للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البيان الأدبي

الحداثة العربية الوجه الآخر

قراءة في كتاب (المرايا المحدبة)

د. حسين علي محمد

ظهر في العالم العربي في ربع القرن الأخير جيل جديد من النقاد يفيد من

إنجازات النقد الغربي المعاصر، ويتبناها ويبشر بها، مديراً ظهره إلى تراث النقد

العربي الذي أنجزته أمته خلال خمسة عشر قرناً، وبعض هؤلاء قد قطع بالفعل كل

صلة بالمنجز النقدي الأدبي العربي القديم والحديث ويهرف بما لا يعرف، ويكتب

نقداً غير مفهوم؛ سائراً في تيار الحداثة الغربي، ولا يكُفّ بعض هؤلاء وعلى

رأسهم جابر عصفور عن معاداة عقيدة الأمة، ولا يكف عن الكتابة عن النقل

والوحي اللذيْن يعوقان مشروع التجديد عنده [١] وفي مفهومه الذي يعني الانحياز

إلى إنجاز العقل والتنوير، وكأن الإسلام أو الوحي يُعادي العقل الحقيقي أو يدعو

للظلام! ! .

إن هذا التيار من النقد الحداثي يزعم كما تقول هدى وصفي أنه يريد (تأصيل

دراسات تُحاول تطوير منهج علمي في النقد، يبتعد عن الانطباعية التي تغرق فيها

الدراسات النقدية على وجه العموم) .

فهل نجح نقاد الحداثة الذين يملؤون الساحة النقدية ضجيجاً في دعواهم؟ وهل

قدّموا نقداً يكشف النص المنقودَ ويضيئه؟ وهل قدّموا نسخة نقدية عربية أصيلة

ليست مشوّهة تماماً أو (مستوردة) ؟

عن هذا الجيل من النقاد وعن هذه الظاهرة كتب الدكتور عبد العزيز حمودة

كتابه: (المرايا المحدبة: من البنيوية إلى التفكيك) الذي أصدرته سلسلة (عالم

المعرفة) الكويتية، في العدد (٢٣٢) ، الذي صدر في ذي الحجة ١٤١٨هـ إبريل

١٩٩٨م، في ٤٣٠ صفحة من القطع المتوسط.

ونتوقف هنا أمام قضيتين من أهم القضايا التي يطرحها هذا الكتاب، وهي:

النسخة العربية للحداثة، ولغتها النقدية. وإن كانت هذه الوقفة لا تغني عن قراءة

هذا الكتاب المهم، المثير للجدل [٢] .

الحداثة.. النسخة العربية:

يقول الدكتور عبد العزيز حمودة في نبرة لا تخلو من سخرية عن ظاهرة

الحداثة في النقد العربي الحديث التي غزتنا في ربع القرن الأخير: (وقفت منذ

السنوات الأولى من الثمانينيات على وجه التحديد أمام كتابات البنيويين العرب أو

الحداثيين العرب بإحساس ظل حتى وقت قريب مزيجاً بين الانبهار والشعور

بالعجز؛ الانبهار لأن مجموعة من الأكاديميين العرب استطاعوا في فترة الانكسار

التي تلت هزيمة الإنسان العربي في ١٩٦٧م (أن يُنقذوا شرف النقد العربي) على

حد تعبير الراحل لويس عوض في أحد اللقاءات الفكرية في أواخر الثمانينيات.

وهذه حقيقة لا مراء فيها، وكانت أبرز منابر النشاط النقدي الجديد هي مجلة

(فصول) التي فتحت أبوابها أمام المفكرين المصريين والعرب، فقدّموا الدراسات

الجادة والترجمات المتميزة عن البنيوية، لكن ذلك الانبهار كما قلت خالطه طوال

الوقت شعور عميق لم أفصح عنه حتى اليوم بالعجز: العجز عن التعامل مع هذه

الدراسات البنيوية وفهم أهدافها، بل فهم وظيفة النقد ذاته في ظل المصطلحات

النقدية المترجمة والمنقولة والمنحوتة والمحرّفة التي أغرقونا فيها لسنوات)

(ص ١٣) .

فهل كانت الحداثة العربية نسخة عربية حقّاً كما يردد كمال أبو ديب وكما

يقول جابر عصفور أحياناً: إن الحداثة العربية لها إنجازها البارز في المنجز

النقدي العالمي وأنهم أي نقادها ليسوا عالة على المنجز النقدي الغربي؟

لقد حاول النقد العربي الجديد (الحداثي) حسب قول إلياس خوري وشكري

عياد أن يكون رد فعل للضياع العربي وسقوط الحلم العربي وعجز الأمة المطلق

عن الحركة الفاعلة؛ وهو ادعاء لم يستطع النقد الحداثي أن يحققه.

ويرى المؤلف أن مشروع النقد الحداثي قد أخفق استنباته في التربة العربية؛

لأنه نتاج حضارة أخرى وبيئة أخرى، وقد استطاع أن يخلق أعداءه في بيئته

الأصلية (الغربية) ، فكيف بالبيئة العربية التي تختلف اختلافاً كلياً عن البيئة الغربية؟

يقول المؤلف: (المصطلح النقدي الحداثي إفراز للفلسفة الغربية خلال ثلاثمائة

عام من تطورها، وعلى رغم ذلك فإن الحداثة في قلب التربة الثقافية الغربية خلقت

أعداءها والرافضين لها، ولم يكن المصطلح النقدي الجديد أوفر حظاً؛ فهو يمثل

أزمة متجددة لا تفقد قوة دفعها في لحظة من اللحظات، فما بالنا بالنسخة العربية

التي نقلت النسخة الأخيرة للفكر الغربي دون أن تكون له مقدماته المنطقية،

واستخدمت مصطلحاً نقدياً يجمع بين غرابة النحت وغربة النقل إلى لغة جديدة)

(ص١١) .

ويزعم بعض الحداثيين مثل كمال أبو ديب أنه يقدم مذهباً عربياً أصيلاً في

البنيوية مستقلاً عن النسخة الغربية، ويفوق ما قدمه الفرنسيون، ويرى عبد العزيز

حمودة أن هذا الكلام ادعاء كبير، وأنه في أكثر من موقع في تحليله للشعر الجاهلي

يقترب من التحليل الغربي، ويضرب أمثلة على ذلك (ص١١، ١٢) .

وينقل المؤلف كثيراً من نصوص نقاد الحداثة ليبرز كما يقول (عملية التذبذب

المستمرة التي يعيشها هؤلاء النقاد، وصعوبة اتفاقهم أنفسهم على تحديد هوية

حداثتهم؛ فهم يتأرجحون بين ادعاء الأصالة وإنشاء حداثة عربية تختلف عن

الحداثة الغربية في مقولاتها ومصطلحها النقدي، في الوقت الذي تكشف فيه كتاباتهم

بصفة مستمرة عن تأثرهم الواضح إن لم يكن نقلهم الصريح عن الحداثة بمفهومها

الغربي، وهنا تكمن أزمة الحداثيين العرب في جوهرها) (ص٣٢) .

ويرى الدكتور عبد العزيز حمودة بحق أن (الحداثي العربي يفتقر إلى فلسفة

خاصة به؛ فهو يستعير المفاهيم النهائية لدى الآخرين، ويقتبس من المدارس

الفكرية الغربية، ويحاول في جهد توفيقي بالدرجة الأولى تقديم نسخة عربية خاصة

به، لكنها كلها عمليات اقتباس ونقل وترقيع وتوفيق، لا ترتبط بواقع ثقافي أصيل، ومن هنا تجيء الصورة النهائية مليئة بالثقوب والتناقضات) (بتصرف،

ص ٦٢، ٦٣) .

لغة مراوغة:

يقول الناقد المعروف وديع فلسطين وهو ناقد من نقاد الأصالة في حوار

أجريته معه في مجلة (الفيصل) (عدد أغسطس ١٩٩٨م) يقول عن وظيفة النقد:

(إن مهمة الناقد أن يتناول العمل الأدبي بنفس القدر من نطاسية الطبيب من حيث

تشخيص أوجه القصور فيه، والتنبيه إلى سبيل تداركها، وإظهار ما في العمل

الأدبي من خصائص يستقل بها، أو أنها منتحلة من عمل سواه، وفي يد الناقد دائماً

ميزان ذو كفتين: كفة لتبيان المزايا التي يتحلى بها العمل الأدبي، وكفة للتنبيه إلى

أوجه النقص التي يرتئيها في هذا العمل، وله بعد ذلك أن يخرج برأي جامع يضع

العمل الأدبي في المرتبة التي يستحقها: ارتفاعاً وانخفاضاً، وهنا تصبح وظيفة

الناقد أشبه بوظيفة القاضي الذي يوازن بين الدعاوي المنظورة أمامه، ثم يصدر

حكمه المتضمن رأيه الرجيح) .

لكن نقاد الحداثة ابتعدوا بمراحل عن هذا المفهوم الذي درجت عليه أجيال من

النقاد؛ فوراء دعوى (عملية النقد) كتبوا كلاماً غير مفهوم، ووضعوا رسوماً

توضيحية في دوائر ومثلثات ومربعات، وبعضهم وضع رموزاً (كأنهم يقلدون

علمي الهندسة والجبر ولكن شتان! !) وزادوا القارئ بعداً عن النص بدلاً من أن

يقربوه منه.

يقول المؤلف: (لقد أسست البنيوية شرعيتها على مشروع طموح لتحقيق

علمية النقد، فتبنت النموذج اللغوي في حماس شديد، وعلمية الدراسة اللغوية أمر

لا مراء فيه، لكن ماذا حقق البنيويون بعلميتهم؟ لقد كان الهدف منذ البداية هو

إنارة النص، لكن ذلك ما لم يتحقق، وبدلاً من مقاربة النص أو (إنارته) حجبته

اللغة النقدية المراوغة التي تلفت النظر إلى نفسها متذرعة بعلمية التفسير للنص

الأدبي ولم تُحقق المعنى ... لقد انشغلوا في حقيقة الأمر بآلية الدلالة، ونسوا ماهية

الدلالة، انهمكوا في تحديد الأنساق والأنظمة وكيف تعمل، وتجاهلوا ماذا يعني

النص) (ص ٩) .

ويقول المؤلف في مكان آخر عن إنجاز البنيويين بعد مناقشة ما كتبه كمال

أبوديب، وحكمت الخطيب، وهدى وصفي في نصوص دالة على لغتهم المراوغة وإنطاق النص بما ليس فيه، أو افتراض أشياء لم تخطر للمبدع على بال: (إن (المقاربة) البنيوية كما تجسدها معاملة البنيويين للنصوص الأدبية لا تُقارب النص في المقام الأول.

وفي نموذج كمال أبو ديب اختفى النص وراء محاولات (علمنة) معالجته.

ربما يكون تحليله علمياً؛ ولكنه لا يُساعد على فهم النص. لقد حجبته تماماً رسومه

ومعادلاته وطلاسمه، إضافة إلى ذلك كله ينطق النص بما ليس فيه ... ما يفعله

أبوديب هو إخفاء القصيدة أو حجبها وراء كم هائل من التحليل البنيوي الذي يرتدي مسوح العلمية) (ص٤٩، ٥٠) .

وهكذا يمكننا القول: إن نسخة الحداثة العربية ليست أصيلة مع محاولتها

التمسح بالجرجاني وغيره من النقاد اللغويين العرب القدامى، وأنها تلجأ إلى لغة

مراوغة، غير مفهومة تبعد القارئ عن النص أكثر مما تقربه منه، وأنها نسخة

تلفيقية أكثر ما يكون التلفيق والدجل، والله المستعان.


(١) انظر مقالاته الشهرية في مجلة (العربي) الكويتية، والأسبوعية في جريدة (الحياة) اللندنية.
(٢) قامت حول الكتاب معركة نقدية في صحيفة (أخبار الأدب) المصرية، استخدم فيها جابر عصفور لغة غير راقية في المناقشة على امتداد ثلاثة أعداد، وقد رد عليه المؤلف في ثلاثة أعداد أيضاً، ثم علق عليها كُتّاب من المهتمين بالقضية انظر الصحيفة، ديسمبر ١٩٩٨م يناير ١٩٩٩م.