للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أدب وتاريخ - قصة قصيرة

[الأشباح]

علي محمد

كانت عقارب الساعة متعبة متثاقلة، تقترب من الحادية عشرة مساءً، عندما

كان السيد حمدي يقطع الطريق المتلوي الذي تشخص إليه عيون الأشجار الكهلة

الكثيفة، زائغة مضطربة تحت أشعة ضوء القمر التي تدس أنفها في كل زاوية،

فاضحة أسرار الظلام مشكلة أخيلةً، جميلة حيناً، محيرة حيناً، مخيفة حيناً آخر،

بينما تأخذ النسمات الشمالية اللطيفة الباردة دورها في تحريك الأخيلة يمنة ويسرة،

وتعبث بالأوراق والأغصان، محدثة أصواتاً ترمز أو لا ترمز إلى شيء.

وكان الحديث الذي دار في تلك الأمسية عن الجن والعفاريت يملأ وعيه،

ويعشش بين ضلوعه، وما أن بدأت بعض الحصيات تتطاير بفعل الحركة المرنة

لمؤخرة حذائه الإسفنجي الصيفي حتى بدأ بإسقاط كل ما دار في تلك الأمسية على

محاوره الذاتية النفسية، معللاً كل حركة، ومؤولاً كل خيال، مستخدماً كل

معلوماته في الجغرافيا وعلم الاجتماع.

هذه الحركة الخشنة البطيئة المرعبة عند تلك الشجرة الضخمة، أقرب ما

تكون إلى حركة شمهورش ملك الجن الأحمر ... وهذه رمانة وهيلانة ... تحاولان

النزول بهدوء من فوق ذلك الحائط بحركة رشيقة أشبه بحركة اللصوص الظرفاء نَ

نَعم، إنهما يقتربان لكن؟ ! من هذا الذي يرمي علي الحصى من الخلف؟

- هل أضمروا لي شراً يا ترى؟

- ماذا يريدون؟

- هل سيقتادونني مثل اللجان الشعبية إلى حيث لا أدري؟

- لكنّ موقفي المعلن لم يكن ضدهم في الحديث الذي دار منذ قليل! ! أم.. أم؟ !

- كما أنني لم أسخر من بقرة سيدنا الشيخ علي! !

- وكيف أسخر منها وهى الكرامة الحية التي تناقلها أفاضل الناس، يوم أن

قالت قولتها المشهورة: " إما حراثة وإما حليب " حين أتعبها الشيخ علي بالحراثة؟

- لكن يا ترى هل يستطيعون أن يعلموا ما دار في خلدي؟ لا أعتقد ذلك.

فالله -عز وجل- يقول على لسانهم: [وأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ

أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً] ؟ !

- لكن أرى أنهم يريدون بي شراً ... كل الدلائل تشير إلى ذلك؟ !

- ماذا عملت يا ترى؟

- أكان علي أن أرد على زملائي الذين سخروا من حراس مقام بقرة سيدنا؟

- إنهم يقتربون! !

- ياإلهي! !

الحركة تزداد من هنا، وهذا الشيخ قادم إلي من هناك، آه الحصى بدأ يتكاثر

علي ... لقد أصبحت على مقربة من المقام.. علي أن أسرع ... علي أن أسرع

قبل أن يصيبني مكروه ...

- لكن يا ترى هل هؤلاء من الجن المؤمنين أم من الكافرين؟

- وإن كانوا من المؤمنين، فلماذا يضمرون لي الشر؟

- وإن كانوا من الكافرين، فما شأنهم بحراسة المقام؟

- وكيف يستعين سيدنا الشيخ علي بالجن؟ !

- ألم يسمع قول الله -عز وجل-: [وأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنسِ يَعُوذُونَ

بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً] ؟

- (ومع ازدياد حركته يزداد تطاير الحصى، وتزداد حركة أخيلة الأشجار،

وتزداد نبضات قلبه خوفاً وهلعاً) .

- يا إلهي! !

-كيف يقول لنا الأستاذ فهمان: أن كل هذه الأشياء خرافات نسجتها العجائز؟

- إن وجود الجن حقيقة، كما قال -عز وجل-: [وخَلَقَ الجَانَّ مِن مَّارِجٍ

مِّن نَّارٍ] ، وأنهم يروننا ولا نراهم حقيقة، كما قال -عز وجل- أيضاً: [إنَّهُ

يَرَاكُمْ هُوَ وقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ] .

- كما أن كلام الست درية خانم عن جارتها أم الهبرة عن الإسكافي أبي كارم

[أن رجلاً سافر إلى أحد الأودية هناك، فوجدوه مشلولاً، عاجزاً عن النطق من

كثرة ما ضربه الجن على رأسه] كلامٌ متصل السند، لا يعتريه شك، وبالتالي ...

وبالتالي..

- وبالتالي، فاسأل الله -عز وجل-: أن يحفظني من بطشهم هذه الليلة،

فإنه لا قوة لهم مع الله ولا حيلة، ألم يقل -عز وجل- على لسانهم: [وأَنَّا ظَنَنَّا أَن

لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ ولَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً] ؟

ولما تجاوز المقام بسلام، توقَّف توقُّف الحذر، يتلفت يمنةً ويسرةً، بل تسلق

أحد الجدران متشجعاً من حيث الظاهر، يكاد ينخلع قلبه هلعاً من الداخل، راقب

المكان بدقة، فلما لم يعد يرى أو يسمع شيئاً، تابع مسيره إلى البيت مسرعاً مطمئناً

بعض الشيء.

وفجأة ينتصب على يمين الطريق ماردٌ عملاق عجيب مخيف، يرتفع رأسه

فوق الأشجار، انهارت أقدام حمدي، وانعقد لسانه، وأيقن بالهلاك، ووجد نفسه -

بشكل لا إرادي- يركض ويركض، لاهثاً، مسرعاً، خائفاً مرتعداً. وكان كلما

أسرع يزداد عدد الحصى المتطاير، وتزداد سرعة الأخيلة، التي تعني هجوم

مرجانة وشمهورش وكل حراس المقام.

سقط على الأرض مراراً، تحامل على نفسه، ولم يشعر بالجروح في ركبتيه

ويديه، أخذ يصيح بشكل عفوي: يا رب ... يا رب ... سلِّم.. سلِّم، وصل إلى

البيت، تلفت عشرات المرات المتتالية، وراء، أمام، يمين، يسار، فتح باب

البيت أسرع من البصر، دلف إلى غرفته، اندس في الفراش، غطى وجهه

باللحاف، أخذ اللحاف يرتفع وينخفض متجاوباً مع حركة الصدر الخائف

المضطرب.

وكان كلما هدأ روعه، وأغفى إغفاءة قصيرة، هبَّ من نومه فزعاً، مرتعداً، ينادي هناك.. هناك. ...

وأحست الحاجة زهدية بالموقف دون أن تدري ما السبب، وبدأت تتعوذ بالله

من الشيطان الرجيم، وتقراً الفاتحة، والمعوذات، وأشعلت مبخرتها لتطرد الأرواح

الشريرة.

سلامتك يا ابني.. سلامتك يا حبيبي.

وفي الصباح كان على حمدي أن يقطع نفس الطريق ذاهباً إلى مدرسته،

ومشى حمدي بخطى خائفة حذرة، خاصة عندما اقترب من مكان الشبح الذي رآه

بالأمس.

- وفجأة؟ ! ! تسمَّر في مكانه. إنه هو ... نعم ... نعم.. إنه هو، هذا هو

رأسه، فوق تلك الشجرة، يا إلهي! ! ! ؟

- أنا أعلم أن الأشباح لا تظهر في النهار؟

- أنا إذاً مطلوب، مطلوب من دولة الأشباح، ليلاً أو نهاراً.

- لكن ماذا عملت؟

- إنه يتحرك ... يتحرك.

وانتبه زميله فائز، فسأله مستغرباً: ما بك يا حمدي؟ !

- ألا ترى الشبح؟

- وأي شبح؟

- ذلك المارد على تلك الشجرة.

- ذاك؟

- نعم ذاك.

- ذاك خيال وضعه جدي لإخافة العصافير حتى لا تأكل المشمش، وليس

لإخافة الشبان أمثالك.

- تداخل حمدي في بعضه خجلاً، وابتسم ابتسامة شاحبة اللون، وقال

بانكسار: إن جدك على ما يبدو صانع ماهر للتماثيل.