي، إنما لا بد من الكرّة تلو الكرة

واكتساب الخبرة بعد الخبرة، ولذا فإن حدوث الخطأ وتكرره في المراحل الأولى

أمر مألوف جِبِلّةً ولا يُذم صاحبه بحال، حتى تصبح القيادة فيما بعد ملكة ومهارة

مصقولة بكثرة التجارب والخبرات، وفي هذا يقول رحمه الله: (إن التجارب لا

تكون إلا بتكرار الحال مراراً كثيرة على صفة واحدة) .

أهمية الاستمرار:

وبالرغم من تأكيده رحمه الله على أهمية المحاولة، وضرورة اكتساب الخبرة

عبر التكرار في الأداء فإنه يحذر كذلك من إهمال تهذيب النفس أو إهمال المداومة

على تكرار التجارب، وأن ذلك يعد عائقاً من عوائق التربية ويؤدي إلى توقفها أو

ضياع الفائدة منها، وبهذا الصدد رفع صوته بالمقولة التي باتت مثلاً سائراً:

(إهمال ساعة يفسد رياضة سنة) ! [٥] .

إعداد القيادة ضرورة:

يؤكد ابن حزم على وجوب الاعتناء بالقادة والنوابغ في الأمة، ويرى أن

الاعتناء بهم كفيل بصلاح أمور المجموعة، وأن لكل عمل تقوم به المجموعة درجة

من الكمال توازي كمال ساستها وقادتها في الأخذ بمعايير القيادة السليمة، ويفرّق

رحمه الله بين صلاح الفرد أو فساده في ذاته وبين إصلاحه أو إفساده في إدارة

المجموعة؛ فتراه يؤكد في مواضع من كتبه أن المجموعة بغير قائد يقودها لا

يصلح لها حال، ولا يمكنها القيام بالأعمال العظيمة التي تقارب الكمال حتى ينتظم

عقدها تحت قائد يقودها ويدير شؤونها، وهذا القائد لا بد أن يُعَدّ بعناية لهذه المهمة

لتتكامل شخصيته وتحسن طباعه وتصرفاته؛ وهذا الإعداد المبكر يعد من الأمور

اللازمة للحكم على نجاحه في القيادة أو عدمه، وكذا في العملية التربوية والتنظيمية

للمجموعة بدون شتات أو تناقض أو اضطراب، ويوقفك رحمه الله أمام افتراضات

تقريبية لهذا المفهوم ليؤكد لك أهميته فيقول: (خطأ الواحد في تدبير الأمور خير من

صواب الجماعة التي لا يجمعها واحد؛ لأن خطأ الواحد في ذلك يُستدرك، وصواب

الجماعة يُضري أي: يعوّد ويُغري على استدامة الإهمال.. وفي ذلك الهلاك) [٦] .

فقه الاحتساب:

يقتحم رحمه الله علم الاجتماع ليستخرج قاعدة في بذل المعروف مفادها: أن

على من تصدّى للناس بدعوتهم أو بخدمتهم ومساعدتهم وبذل المعروف لهم ألاّ

ينتظر عاقبة بذله ومعروفه منهم؛ لأن ذلك عليه مدار تأليف القلوب والتأثير في

الناس، وبه اتقاء الشرور من خبث نفوسهم؛ وهنا يكمن الفرق بين التربية المادية

التي لا تؤمن إلا بالمصالح الوقتية والنتائج النفعية وبين التربية الإسلامية التي ترى

أن إسداء المعروف والإحسان للغير بدعوتهم لا بد أن يتجرّد من كونه عملاً

مشروطاً بنتائجه وعواقبه، وأن يجرّد ابتداءً وانتهاءً لله وحده، يقول رحمه الله:

(وابذل فضل مالك وجاهك لمن سألك أو لم يسألك، ولكل من احتاج إليك وأمكنك

نفعه وإن لم يعمدك بالرغبة ولا تُشعر نفسك انتظار مقارضة على ذلك من غير ربك

عز وجل، ولا تبنِ إلا على أن أول من أحسنت إليه أول مضرّ بك، وساعٍ عليك؛

فإن ذوي التراكيب الخبيثة يبغضون لشدة الحسد كل من أحسن إليهم إذا رأوه في

أعلى من أحوالهم) وهكذا الشأن في إعطاء الهبات والإعانات وإسداء النصيحة..

فكما أن المرء لا يشترط لأداء المعروف والإحسان انتظار الجزاء.. فهو كذلك لا بد

مُلْزَمٌ بأداء الفضل ابتداء، وآخذٌ بأكمل الأخلاق وأرفعها، وزاهد فيما عند الناس

راغب فيما عند الله. يقول رحمه الله: (ولا تنصح على شرط القبول، ولا تشفع

على شرط الإجابة، ولا تهب على شرط الإثابة، لكن على سبيل استعمال الفضل،

وتأدية ما عليك من النصيحة والشفاعة وبذل المعروف) .

الكمال البشري:

ينظر رحمه الله إلى الإنسان الكامل في فنه ومنهجه بمنظار آخر وهو دأبه في

الطلب والاستزادة والجد في تحصيل العلوم النافعة؛ إذ ليس الكمال محدوداً بشهادة

يحصلها الفرد لينقطع بها عن غيرها، كما أنه ليس مجرد مهارات محدودة يمكنه

تحصيلها ليكتفي بها عن مواصلة الطلب والبحث، ومتى رأيت القائد أو المربي أو

الداعية قانعاً بما هو عليه من علم أو دعوة أو مهارات قيادية فإنك لن تكون مجازفاً

إذا راهنت بإخفاقه بعد زمن ليس بالطويل، ولو عاين رحمه الله بعض أرباب

(الدوالّ) في هذا العصر وما آلوا إليه من خمول وكسل، وما أصبحت تدور عليه

اهتماماتهم وأهدافهم، ومستوى تفكيرهم لكانت أولى سهامه في هذا الباب موجهة

إليهم بالنقد والتعيير؛ إذ هم أوْلى بالتبكيت من المقلدة، أو مجتهدي المذاهب

ومتعصبيها! !

يقول رحمه الله: (الإنسان الكامل هو الذي لا ينفك طالب علم ما تردد في

رئتيه نفس) وذلك لأن طريق التربية وتهذيب السلوك طويل يبدأ مع الإنسان طفلاً

ثم يتدرّج به حتى الوفاة.

التأثير والتأثر:

الحياة تدور بين الأخذ والعطاء والسلب والإيجاب، وبين هذا وذاك يتوزع

الناس في أي زمان ومكان. والقائد أو الداعية الناجح مطالب قبل غيره أن يكون

عضواً عاملاً فعّالاً في مجتمعه، وأن يكون عنده إنتاج يحتاج إليه الناس ويفيدون

منه، كما أنه ينتفع بما عندهم كذلك من أمور الحياة. إن حب التعاون والتكامل

والسعي في إيصال الخير لهم وهدايتهم إلى الطريق الصحيح والتزام منهج الله تعالى

إن كل ذلك وغيره مجالات خصبة يمكن أن ينفع بها القائد أو المربي غيره،

وبدونها سيصبح خاملاً عالة على غيره في أموره الحياتية التي يحصل عليها، ولا

يملك شيئاً من العطاء أو النفع في المقابل.. وهذا الصنف من الخاملين هم الذين

يَعجب منهم ابن حزم رحمه الله: تخور قواهم وتضعف عزائمهم وهممهم؛ في حين

تجد أرباب الصناعات والحرف أعظم منهم خطراً وأكثر نفعاً فيقول: (إن من

العجب من يبقى في هذا العالم دون معاونة لنوعه على مصلحة. أما يرى الحرّاث

كيف يحرث له، والطحان يطحن له، والنساج ينسج له، والخياط يخيط له،

والجزار يجزر له، والبنّاء يبني له، وسائر الناس كل متولّ شغلاً له فيه مصلحة،

وبه إليه ضرورة؟ أفما يستحيي أن يكون عيالاً على كل العالم لا يعين هو أيضاً

بشيء من المصلحة؟ !) .

العلم.. التعليم.. التخصص:

يوجه ابن حزم رحمه الله إلى ضرورة الإلمام بعلم الشريعة وبأصول المعتقد

لكل قائد أو مبدع بالإضافة إلى إلمامه بتخصصه وسعة اطلاعه فيه. وتجده يعيب

بشدة ذلك المربي القدوة أو القائد الموجه أو المبدع الماهر الذي يفتقر للثقافة

الإسلامية العامة إن صح التعبير ولأصول الإسلام التي لا يُعذر أحد في الجهل بها،

ومن نظرته الخاصة في العلوم والفنون يحذّر رحمه الله من أن يحصر الإنسان نفسه

في معين تخصصه وفنه فحسب؛ لأنه متى ما جف نبع ذلك المعين أو ترحّل عنه

لأي طارئ أوشك أن يشابه صنوف الجهال على حد تعبيره وأن يقارب العامة

والدهماء. وفي هذه الوصية نصح ظاهر وغيرة واضحة، وبخاصة إذا علمنا أن

الدعاة والمربين والموجهين هم أول المعنيين بها؛ ذلك أن القدوة الذي ينظر إليه،

ويحتذى به لا بد أن يوطن نفسه أن تكون قامته أعلى من قامة من يقوم بتوجيههم

وتربيتهم وقيادتهم، لا قامة الطول المحسوس أو هيبة (التصنّع الكاذب) وإنما قامة

العلم والأخلاق والأدب، وحسن السياسة والتدبير، وسعة الاطلاع وكريم السجايا

والإلمام بواقع الحال!

ولذا تجد ابن حزم رحمه الله يؤكد في سبيل تحقيق ذلك على وجوب التأصيل

العلمي منذ الصغر وعلى التدرج في نيل العلوم واحداً تلو الآخر وهو مراده من

(لوازم التعلّم) ، والبدء به مرحلة مرحلة وفناً فناً، مبتدئاً بطبيعة الحال بإقامة

الحروف، ثم تعلّم اللغة، فحفظ القرآن، ثم مطالعة السنة، ثم اللغة والأدب والنحو

ليقيم لسانه.

ولتحصيل جواهر الثقافة والمعرفة يوصي بشيء من شعر الحكمة،

والرياضيات، وهندسة الفلك والشروع إلى علم التاريخ وتراجم الرجال للاعتبار،

وما لا يجوز جهله من علم الطب ومما يحفظ الصحة! بل إنك لا تجده يحصر حد

الطلب، ومفهومه على العلوم والفنون النظرية، وإنما يستحث على العمل والكسب

ومزاولة المهن أو الاتجار لتحصيل المال ولطلب الرزق، فيقول رحمه الله: (فإذا

بلغ المتعلّم هذا المبلغ من الثقافة العامة مما سبق ذكره فلا بد عليه أن ينصرف إلى

ما يحصّل به عيشه من صناعة أو تجارة أو زراعة أو تعليم، أو إذا شاء إلى

التخصص في علم من العلوم والتعمق فيه) وهذا من باب الزهد فيما عند الناس

ولئلا يكون الفرد عالة على غيره وبخاصة أرباب الدعوة والتربية. ومع تأكيده على

أهمية التخصص فيما بعد فإنه يؤكد كذلك على أهمية الاطلاع على مفاتيح العلوم

وفرائد الفنون.. ويحذّر من الذوبان في خبايا التخصص عبر الولوغ في مداخله

وشوارده التي ربما لم يفد منها ولم ينفع بها غيره في معترك الحياة بقوله: (ومن

اقتصر على علم واحد لم يطالع غيره أوشك أن يكون ضُحكة، وكان ما خفي عليه

من علمه الذي اقتصر عليه أكثر مما أدرك منه؛ لتعلّق العلوم بعضها ببعض) .

ولا يفوته رحمه الله أن يوجه أنظار من انقطعوا عن تعليم الناس وتوجيههم

وتربيتهم لعذر التحصيل أو لسبب الاستزادة من العلوم تاركين السواد سادرين في

جهلهم وغفلتهم فيقول: (ومن طلب الاحتواء على كل علم أوشك أن ينقطع وينحسر

ولا يحصل على شيء، وكان كالمحضر (المسرع) إلى غير غاية؛ إذ العمر يقصر

عن ذلك. وليأخذ من كل علم بنصيب مما به ضرورة إلى ما لا بد له منه، ثم

يعتمد العلم الذي يسبق فيه بطبعه وبقلبه وبحليته فيستكثر منه ما أمكنه) إلى آخر

كلامه رحمه الله في هذا الباب.

الفضائل ثمرة العلم:

وضابط تحصيل العلوم وتكميلها ما أمكن السبيل لذلك ألا يُفوّت علم الكتاب

والسنة، وأن يضرب فيهما بسهم؛ إذ فيهما الخير كله والفضائل كلها. والقاعدة في

ذلك يلخصها ابن حزم رحمه الله بقوله: (من جهل معرفة الفضائل فليعتمد على ما

أمر الله به ورسوله؛ فإنه يحتوي على جميع الفضائل) وعلى هذا يمكننا تفسير

موقفه المتشدد من المقلدة، وتحذيره من الجمود والتحجر وإغلاق بصائر العقل

وأنوار حكمته فيقول رحمه الله: (المقلّد راضٍ أن يغبن عقله، ولعله مع ذلك

يستعظم أن يغبن ماله فيخطئ في الوجهين معاً) .

العلم للعمل:

الواقع والمثال وجهان لعملة واحدة في حياة المسلم، وبخاصة في حياة أرباب

القيادة والدعوة والتربية. ويتمثل ذلك في عدم التناقض بين المعلومات والمفاهيم

النظرية وبين الواقع العملي الذي يعيشه الفرد ويمارسه. وتحذيراً من ذلك التناقض

في حياة المربين والقادة يؤكد رحمه الله على ضرورة العمل بالعلم، وعلى أهمية

التطبيق العملي للعلوم والتحلي بها ويذم تبعاً لذلك كل متكلّف علماً لا يفيد منه أو فناً

ليس له به حاجة غير الاستكثار والتشبع، فيقول رحمه الله: (من أخذ من كل علم

ما هو محتاج إليه أي ابتعد عن التكلّف والاستزادة التي لا طائل من ورائها،

واستعمل ما علم كما يجب، فلا أحد أفضل منه؛ لأنه حصل على عز النفس

وغناها في العاجل وعلى الفوز في الآجل) .

الإنصاف يحتاج إلى فراسة:

ومن خلال تجاربه في معترك الحياة يرشد رحمه الله كل من أخذ على نفسه

سياسة الناس وتربيتهم إلى ما سيتعرض له من تجارب تستوجب منه أن ينصب

لنفسه ميزاناً يحكم به بالقسط ويزن الأعمال والأقوال بالحق، فلا ينبهر بظواهر

الناس، ولا يأخذهم بالظنة أو الوهم.. وهذا مراده من قوله رحمه الله: (ينبغي

للعاقل ألا يحكم بما يبدو إليه من استرحام الباكي المتظلّم وتشكّيه، وشدة تلوّيه

وتقلّبه وبكائه) حتى قوله: (وهذا مكان ينبغي التثبت منه، ومغالبة ميل النفس جملة، ولا يميل المرء مع الصفة التي ذكرنا ولا عليها، ولكن يقصد الإنصاف لما

يوجبها الحق على السواء) .

يضيع من العمر قدر ما يضيع من الفرص:

ورديفُ التجارب في التكرار تتابعُ الفرص التي لا يمكن تعويضها، ولربما

تفاوت حجم الفرصة وعظيم قدرها من زمن لآخر ومن مكان لآخر؛ غير أن

الفرص جميعاً تشترك في كونها نادرة الوقوع، وثمينة الأثر إذا أحسن صاحبها

الإفادة منها، وكثيراً ما أرشد ابن حزم رحمه الله إلى وجوب استغلال هذه الفرص

والحذر من تضييعها، ويشير مراراً إلى كثرة الفرص التي تضيع على أولئك

العظماء والقادة والدعاة، وهو يؤكد لك باليقين أن (لكل شيء فائدة) ينبغي عدم

الذهول عنها، ويضرب مثلاً عجيباً يتعلق بنظرة المبدع والقائد لكل ما يحيط به،

وكيف يمكنه تحويل الخسائر الظاهرة إلى فرص سانحة لا تُعوّض، يقول رحمه الله: (لكل شيء فائدة؛ ولقد انتفعتُ بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، وهي أنه توقّدَ

طبْعي، واحتدمَ خاطري، وحمي فكري، وتهيّج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى

تواليف عظيمة المنفعة، ولولا استثارتهم ساكني واقتداحهم كامني ما انبعثت تلك

التواليف) .

نفسك غالية ... لا تبذلها إلا لله:

ومن فرائد هذه اللمحات عناية ابن حزم رحمه الله كغيره من علماء السلف

رحمهم الله جميعاً بتكوين الشخصية الإسلامية الفريدة عبر إذكاء روح العزة والثقة

بالله، وعدم الرضا بإذلال النفس أو بذلها في الحقير من الأعمال والفنون والمقاصد، وبعث الهمة إلى معالي الأمور وعظيمها؛ تزهيداً بالسفاسف والترهات التي تقتل

المواهب وتئد الطاقات والهمم، ولذا فأنت تجد أن إذكاء شعور العزة في النفس،

والثقة بعد الله بالطاقات والمواهب والملكات، وحسن التدبير وغيرها من الصفات

اللازمة لكل مبدع أو قائد أو مربّ تلح على ابن حزم رحمه الله وغيره من عظماء

التربية الإسلامية على تحذير من يتصدى لسياسة الناس وتوجيههم من بذل النفس أو

صرف ماء الوجه في أمر حقير أو متاع زائل يذهب بمكانتهم عند الناس؛ لأن

مقامهم عزيز ومعدنهم لا بد أن يكون ثميناً؛ فلا يحل مساومته بعرض رخيص مهما

كان، أو بمقصد حقير هو من مقاصد أولي الهمة الدنيا من الناس، فيقول رحمه الله: (لا تبذل نفسك إلا فيما هو أعلى منها، وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل،

وفي دعاء إلى الحق، وفي حماية الحريم، وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك

تعالى، وفي نصر مظلوم) ، ولهذا فإنّ حدّ (العاقل) في هذا المفهوم التربوي عنده

رحمه الله هو من: (لا يرضى لنفسه ثمناً إلا الجنة) [٧] .


(١) سير أعلام النبلاء، ١٨/٢٠١.
(٢) نحن بحاجة لتحديد مفهوم التربية من جديد وفق مصطلحات الشرع الذي لم ترد فيه هذه اللفظة إلا في معرض التربية البدنية في قوله تعالى على لسان فرعون لموسى: [أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً] [الشعراء: ١٨] ولم يذكر القرآن هذا المفهوم الذي نتداوله اليوم إلا بلفظ التزكية كما في قوله تعالى:
[يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنََا وَيُزَكِّيكُمْ] [البقرة: ١٥١] وقوله: [قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا] [الشمس: ٩] وغيرها من الآيات * نختلف مع الكاتب في هذا فقد ورد في تفسير قوله تعالى [وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِِيِّينَ]
[آل عمران: ٧٩] قول ابن عباس: (الربانيون الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره) ·.
(٣) على أنها محرمة بطبيعة الحال فالتفضيل هنا في ميزان المقارنة فحسب! ولا عبرة لنا بالمعنى الآخر.
(٤) مداواة النفوس، ص ٥٧.
(٥) المرجع السابق نفسه، ص ٨٢.
(٦) المرجع السابق نفسه، ص ٨٢.
(٧) يمكن الرجوع لاستخلاص مثل هذه اللمحات التربوية لهذا الإمام من مؤلفاته العديدة ومن كتب أخرى عنيت بهذا الشأن منها الدراسة التي قدمها الأستاذ/ سعيد الأفغاني إلى مكتب التربية العربي لدول الخليج التي قام المكتب بإخراجها مع دراسات أخرى في هذا الشأن تحت عنوان: من أعلام التربية الإسلامية، جزى الله القائمين على هذا المشروع خير الجزاء.